عمان الثقافي

38 عاما على اغتياله ناجي العلي .. رسم الرصاص

Untitledس
 
Untitledس


بداية الفكرة

«شو اللّي خلّاك ترسم الخيمة على شكل هرم.. يعني شو علاقة الخيمة بالهرم..؟!»

فردَّ العلي وهو يشير بيديه مستعينا بهما على شرح ما سيقول:

«فيه علاقات مش بس علاقة واحده.. شوف يا سيدي.. أولا احنا الفلسطينيين منتميز بالخيمة زي ما المصريين بيتميزوا بالهرم.. يعني لما تقول خيمة بتقول فلسطين.. ولما بتقول هرم بتقول مصر.. يعني همه ختمهم الهرم واحنا ختمنا الخيمة.. مزبوط هيك..؟»

وهزّ السّامع رأسه قبولا.. وتابع العلي يقول:

ثانيا: «الهرم والخيمة مكان للسكنى إلهم وإلنا بس همه يسكونوها في نوت الحياة يعني علامة للخلود، واحنا بنسكنها في حياة الموت يعني علامة الإصرار على العودة.. وللخلود كمان.. وحتى تظل قضيتنا حنره مثل الجمره.. ويوما ما إنضب هالخيمة ونلفها منضب فلسطين وبنلفها كمان..صح هيك.. ولا لأ..؟!»

وعندها أراد أن يبيّن ناجي العلي تفسيرا آخر للعلاقة بين الهرم والخيمة أضاف:

«بعدين يا أستاذ.. العلاقة بين الخيمة والهرم إنهم مش ممكن يكونوا إلا في الخلا.. وواضحين تحت السما مباشرة.. مثل الشجر.. هلّا قولي.. في حدا بيبني خيمه جوّه بيت.. ولّا هرم جوّه بيت.. ولّا بيزرع شجرة تحت سقيفة..؟!»

وختم قوله بثابت لا يتحرك:

«ما بيرجع فلسطين غير هالحجر..!

وما بيطلع هالحجر إلا من هالخيمه.. لا من قصور ولا منوعلالي.. وسلامه تسلّمك..!»

كان هذا مقتطفا من حوار بين الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني والرسّام الفلسطيني ناجي العلي ضمن مهرجان شعبي، أقيم في مخيم «عين الحلوة» في لبنان عام 1962، وكان على هامشه معرض فني في خيمة!

ومن هذا المقتطف؛ نقترب من فكر ناجي العلي وخطّه الوطني، وطريقته الثورية، ونهجه في الحياة الذي رسمه بنفسه.

رؤية وذاكرة

وبنظرة متفحصة؛ اختط «ناجي العلي» مسارا أشمل من مجرد كونه رساّما كاريكاتيريا يحرك ورقته وقلمه ليوصل صوت قضيته إلى الوسط العربي فقط، بل كانت رسوماته تتعدى النظرة الضيقة، فصارت الثيمة الحاضرة في فكره التكويني الإنساني الذي يعبر عن تصور شمولي، مما جعل هذا الأمر ترسيخا للتحولات الداخلية في شخصية العلي الفنية والفكرية والأدبية.

لقد جمع ناجي العلي في مسيرته الكثير من الإبداعات الإنسانية، وتنوّعت أفق إبداعه في مجالات متعددة، فلم يتوقف «كفلسطيني» لعرض المأساة الفلسطينية فقط، أو داخل محيطه العربي، بل كان يرى العالم في فكره بطريقته الخاصة، وتحوّل إلى ذاكرة تؤسس للأجيال أرشيفا متاحا، والتزاما منه بإضاءة العقل فيما غاب أو توارى خلف المُشاهد من الأحداث.

لقد تميز الفن الذي قدّمه ناجي العلي باتساع الفكرة، فقد رُسمت للانضمام إلى الحال الشمولي للقضايا المختلفة وابتعدت عن آنية الحدث، ولهذا نرى أن إنتاجه يعاصر عقودا من الزمن بذات الحال المتكرر حدوثا سواء أكان حدوثا مقترب التطابق أو ملاصقا له، مانحا للحال توصيفا دقيقا يمنح بعضا من تفسير الحال، وبالتالي المساهمة في عملية التنوير الفني والذي من خلاله يواصل عمله في إسناد الفكر والأدب والثقافة، وهذا ما أعطى القدرة لتجربته التجدد المستحق النابع من الصدق الثوري، ووصف الصدق بأنه «ثوري» ليس إسقاطا لموضع حال متذبذب، بل هو سيرورة شخصية تعرف سر العلاقات الإنسانية المتنوعة بين الإطار الضيق والانفتاح للإطار الإنساني العام.

رسالة إبداعية

اتسمت لوحات ناجي العلي بوظيفة «تأمين الخيال» وهذا التأمين جعل من لوحاته تأخذ بعدا آخر كوظيفة توجيهية وإرشادية، ولهذا لم يكن القارئ بكافة أنواعه ينظر إلى إنتاجه الفني على أنه إنتاج لمجرد التوصيف فقط.

لقد كان ناجي العلي يكتب في لوحاته بعقل المفكر ورهافة الشاعر وصوت المناضل، يشرح الحالة الموجودة، يبين إيجابياتها وسلبياتها، ويُسهم في التمهيد لمنفذ آمن قابل للتنفيذ، فلم يكن مجرد منتقد فقط، على الرغم من أن هذا النمط كان يسبب له الكثير من المتاعب من أطراف متعددة، إلا أنه كان يكتسب مصداقية بفعل عمق رسالته الشاملة التي تتميز -في اعتقادي- بشيء مختلف عن غيرها من التجارب الإبداعية من خلال الرؤية الواضحة (الحق والعدل) والبوصلة الثابتة (فلسطين والحرية)، مما أنتج سؤالا كبيرا:

كيف يُثني على عمل أو شخصية ما، ثم يهاجمه إن خالف رؤيته؟

وهذا الأمر ذاته الذي جعله يبتعد عن «الشخصنة»، ويُبوتق مساره في الثوابت والمفاهيم الثورية.

لقد أحاط ناجي العلي لوحاته بمحاور عدة، ابتداء من محور الحالة الفلسطينية ومرورا بحالات المحيط وانتهاء بالمحور الفكري العالمي، فمن خلاله قرأه العالم وشاهده بلغاته، مما جعله لاعبا مهما في عملية إنتاج الوعي العربي من خلال انتقالاته المتعددة ما بين اهتمامات الأحوال وغيرها، ومساهمة في إيجاد موطأ قدم في التنظير العالمي للوقع عبر الفن.

ولم يقتصر إنتاج الوعي بعرض لوحاته وبعض التلميحات الكتابية التوجيهية، بل تعدى ذلك إلى تفعيل الإدراك العقلي للمتلقي نحو تأمل اللوحة ومن ثم توجيه الاحتمال الإدراكي إلى حيث يأخذه التفكير، لذا فكثير من لوحات ناجي العلي كانت موجهة لتبيان حال ما في دولة ما، كان هناك متلق آخر في مكان آخر يعتبر تلك الرؤية تفسيرية لحال وطنه! وهذا ما جعل فنّه حاضرا في تركيبة الإنسان العربي.

حنظلة

رأى ناجي العلي أن فن الكاريكاتير يحتاج إلى شكل مستدام يكون «علامة مسجلة»، فكان «حنظلة» وحنظلة هذا صبي فلسطيني الهوية، ظهر في لوحاته، فوُسمت فلسفته في شخصية حنظلة.. بوصلته فلسطين وفقط.. رآه القارئ العربي بوجهه عام 1968 ثم غاب عنا ذلك الوجه، حيث قال عنه ناجي العلي:

«هوه مش داير ظهره للقارئ.. هو إجه ووقف.. ووجهه لفلسطين قدامه.. مش إلنا.. هو شو خصّه.. إجه ووقف.. والقارئ هوه اللي إجه ووقف وراه مش قدامه».

وإزاء هذا التوضيح للقارئ، عُلم لماذا يقف «حنظله» وشكل وقفته ويداه خلف ظهره!

لم يترك ناجي العلي شاردة أو واردة من قضايا المواطن العربي بكل مكوناته إلا وجعلها محط أنظار العالم من خلال لوحاته الكاريكاتيرية، وهو يعلم أن الانخراط في هموم المواطن هو سلاح ذو حدين؛ فالأول سيسهم في بلورة روح الفكرة -الاحتجاج على الأوضاع المعيشية- المطروحة من خلال لوحة، وفي مقابل ذلك ينتج تأزما في العلاقة بينه وبين من ينتقد، وهذا ما عرضه للمضايقات، لأن نمط شخصية العلي كان يعترف بلونيين في طرحه (إما أبيض وإما أسود)!

وبهذين اللونيين المتناقضين سطع نجمه، وظلّ محلقا ينتقل بين أفكار الكل، ولهذا ابتعد في إنتاجه عن المهادنة في أماكن وجوده، فقد كان ينتقد بمهنية الأوضاع في البلد المقيم فيه، وفي هذا تأكيد على حرية الذات في شخصية العلي، حيث انتزع هذه الحرية بفعل الكاريزما التي كان يتمتع بها، وصبّ هذه الكاريزما في شخصية «حنظلة»، والتي بدورها أعطته مجالا واسعا في لقاءاته الشخصية والصحفية أن يقول ما يريد، دون أن يكون من باب التبربر مثلا!

حنظلة في عيون الكتّاب

ولأن شخصية «حنظلة» كانت مثمرة وناضجة في فكرتها؛ استرعى ذلك اهتمام الكثير من الكتّاب، فكتبوا عن «حنظلة» ومنهم الشاعر سميح القاسم حيث قال:

حنظلة!

كم هو شرير وفاضح

هذا الولد حنظلة

كم هو قاس هذا الولد

نقرع طبولنا في مواكب الملوك والرؤساء

فيفقأ طبولنا بقطرة حبر

شرير وقاس أنت يا حنظلة

لأنك جميل في زمن القبح

صادق في جامعة الكذب

جريء في عصر الجبناء

أمين في عهد الخونة

طويل في مزرعة المسخوطين

نبيل في بورصة الارتزاق والارتداد.

وكأن «حنظلة» يتحرش في ذائقة الكتّاب والشعراء خاصة، فيعاود سميح القاسم ذكره غير مرة بقوله:

كم هو شرير وقاس

هذا الولد حنظلة

إنه يقول الحقيقة

يرى ما لا نرى فيمسح الأرض بعزتنا الكاذبة

ويشد نعال آذاننا بلا رحمة:

كم أنتم ساقطون

كم أنتم تافهون

اخرجوا من خلف أكاذيبكم

ويراه الروائي الفلسطيني رشاد أبو شاور بعين حبره فيقول:

هذا هو حنظلة في قرى فلسطين، على حيطان الوطن العربي، يخرج من تحت الخراب، من الدخان، من النسيان أكثر جسارة وأبهى. لم يمت حنظلة من الجوع، صمد في المخيم على كسرة خبز وأكل مما تنبت الأرض. لم يمت في المنافي فمال المنافي لم يكن هاجسه، ولذا أدار ظهره دائما للترف، وولى وجهه إلى فلسطين.

واستحق تحية الشاعرة سلوى النعيمي:

أعشق حنظلة

أحييه كل صباح

وأرسم على امتداد ذراعيه قبلة

الرمز عند ناجي العلي

ليس غريبا أن يكون الرمز حاضرا في الكتابة، إلا أن العلي جعل الرمز في الصورة واللوحة، مع اختلاف وتعدد الموضوعات المشار إليها، مما يوجب امتلاك ملكة توقظ الفكر، وتحافظ على الرمز من الاهتراء بتكراره، وهذا ما امتلكه العلي، حيث نوّع في استخدامه حتى وصل إلى إكسابه الفعل الملحمي، مما منح لإنتاجه زخما، أيقظ الكثير من مكونات عمله في صورة تجديد لفكرة اللوحة عبر ضخ احتمالات تفسيرية جديدة.

لقد كتب ناجي العلي جميع آرائه، وعالج قضايا مختلفة بريشته، وقد كان هذا نوعا من التأصيل الذي خرج عن نمط الاعتياد في فن الكاريكاتير، وسبب إحراجا علنيا للكثير ممن يضيق بهم إنتاج العلي، وقد كان لكل عمل جاد ومثمر ضريبة يجب دفعها، وقد كان.

نقد لاذع أم مصوّب للأخطاء.

لا يمكن إنكار أن تفاعل ناجي العلي مع الأحداث والتحركات على الأصعدة المختلفة، كان محفزا له على الاستمرارية في نهجه وطريقته، لم يكن المتذبذب في نهجه، عمل على تغيير شكلي لطريقته، وأجاد فهم اللعبة المحلية والعربية والدولية، لذا كانت خطواته تتسم بالتصاعدية في صعيد ما، وترتيبية على صعيد آخر، لم يكن لناجي العلي مصلحة مع مؤسسة أو نظام ما، لذا فلم يكن في حاجة إلى تنازل كي يظل في مكان مريح، فمن الكويت لبيروت مرارا فإلى لندن، أي أنه كان رحّالا ليس لحبه للسفر، بل لتجربته الصعبة ضمن سيرورته الفكرية وطريقته الفنية في رسمه خطه المتعارف عليه.

لم يكن محتاجا إلى الكتابة الصحفية لإبراز هويته الحقيقية ورأيه المباشر، بل كان يطلق ما يشبه الرصاص في وجه من يرى أنه حاد عن الطريق، الطريق الذي وصوله بوصول قضية فلسطين إلى بر الأمان، لذا فقد كان يرى أن دوره ما زال ينتظره الكثير والكثير، وكأنه يلاحق الأزمنة والأمكنة في سبيل ما يريد.

لقد برع ناجي العلي في إتقان إيصال الفكرة عبر اللقاءات الصحفية، لم يكن يتبجح باللغة العربية الفصحى، لقد كان يتكلم باللهجة الفلسطينية الخالصة (القح) بالمعنى الذي يفهمه هو، وإن كان المحاور له غير فلسطيني، فأيا كانت اللهجة كان الرد فلسطينيا خالصا!

ويمكن أن نرجع هذا إلى حضور الخيمة في شخصيته وتجربته الشخصية والإبداعية، فهل رأينا يوما خيمة تتحدث بلغة فصحى! وهذا ليس إبخاسا لدور اللغة العربية في إكساب الحضور اللغوي في مواجهة الرواية الأخرى، فقد كان قرار ناجي العلي استعمال اللهجة الفلسطينية إنتاجا شخصيا واستحضارا لها في وجدان الأمة العربية، واحتضانا لأساس وجداني للشعب الفلسطيني.

حضور الغياب

وما نراه اليوم من حضور للرسّام الفلسطيني ناجي العلي لأحداث الحرب على غزة، ومنها الخيمة الرمز إلا تأكيدا على النهج الحقيقي لرسالته التي جعلت المعاناة الفلسطينية على سلم أولوياته.

ناجي العلي حفظ وطنه عن ظهر قلب، وهو بعيد عنه، لكن أفكاره ترسخت في ضمير كل حر وشريف.

منذ أن عاش في خيمة صغيرة بالقرب من مخيم شاتيلا حيث عمل بورشة ميكانيكا السيارات مدة14ساعة، كانت الوجبة الوحيدة التي تسد فراغ معدته، تناوب ما بين الفول أو الفلافل أو الحمص.

رحل ناجي العلي جسدا، وما زالت رسوماته تحكي الكثير عن الوطن والذاكرة.. وعن الخيمة.