الكائن المُفتت !
الاحد / 20 / صفر / 1446 هـ - 20:05 - الاحد 25 أغسطس 2024 20:05
عندما خرج أجدادنا من «حجورهم» ليسكنوا في منطقة ساحلية في الباطنة لأسباب تتعلق بمشقة العيش وشظفه آنذاك، أداروا ظهور بيوتهم للبحر ولم يُقابلوه، لم يخرجوا في نزهة إليه في الصباحات الشتوية. يذهبون متعجلين لملاقاة شِراجهم وأوديتهم كلما سقط المطر وكأنّهم في حالة إنكار عميقة له. لا يراقبون الشروق جواره، كما لا يلفت انتباههم الغروب المُذهل فيه، فثمّة ما يجعلهم مُنحازين لجبالهم البعيدة التي نزحوا منها.
تذكرتُ حنين أجدادي ذاك، عندما سمعتُ قصّة مغايرة في حديث جانبي، فقد أخبرني أحدهم عن أمّه التي اُنتزعت من جذرها المجاور للبحر، لتقابل صحراء جرداء - ضمن مشروع طريق الباطنة الساحلي- أخبرني كيف أنّ ذلك سبّب لها اكتئابًا، فقد فقدت بيوت أحبتها وجيرانها الذين جاورتهم لعقود. يأخذها ابنها كلما تسنت له الفرصة في جولة جوار البحر، فلا تكف دموعها عن التدفق والتذكر.
ورغم الأبعاد الكثيرة التي طالتها العشوائية -في قصص صرف التعويض- فإنّ الذي يعنينا هو ذلك الفطام الذي يُورث الأذى، ويبترُ نقطة الاتصال الأولى والحميمية بالديار.
شحوب البشر عند ترك أمكنتهم شحوب أزلي، منذ أن بكى الشعراء القُدامى على أطلالهم، وهذا الشحوب قد لا يدعو لانكفاء المشروعات التنموية، ولكن للتمعن قليلا في روح القرى والمدن وتحولاتها، لجعلها أكثر إنسانية وأكثر رقة في فهم احتياجات الناس، فهم كالأشجار لكل شجرة تربتها ومناخها الخاص بها. يأخذُ الإنسان من سمات مكانه، فالحياة في الحقول تنتج إنسانًا مُغايرًا لذاك الذي عاش في جبال صلدة أو رمال تذروها الرياح أو لحياة إنسان مجاور للبحر. يتجاوز الأمر سمات الفرد الخارجية ليتمثل أنماط تفكيره ونظرته للكون والحياة، وهذا ما لم يؤخذ بعين الاعتبار!
ماذا أيضا عن خزان الذكريات الذي لا يُمكن استدعاؤه إلا مرتبطًا بمكان ما، ولذا يغدو الأمر شديد التعقيد بالنسبة لمن شاخوا في أماكنهم ثمّ جاء من يقتلعهم كما تقتلع العشبة الضارة من حقل، لتُلقى في بيئة لا تمت بصلة لحياتها الأولى!
لقد نُهشت مسرات أولئك الذين نما إيقاع حياتهم على ترددات الموج ورائحة السردين المجفف ورطوبة الرمل بمحاراته اللانهائية. ماذا أيضا عن مجتمعات الصيادين؟ فتغير المهن لا ينعكس على جوانب اقتصادية وحسب وإنّما على بُنى نفسية أشد تعقيدًا، فأرواحهم التي ارتبطت بأرواح البحارة القدامى، تحولت للعيش في السيوح، تحولت من فتنة الزرقة إلى اللون البني الباهت!
والسؤال: لماذا لم تُبن أحياء سكنية متكاملة تضمن استمرار النسيج الاجتماعي على نحو لا يُحدث تمزقات موجعة كهذه؟ لماذا لم يُدرس ضجيج الواقعية النفسية قبل أن تدرس الجغرافيا الصامتة! فالتجول في المكان الذي لم يعد يخصك لصالح مشروعات جديدة ستنهض، يؤلم المتعلقين بخيط شفاف من الذكريات عندما تتكسر انتماءاتهم على زجاج البعد والمسافة!
تهميش مشاعر الإنسان وارتباطه الوثيق بمكانه، يعني تهميش قيمة انتمائه الجغرافي. فالمال «التعويض» لن يُعيد الأحاسيس ولن يعيد النافذة التي تشرع على امتداد سحر البحر الخلاب، لن يعيد البساط الذي يُشرب فوقه القهوة بينما تشخص الأبصار في قرص الشمس المتواري في حضن التخوم. لن يُعيد القوارب والشِباك والرزق في بطون القوارب.
الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار يؤكد دومًا أنّ الإنسان خارج المكان الذي مارس فيه أحلام يقظته وتشكل خياله يغدو كائنًا مُفتتًا، فالبيت هو ركننا الأصيل في العالم المتشظي.
المكان، البيت، الحارة، أكثر حيوية من ظننا بأنّها أشياء جامدة، فالأمكنة تسيل في صميم حياتنا حتى أنّنا نعجز عن تذكر أحداث قصصنا الأولى دون أن يبدو المكان شديد السماكة فيها، دون أن يبدو المكان خلفية مُبهرة لشلال التداعيات المُنهمرة من نهر لا وعينا المتدفق.
تذكرتُ حنين أجدادي ذاك، عندما سمعتُ قصّة مغايرة في حديث جانبي، فقد أخبرني أحدهم عن أمّه التي اُنتزعت من جذرها المجاور للبحر، لتقابل صحراء جرداء - ضمن مشروع طريق الباطنة الساحلي- أخبرني كيف أنّ ذلك سبّب لها اكتئابًا، فقد فقدت بيوت أحبتها وجيرانها الذين جاورتهم لعقود. يأخذها ابنها كلما تسنت له الفرصة في جولة جوار البحر، فلا تكف دموعها عن التدفق والتذكر.
ورغم الأبعاد الكثيرة التي طالتها العشوائية -في قصص صرف التعويض- فإنّ الذي يعنينا هو ذلك الفطام الذي يُورث الأذى، ويبترُ نقطة الاتصال الأولى والحميمية بالديار.
شحوب البشر عند ترك أمكنتهم شحوب أزلي، منذ أن بكى الشعراء القُدامى على أطلالهم، وهذا الشحوب قد لا يدعو لانكفاء المشروعات التنموية، ولكن للتمعن قليلا في روح القرى والمدن وتحولاتها، لجعلها أكثر إنسانية وأكثر رقة في فهم احتياجات الناس، فهم كالأشجار لكل شجرة تربتها ومناخها الخاص بها. يأخذُ الإنسان من سمات مكانه، فالحياة في الحقول تنتج إنسانًا مُغايرًا لذاك الذي عاش في جبال صلدة أو رمال تذروها الرياح أو لحياة إنسان مجاور للبحر. يتجاوز الأمر سمات الفرد الخارجية ليتمثل أنماط تفكيره ونظرته للكون والحياة، وهذا ما لم يؤخذ بعين الاعتبار!
ماذا أيضا عن خزان الذكريات الذي لا يُمكن استدعاؤه إلا مرتبطًا بمكان ما، ولذا يغدو الأمر شديد التعقيد بالنسبة لمن شاخوا في أماكنهم ثمّ جاء من يقتلعهم كما تقتلع العشبة الضارة من حقل، لتُلقى في بيئة لا تمت بصلة لحياتها الأولى!
لقد نُهشت مسرات أولئك الذين نما إيقاع حياتهم على ترددات الموج ورائحة السردين المجفف ورطوبة الرمل بمحاراته اللانهائية. ماذا أيضا عن مجتمعات الصيادين؟ فتغير المهن لا ينعكس على جوانب اقتصادية وحسب وإنّما على بُنى نفسية أشد تعقيدًا، فأرواحهم التي ارتبطت بأرواح البحارة القدامى، تحولت للعيش في السيوح، تحولت من فتنة الزرقة إلى اللون البني الباهت!
والسؤال: لماذا لم تُبن أحياء سكنية متكاملة تضمن استمرار النسيج الاجتماعي على نحو لا يُحدث تمزقات موجعة كهذه؟ لماذا لم يُدرس ضجيج الواقعية النفسية قبل أن تدرس الجغرافيا الصامتة! فالتجول في المكان الذي لم يعد يخصك لصالح مشروعات جديدة ستنهض، يؤلم المتعلقين بخيط شفاف من الذكريات عندما تتكسر انتماءاتهم على زجاج البعد والمسافة!
تهميش مشاعر الإنسان وارتباطه الوثيق بمكانه، يعني تهميش قيمة انتمائه الجغرافي. فالمال «التعويض» لن يُعيد الأحاسيس ولن يعيد النافذة التي تشرع على امتداد سحر البحر الخلاب، لن يعيد البساط الذي يُشرب فوقه القهوة بينما تشخص الأبصار في قرص الشمس المتواري في حضن التخوم. لن يُعيد القوارب والشِباك والرزق في بطون القوارب.
الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار يؤكد دومًا أنّ الإنسان خارج المكان الذي مارس فيه أحلام يقظته وتشكل خياله يغدو كائنًا مُفتتًا، فالبيت هو ركننا الأصيل في العالم المتشظي.
المكان، البيت، الحارة، أكثر حيوية من ظننا بأنّها أشياء جامدة، فالأمكنة تسيل في صميم حياتنا حتى أنّنا نعجز عن تذكر أحداث قصصنا الأولى دون أن يبدو المكان شديد السماكة فيها، دون أن يبدو المكان خلفية مُبهرة لشلال التداعيات المُنهمرة من نهر لا وعينا المتدفق.