أفكار وآراء

فـي نمط تـكـوين المجال السّياسـي

اكتسب تـكوين المجال السياسـي العربي حـديث النـشأة طـابعـا خاصـا استمـر يفرض أحكامـه وكأنـه سمـت «أصيـل» في ذلك التـكوين، واقـتـرنت بدايـات عمليـة التـكـوين ذاك بالحقـبة الاستعماريـة التي شهـدت على إدارة سياسيـة أجنبـيـة مخـتـلفـة عما كان معـهـودا من أساليب في الحكـم.

لم يكـن الاستعمار قـد أحـدث نظامـا سياسيـا جـديدا (امتـدادا لنظامـه السياسي) في البلاد العربيـة التي احتـلـتها قـواتـه وأقام فيها سلطـة كـولونياليـة، وإنـما أنشأ إدارة سياسيـة أشرف عليها موظـفون مدنيـون أوروبيـون استـقـدمهم لهذا الغـرض. تلك كانت نقطـة بدايـة التحديث الإداري والسياسي في البلدان العربية الموطوءة أراضيـها. وهـو سـلك المعهـود والمدروج عليه من أساليـب التـنظيـم العـقلاني في دول أوروبا نفسها، لكـنـه ما ذهـب بعيـدا في تحـويل البنيات والعلاقـات إلى الحـد الذي يقيم فيه نسخة جديدة من النظـام السياسـي الأوروبي الحديث في المستعمرات، أو أن يعيد إنتاجه فيها، بل اكتـفى بتحـديث مـس السطـوح والقـشور (الإدارة مـثـلا)، في الوقت عينـه الذي ما قـاد فيه ذلك التحديث إلى تقـويض تقاليـد السياسة والسـلطة وأبـنـيـتهـا في تلك المجتـمعات، وإنـما أبـقى عليها مثـلما كانت وتـعايـش معـها، بـل أعـاد إنتاجـها بما هي مـورد مـن مـوارد مشـروعـه للسيـطرة والإخضاع.

ذلك كان أول عـهـد البلاد العربيـة بتحديـث مس بـنيـان الدولـة فيها وأحـدث فيه تعـديلا هـو الأول من نـوعه في تاريخها. إنـه التـعديل الذي أضاف إليها الأدوات والأساليب من دون أن يصادر منها المضمـون الذي استمـر يجـدد نفسـه متـوسـلا طـاقـة جديدة تـزود بها من عمليـة التحـديث تلك، وما إن جـلا الأجنـبـي وقـواتـه العسكريـة وإدارتـه ومستوطـنـوه عن البلاد العربيـة فنالت هـذه استقـلالها، حتـى وجـدت الأخيرة نفسـها تـرث نظام إدارة استـعماريا عصريا جـنبا إلى جنب مع النـظام السياسـي القـديم الذي استـعاد سلطانـه على الدولـة والمجتمع بعد انقطـاع اضطـراري.

ولقـد قضـت المصلحـة بأن يقـع الإبـقاء على النـظام الإداري والسياسـي الحـديث، المـوروث عن الاستعمار، وعـدم المساس بـه لما في ذلك من كبير منفعـة ليـجد نفسـه متجاورا، في الآن عيـنه، مع النظام القـديم وكأنـهـما نظـام واحـد! وذلك بالذات ما وقـع للنـظام الاقتصادي الحديـث، الذي تـولـد من عمليـات الرسملة وتحـديث البنى الإنتاجيـة، حين وجـد نفسـه - هـو أيضا - متعايـشا مع نـظام إنـتاج تـقليدي قبل - رأسمالـي ومتـآلفا معه، حتى من غـير تـناقـض، وكأنـهما نـظام إنتاجـي واحـد.

يتعـلق الأمـر في هذا، إذن، بأزمـة عميقـة في تـكوين المجال السياسـي العربي المظهـر الصارخ لها هـو خروج ذلك المجال عن أي نـموذج سياسـي من النـماذج الموصوفة في النـظريـة السياسيـة؛ فـلا هـو نمـوذج تـقـليدي صـاف بحيث يـنسب إلى دول ما قبل العصر الحديث، ولا هو نموذج سياسي حديث صاف بحيث يـنسب إلى نظـام الدولـة الوطنـيـة الحديثـة. إنـه - وهـذا هـو الأنكـى في الموضوع - مـزيـج من سمات النظاميـن مـعا، على نحـو يبـدو معه وكأنـه نظـام مهـجـن: يـعـثـر فيه كـل على ضالـته وينـتصـر بـه لمقالـتـه؛ مـن يبـغي الأصالة ويحرص على التـمسـك بها، ومـن يشايـع الحداثـة فلا يكـف عن الدعـوة إليها والدفـاع عنها. ومع أن مضمون النظـام الدولـي التـقليدي هو الذي ما برح يعيد إنتاج نفسـه في نظـام الدولة اليوم من موقع السيادة والسيطـرة، إلا أنه يتعسـر على التحليل، في الكثير من الأحيان، أن يـفـك خيوط الاشتـباك بين التـقليد والتـحديث في نظام اشتغال Fonctionnement هذا المجال السياسـي لشـدة تـداخـلهما على أن الحقيقة التي لا تـقـبل التجاهـل، هنا، هي أن المضمـون التـقليـدي للسلطـة ذاك ما نجح في الصمـود والاستمرار والتجـدد إلا لأنـه عميـق الجـذور في بنية الدولـة، وبنـيوي غيـر طـارئ وهذا ما يثيـر شـكـا في مدى صلابـة التـحديث السياسـي ونجاعـة عمليـاته الجراحيـة المجـراة على النـظام التقـليدي منذ الحقبـة الكـولونياليـة؛ مثـلما يطرح استفـهاما حـول ما إذا كانت آلياتـه ستقـود، حتمـا، إلى ضمـور التـقليـد وانتـصـار التحديث أم أن الأفـق مـنسـد أمام هـذا الإمكـان!

والحـق أن البـلاد العربيـة تـتـفاوت في ما بيـنها على صعيـد تغـلغـل قيـم كـل من النظـاميـن القـديم والحـديث في مجالها السياسـي، ومـرد التـفاوت ذاك إلى عـوامـل عـدة، منها مدى زمـن التحديث الذي وقـع على بنياتها السياسيـة ومدى مساحتـه التي طالها؛ ومنها مدى ثـقـل مواريـث الدولـة التـقليديـة في هذا البلـد العربـي وذاك؛ ثـم منها نـوع النـخب السياسيـة التي تعـاقبت على السلطـة ونـوع البرامـج السياسيـة التي حملـتـها، ثـم طفـقت تطبـق منها ما أرادت تطبيـقـه وما استطاعـت تطبيـقه. هذه ملاحظـة مصروفـة إلى التـنبيـه على ما في التـعميم من المغبـة ومن إساءة الفـهم والإدراك. مع ذلك، ليس يمنعـنا هذا الاستـدراك من القـول إن الشـطر الأعظـم من السياسة ما زال يـصنـع في البـلاد العربيـة في نطـاق المؤسسات التـقـليديـة على الرغـم من وجـود مؤسسات حديثـة، مثـل الحكـومات والبرلمـانـات والأحـزاب والمنظـمات المدنيـة؛ وفي المقابـل ما زال المجتمـع السياسـي الحديث يتعايش مع سلطان التـقليـد تعايشـا مـديدا لا صـدام فيه، وأحيـانـا، ما زال يشارك في تعـزيز ذلك التـقـليـد وتـوطيـده من خـلال المشاركـة في إعـادة إنـتاجـه.