أنسنة .. تجلّيات السهل الممتنع
الأربعاء / 9 / صفر / 1446 هـ - 22:29 - الأربعاء 14 أغسطس 2024 22:29
لا أدري لماذا أستحضر الشاعر أحمد الصافي النجفي (1897-1977) كلّما أقرأ نصًّا للشاعر حيدر الخفاجي؟ فكلاهما يركّز على الفكرة، ويعتمد على المفارقة، ويكتب بلغة يومية متداولة، وتعبير بسيط هو أقرب ما يكون لـ(السهل الممتنع)، وكذلك غرابة الموضوعات، وربما هذا هو السبب الذي جعل الخفاجي يتردّد طويلًا بنشر ديوانه الأوّل، رغم أنه يكتب منذ ثمانينيات القرن الماضي، ففي تلك السنوات عرفته، شاعرًا غزير النتاج، مليئًا بالنشاط والحيوية، وكان يضع المثّلثات والدوائر الهندسيّة خلف ظهره في كلية الهندسة التي يدرس فيها، ويأتي إلى كلية الآداب بجامعة بغداد، يقوده هوس كتابة الشعر، ليلقي على مسامعنا ما جادت قريحته من قصائد غالبا ما تمتاز بقوة الفكرة وبساطتها المعجونة بعمق يثير دهشتنا، كقصيدته (أحزان رجل مربع)، التي كان جمهور الطلبة يطلبها منه كلما ارتقى منصّة، ومرّت السنوات، تخرّجنا من الجامعة وخرجنا من البلاد، وتفرّقنا، وظلّ حيدر الخفاجي يبحث تحت كل نجمة عن صديق قديم أضاع أثره، ليتواصل معه، بحميميّته المعروفة، ورغم أنه صار مهندسا يشار إليه بالبنان، يدير مشروعات كبرى لبنايات وفلل، لكن شيطان الشعر لم ينقطع عن زيارته، وكنت أستغرب تأخّره عن جمع نصوصه في ديوان، وكان يقول: لم يحن الوقت بعد! وفي زيارتي الأخيرة لعمّان التي يقيم فيها منذ حوالي عشرين سنة، أهداني نسخة من ديوانه (أنسنة)، الذي صدر مؤخرا عن دار الشؤون الثقافية ببغداد، وقد ضمّ نصوصا كتبها في سنوات متفرقة، ابتداء من الثمانينيات، ولم يتردّد في نشر نص كتبه عام ١٩٨٦ ويليه نص كتبه العام الجاري، ويعقبه بنص كتبه في التسعينيات، وقد لا تجد فروقات كثيرة في النصوص، فهو يكتب على وتيرة شكّلت طابعا تميّز به، وهذا ليس مستغربا، ففي الشعر، قد يدهشنا نصٌّ كتبه شاعر في شبابه، فيما نمرّ بنص آخر كتبه الشاعر نفسه بعد سنوات من الخبرة والنضج مرور الكرام!
وجاء العنوان (أنسنة) مختزلا، مقتضبا يحيلنا إلى أنسنة الأشياء من جمادات، وكائنات، فيضفي عليها الشاعر من إحساسه، فتنطق وتتحرك وتتقمص روحه، فيلصق سماته فيها، ففي قصيدة (هكذا مات الكرسي) يتحدث عن كرسي صبور مركون بزاوية في غرفة مشلول عن الحركة، يُستخدم في المآتم والأعراس، وفي غرف التحقيق، هذا الكرسيّ يحاول أن يفهم ما يجري حوله ويتساءل:
ولماذا يتقاتل أبناء الشعب على كرسي المنصب
في كل صباح ومساء
ولماذا يجلس فوق الكرسي على المنبر
من لا يملك أخلاق الفقهاء؟»
وفي نهاية القصيدة يموت الكرسي، ومن المحزن أن مأتمه لم يحضره أحد كما يموت (ملايين الغرباء)، وهنا يكمن جوهر النص، ورسالته، فالغربة تبسط نفوذها على روح الشاعر، ولكنه يبحث عن ممرّات يسرّب من خلالها أحاسيسه، وهذه الممرّات تأتي على شكل شظايا ذائبة في نصوصه:
المحطّات للغرباء بيوت
فيها نعيش وفيها نموت
المحطّات للغرباء وطن
كل القطارات واقفة كي يمرّ قطار الزمن
وفي قصيدته (مكاشفات الطاولة العجوز) يعقد حوارا بينه وبين طاولة تشكو من الوحدة: حينَ اتكأتُ على الطاوِلةْ
جَفَلَتْ .. ثمَّ قالَتْ تَعِبْتُ مِنَ الوَحدةِ القاتِلةْ
ويحاول الخفّاجي أن يصنع مشهدا بصريا، متأثرا بالفن التشكيلي الذي يُدرج ضمن اهتماماته، متكئا على حسّ المفارقة، وتقنية التكرار:
النخلةُ قالتْ للنَخلَةِ لنْ أحمِلَ تَمرا هذا العامْ
أخشى أنْ يتفَجَّرَ جِسمُ (الصاعودِ)
وأشارت لطوابيرِ الشُهداءْ
النحلةُ قالتْ للنحلةِ همْسا
لا تَثقي أبدا بالغُرّباءْ
وفي قصيدة «الرجل الذي تحولَ إلى قلمِ رصاصْ»، يكتب نصا على لسان قلم رصاص مشيرا في النهاية إلى قوة الكلمة وتأثيرها، ويصغي إلى صمت الشبابيك في قصيدته (شبابيك) وثباتها رغم تبدّل الأحوال:
الشبابيكُ شاهدةُ صامتةْ
الشبابيكُ أرجوحةُ (الفاخِتةْ)
الشبابيكُ رُغمَ تغيُّرِ أوضاعِها ثابتةْ
والملاحظ أنه يعتني بعناوين قصائده، ويشتغل عليها، ويختزل فيها فكرة النص، كعنوان قصيدته «محاولات فاشِلةٌ للتخلّص مِنْ الجُثةِ المجهولة»، التي يجنح فيها إلى السرد، فيتحدّث عن جثّة أكبر من التابوت، يحتار فيها الدفّان، ويحاول أن يبذل محاولات لدفنها، فيطوي القدمين ويدير الرأس إلى الخلف، بل تطرأ على باله فكرة أن يقطع الفائض عن القبر بالفأس، أو حرق الجثة وذرّ الرماد في الأرض، وفي النهاية يتوصّل إلى نتيجة مؤلمة أن الجثة بلا أبعاد لأنها جثة إنسان بعيد عن وطنه:
«قالَ الدفّانُ: تُرى هلْ أخطأنا في أَبعادِ الحُفرةِ والتابوتْ؟
أمْ أنَّ الإنسانَ يصيرُ بلا أبعادٍ في المَنفى حتّى يتلاشى ويموتْ؟»
وكم كنت أتمنى من الشاعر تكثيف النص، وضغط الأجزاء، لكي لا يفقد النص وهجه، خلال رسمه قسوة المشهد و(فانتازيته) وصولًا للخاتمة التي يكمن فيها مغزى النص، وهذا ينطبق على نصوص أخرى عديدة، فالشاعر حيدر الخفاجي يسترسل في السرد، ويفصّل في الأجزاء، حتى تأتي الخاتمة التي غالبا ما تنطوي على شيء من المفارقة، التي صارت ميزة لتجلّيات الخفّاجي في سهله الممتنع.
وجاء العنوان (أنسنة) مختزلا، مقتضبا يحيلنا إلى أنسنة الأشياء من جمادات، وكائنات، فيضفي عليها الشاعر من إحساسه، فتنطق وتتحرك وتتقمص روحه، فيلصق سماته فيها، ففي قصيدة (هكذا مات الكرسي) يتحدث عن كرسي صبور مركون بزاوية في غرفة مشلول عن الحركة، يُستخدم في المآتم والأعراس، وفي غرف التحقيق، هذا الكرسيّ يحاول أن يفهم ما يجري حوله ويتساءل:
ولماذا يتقاتل أبناء الشعب على كرسي المنصب
في كل صباح ومساء
ولماذا يجلس فوق الكرسي على المنبر
من لا يملك أخلاق الفقهاء؟»
وفي نهاية القصيدة يموت الكرسي، ومن المحزن أن مأتمه لم يحضره أحد كما يموت (ملايين الغرباء)، وهنا يكمن جوهر النص، ورسالته، فالغربة تبسط نفوذها على روح الشاعر، ولكنه يبحث عن ممرّات يسرّب من خلالها أحاسيسه، وهذه الممرّات تأتي على شكل شظايا ذائبة في نصوصه:
المحطّات للغرباء بيوت
فيها نعيش وفيها نموت
المحطّات للغرباء وطن
كل القطارات واقفة كي يمرّ قطار الزمن
وفي قصيدته (مكاشفات الطاولة العجوز) يعقد حوارا بينه وبين طاولة تشكو من الوحدة: حينَ اتكأتُ على الطاوِلةْ
جَفَلَتْ .. ثمَّ قالَتْ تَعِبْتُ مِنَ الوَحدةِ القاتِلةْ
ويحاول الخفّاجي أن يصنع مشهدا بصريا، متأثرا بالفن التشكيلي الذي يُدرج ضمن اهتماماته، متكئا على حسّ المفارقة، وتقنية التكرار:
النخلةُ قالتْ للنَخلَةِ لنْ أحمِلَ تَمرا هذا العامْ
أخشى أنْ يتفَجَّرَ جِسمُ (الصاعودِ)
وأشارت لطوابيرِ الشُهداءْ
النحلةُ قالتْ للنحلةِ همْسا
لا تَثقي أبدا بالغُرّباءْ
وفي قصيدة «الرجل الذي تحولَ إلى قلمِ رصاصْ»، يكتب نصا على لسان قلم رصاص مشيرا في النهاية إلى قوة الكلمة وتأثيرها، ويصغي إلى صمت الشبابيك في قصيدته (شبابيك) وثباتها رغم تبدّل الأحوال:
الشبابيكُ شاهدةُ صامتةْ
الشبابيكُ أرجوحةُ (الفاخِتةْ)
الشبابيكُ رُغمَ تغيُّرِ أوضاعِها ثابتةْ
والملاحظ أنه يعتني بعناوين قصائده، ويشتغل عليها، ويختزل فيها فكرة النص، كعنوان قصيدته «محاولات فاشِلةٌ للتخلّص مِنْ الجُثةِ المجهولة»، التي يجنح فيها إلى السرد، فيتحدّث عن جثّة أكبر من التابوت، يحتار فيها الدفّان، ويحاول أن يبذل محاولات لدفنها، فيطوي القدمين ويدير الرأس إلى الخلف، بل تطرأ على باله فكرة أن يقطع الفائض عن القبر بالفأس، أو حرق الجثة وذرّ الرماد في الأرض، وفي النهاية يتوصّل إلى نتيجة مؤلمة أن الجثة بلا أبعاد لأنها جثة إنسان بعيد عن وطنه:
«قالَ الدفّانُ: تُرى هلْ أخطأنا في أَبعادِ الحُفرةِ والتابوتْ؟
أمْ أنَّ الإنسانَ يصيرُ بلا أبعادٍ في المَنفى حتّى يتلاشى ويموتْ؟»
وكم كنت أتمنى من الشاعر تكثيف النص، وضغط الأجزاء، لكي لا يفقد النص وهجه، خلال رسمه قسوة المشهد و(فانتازيته) وصولًا للخاتمة التي يكمن فيها مغزى النص، وهذا ينطبق على نصوص أخرى عديدة، فالشاعر حيدر الخفاجي يسترسل في السرد، ويفصّل في الأجزاء، حتى تأتي الخاتمة التي غالبا ما تنطوي على شيء من المفارقة، التي صارت ميزة لتجلّيات الخفّاجي في سهله الممتنع.