أفكار وآراء

البيان الثلاثي والشرق الأوسط تحت رحمة نتنياهو!

مشكلة البيان الثلاثي الأمريكي، المصري، القطري الأخير الداعي لإبرام اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة هي الولايات المتحدة نفسها، واشنطن القوة التي ضغطت على الأطراف الأخرى لإصدار البيان غير جادة في تحويله إلى حقيقة سياسية.

مع اعتراف دنيس روس بأن المبادرة الأمريكية لحث الدوحة والقاهرة على إصدار هذا البيان كان نتيجة تخطيط وتنسيق أمريكي مسبق مع الإسرائيليين تستطيع أن تدرك أن الهدف الأساسي من مشروع التسوية ليس وقف حرب الإبادة الجماعية في غزة ولكن الهدف هو منع إيران وحزب الله من رد عسكري شديد وسريع على إهانتي اغتيال القياديين اسماعيل هنية وفؤاد شكر.

رد يخشى أن يقود بسلسلة من ردود الأفعال إلى حرب إقليمية شاملة لا تستحسنها واشنطن كخيار أول وهي في عام الانتخابات بل في العد التنازلي بشهورها الثلاث الأخيرة.

التحرك الأمريكي - الإسرائيلي المنسق يهدف بشكل رئيسي لكسب الوقت وتأجيل رد إيران وحزب الله حتى تؤدي حشودها العسكرية وضغوطها السياسية إلى خلق معادلات ردع جديدة تمنع حزب الله وإيران عن الرد فقد تصبح عندئذ تكلفة هذا الرد عالية وتفوق خسائره المكاسب. وحتى تتهيأ أمريكا وإسرائيل بشكل أفضل لإجهاض هذا الرد وتتهيأ أخيرا للحرب الإقليمية إذا اندلعت وكانت لا مفر منها. حتى اللعب على عنصر الزمن قد تراهن واشنطن عليه على أمل أن يفعل مرور الأيام فعله من جعل نار الثأر المشتعلة الآن في قلب طهران والضاحية الجنوبية لبيروت تبرد فتصير مع الوقت رمادا هامدا.

لدى واشنطن موارد وأدوات ضغط هائلة تستطيع بها إذا أرادت تحويل الدعوة غير الملزمة التي صدر بها البيان إلى صيغة ملزمة لو أنها تستهدف فعلا من هذا البيان إنهاء أو حتى وقف الحرب في غزة.

لكن هدف الولايات المتحدة الرئيسي هو إجراء مناورة خداع استراتيجي تستكمل به ضخ ما يحتاجه جيش إسرائيل المنهك من أسلحة وذخائر واستكمال حشد أساطيلها وحاملات طائراتها الـ إف 22 وإف 35 في البحرين الأبيض والأحمر والخليج واستنفار قيادتها المركزية وقواعدها المنتشرة كالفطر في المنطقة.

لو كانت الولايات المتحدة جادة لتعاملت بجدية مع حقيقة أن الوقت الحالي موات أكثر من أي وقت مضي لصنع اتفاق يوقف الحرب في غزة ويمنع حربا اقليمية مدمرة.

فمن الناحية النظرية قد يكون هذا الوقت هو الوقت الأمثل لوقف الحرب وإبرام صفقة تبادل بين الأسري الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وأسرى إسرائيل لدى المقاومة في غزة بسبب توافر العوامل الآتية مجتمعة للمرة الأولى:

- وحدة القرار السياسي والعسكري للمقاومة بعد انتخاب السنوار رئيسا للمكتب السياسي لحركة حماس خلفا للقائد الشهيد إسماعيل هنية: مع الاعتراف بأن عملية صنع القرار في حماس هي عملية جماعية ومركبة بين المكتب السياسي ومجلس الشورى، وبين جناحها العسكري وجناحها السياسي، وبين قيادة الداخل في غزة والضفة وقيادة الخارج في المنطقة والعالم إلا أن حقيقة أن الحرب تدور في غزة وأن الأسرى الإسرائيليين محتجزون لدى المقاومة هناك منحت السنوار وكتائب القسام عموما منذ بداية الحرب الثقل الأكبر في عملية اتخاذ القرار وفي عملية التفاوض.

من شأن جمع السنوار بين قيادة غزة وقيادة الحركة كلها إعطاء المفاوضات فرصة أفضل وأسرع في الحسم خاصة مع قصر سلسلة الاتصال والتشاور وصولا لمركز صانع القرار.

يتمتع السنوار بميزة المعايشة المباشرة لحقائق الوضع العسكري لكتائب المقاومة وحقائق الوضع المعيشي لحاضنته الشعبية في غزة ما يمكنه من اتخاذ القرار دون أن يخشى من مزايدة أحد فهو محصن بوضع 'من يده في النار ليس كمن يده في الماء'.

يضاف إلى ذلك حقيقة أن السنوار اشتهر بالحزم والحسم وعدم التردد في اتخاذ القرار مهما كان صعبا. ليس أدل على ذلك من اتخاذه قرار هجوم ٧ أكتوبر شديد الجرأة والشجاعة الذي يقول الإسرائيليون إنه إذا كان ١٥ مايو ١٩٤٨هو يوم نكبة فلسطين فإن ٧ أكتوبر ٢٠٢٣هو يوم نكبة إسرائيل.

باختصار تدعم قواعد التفاوض فكرة أن فرص التوصل لاتفاق مع قائد واثق وصانع قرار حاسم أكبر من غيره.. ولكن فقط إذا كان اتفاقا جادا وليس وثيقة استسلام.

- خطر نشوب حرب إقليمية لم يكن ماثلا كما هو اليوم بعد استفزاز إيران وحزب الله للرد على جرائم الاغتيال الإسرائيلية بكل ما يعنيه ذلك من تهديد مباشر لمصالح واشنطن والغرب النفطية الضخمة في المنطقة ومن تهديد خطير لاستقرار النظم العربية الحليفة لواشنطن في المنطقة. هذا الخطر يشكل بيئة ضغط حقيقية على المفاوضات للتقدم نحو اتفاق لم يكن متاحا في الشهور الماضية.

- نتنياهو مهزوم استراتيجيا في حرب غزة وما زال بعد عشرة أشهر عاجزا عن القضاء على حماس'أثبتت تقارير أمريكية أن حماس مازالت تحتفظ بنصف قواتها (١٢ كتيبة) وأنها جندت آلافا من المقاتلين الجدد ومازالت بعد أكثر من ٣٠٠ يوم قادرة على إطلاق صواريخ على جنوب إسرائيل وإيقاع خسائر فادحة بالعدو في غزة بحرب عصابات اعترف خبراء بأنها الأصعب في التاريخ العسكري. رغم هذا فهو يستطيع اليوم الكذب على الجمهور الإسرائيلي - كما كذب في كل الحروب الخمس السابقة على غزة وتباهى بأنه حقق أهداف الحرب - بعد تمكنه من اغتيال هنية وقادة سياسيين وعسكريين من الصف الأول في حماس وحزب الله.

هذا الإدعاء يحفظ بعضا من ماء وجهه ونزل على رأي مؤسسته الأمنية بأن صفقة لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى ستنقذ إسرائيل من حرب إقليمية محتملة لا تستطيع في وضعها المهلهل أن تكسبها بدون إنقاذ أمريكي مباشر وحتى لو حدث ذلك فإن مدنها ومصانعها ومحطات الطاقة وربما المدنيين معرضون لخسائر فادحة لم تعرفها في تاريخها.

لو كانت واشنطن جادة في البيان الثلاثي لاستفادت من هذه الظروف المواتية وضغطت بل أمرت نتنياهو بإعلان ولو مؤقت لوقف فوري لإطلاق النار تجري فيه المفاوضات في مناخ جاد.

لكن واشنطن التي يحكمها الرئيس بايدن وهو بما تبقى له من شهور قليلة في الحكم هو رئيس بدرجة بطة عرجاء. واشنطن الغارقة في معركة انتخابية متقاربة بين ترامب وكمالا هاريس ويتنافس كلا منهما على إرضاء نتنياهو لكسب الصوت اليهودي والمسيحية الصهيونية لا تريد مواجهة مع الرجل الذي يدمر المنطقة بأسرها. فتمتنع عن استخدام ثقلها وإلزام وكيلها الإقليمي بوقف الحرب وتفضل الخيار السهل وهو وضع هذا الثقل في اتجاه واحد طيع ينثني للضغوط هو الجانب العربي.

لا يتحرج بعض المسؤولين العرب وهم يرددون في مجالسهم منذ اليوم الأول لحرب غزة خرافة سياسية وكأنها قدر محتوم مفادها 'إن كل شئ في هذه الحرب بيد نتنياهو فإن أراد وقف الحرب سيوقفها في التو واللحظة وإن أراد توسيع نطاقها وإشعال المنطقة بحرب إقليمية فسيفعل ولن يوقفه أحد'.

ويبدو أن الأمريكيين بهروبهم من مواجهة نتنياهو وإطلاق يده وتهاونهم حتى الآن في الاستفادة من الظرف المواتي للوصول لاتفاق جاد إنما يريدون منا أن نصدق هذا الوهم ونشتري هذه الخرافة.

• حسين عبد الغني إعلامي وكاتب مصري