أفكار وآراء

«الحواضن» .. الأهمية والدلالات الموضوعية

أتصور؛ أن الحاضنة كمفهوم لا تحتاج إلى كثير من التعريف، فهي ليست مفهوما هلاميا متخيلا، وإن لم تكن له تراتبية إدارية، فهو مفهوم واضح الدلالة، وتأثيره على الواقع ملموس ونتائجه موضوعية إلى حد كبير، فقد تربينا جميعا عبر حواضن كثيرة، ولا نزال تظلنا ذات الحواضن؛ ومنها ما هو مستجد، بحكم تطور الحياة، ويقينا؛ أقربها ودا وقربى حاضنة الأم المنبثقة من حاضنة الأسرة الكبيرة؛ وهي المنبثقة أيضا من حاضنة المجتمع، هذه الحاضنة التي ربت، وأنشأت، ورعت، ووجهت، وأدبت، وصوبت الكثير من الأخطاء، ووضعت الكثير من الأسس والمبادئ، والنظم، كل ذلك ليصل أفرادها؛ في خاتمة النهايات إلى كثير من الصواب في العمل، وفي السلوك، وفي الممارسات، وإلى القدرة على تبني المواقف، والوصول إلى القناعات، وفهم مجموعة التباينات بين الأشياء، والنظر في الاختلافات، وإلى قليل من الأخطاء، والإخفاقات، وإلى شيء من القدرة على اتخاذ مواقف الحياد، وهذه كلها تعد مكاسب ما كان لها أن تتحقق إلا بوجود هذه الحاضنة أو تلك، وبالتالي فالحاضنات الأخرى؛ وإن تعددت أنواعها ومسمياتها؛ هي لن تخرج عن تحقيق جملة من المكاسب للمنتمين لها، فهي لا تختلف كثيرا عن أشكال الرعاية والعناية بأفرادها، سواء انتماء عضويا، أو انتماء مهنيا، والحاضنة ما سميت بهذا الإسم إلا لتظهر جانب الرعاية المباشرة لأعضائها، وهي رعاية تظل على قدر كبير من الأهمية؛ حيث تعد خارطة طريق متعددة التوجهات، ومتنوعة الغايات والأهداف، لمس الجميع هذه المكاسب، أو لم يعيروها أهمية، تظل منسوبة إلى حاضنتها.

تتوارد الكثير من الأحاديث أو المناقشات، أو التعريفات عن الحواضن الاجتماعية، وغير الاجتماعية، وهي تعريفات ليست مقصودة لذاتها، بقدر ما تعطي فرصة التمييز بين هذه الحواضن من حيث الميادين التي تعمل فيها، ومن حيث النتائج المتوقعة من مجموع الاشتغالات التي تقوم بها؛ فيقال: الحاضنة الشعبية، الحاضنة الاجتماعية، الحاضنة الثقافية، الحاضنة التربوية، الحاضنة السياسية، الحاضنة الاقتصادية، ولكل من هذه الحواضن مساحتها المعرفية في التعريف، ومساحتها الاشتغالية في الأهداف والنتائج، ومساحتها في هوية المنتمين إليها، ومساحتها الفلسفية في التأثيرات الضمنية؛ والتداعيات المختلفة، وما تعكسه من مجموعة التقاطعات والتباينات فيما بينها، وقد تتكامل هذه الحواضن في النتائج العامة، لتظهر صورة المجتمع ككل، دون أن تكون هناك فواصل واضحة تؤول إلى نوع من الفئوية، وتقاطعها في بعض الجوانب يحدث في عمليات التنفيذ والاشتغالات المختلفة، وفي هذه الحالة سريعا ما تعود إلى ترتيب أوراقها لتصل إلى التكامل فيما بينها؛ حتى وإن لم تظهر في هيكلية يشار إليها في المجتمع، حيث تحل في مجملها قريبا من اهتمامنا لأهمية الدور الذي تلعبه، ولأن معظمها يتحرك وفق سياقات اجتماعية واضحة؛ لأن من يمثلها أفراد من أبناء المجتمع وفق تصنيف أفراد المجتمع لها، وإن كان هذا التصنيف لا يظهر كثيرا في عمليات التشغيل والتفاعل، لعامة الناس، وإنما يأتي التصنيف هنا للمتخصص، وللمتابع، وللذي تعنيه مجموعات الرصد لعمل هذه الحواضن، سواء ذلك المتخصص في فرع ما من فروع هذه الحواضن، أو للذي يرصد الحراك الاجتماعي في مجموعته الشاملة ويقيس النتائج في صورتها الكمية، ليستخلص منها النتائج، ويبني عليها قراراته، أو قناعاته وفق ما يذهب إلى مناقشته، أو لقناعاته الذاتية الخاصة، ليقف على يقين لوجهة نظره؛ فيدافع عنها، وتكون الرؤية - بالنسبة له – واضحة، لا يهمه من يخالفه، أو يحمل وجهة نظر مختلفة عنه، وهذا في حالات الفرد الخاصة، وتدخل هذه «الخاصة» حتى في مشروعات الرسائل العلمية لنيل الدرجات العلمية العالية، أما في حالات المؤسسة، فإن الأمر يختلف من حيث رصد النتائج من تفاعلات الحواضن، حيث تحرص المؤسسة – أعني بها الرسمية – على مراقبة ومتابعة النتائج المستخلصة من عمل الحاضنة، وذلك لكي تبني عليها خططها وبرامجها القريبة والبعيدة المدى، فوق أن بعض هذه الحاضنات منشؤها رسمي، بهدف تنفيذ برامج تنموية معينة، فـ «حاضنة رجال الأعمال» هي حاضنة اقتصادية بحتة، والهدف منها مساعدة فئة الذاهبين إلى إنشاء مؤسسات خاصة بهم، حيث تتبنى الحاضنة هنا هذه المنشأة، وتدفع بها نحو النجاح، فتعمل على تسهيل كل المعوقات سواء الإدارية أو المالية، أو الفنية، حتى تكون الطريق واضحة وممهدة لنجاح هذا الفرد، أو مجموعة الأفراد لكي يشقوا طريقهم في هذا الاتجاه، ومتى اشتد عود هذه المنشأة أو تلك؛ حضر التفكير في احتضان مؤسسات أخرى لذات الهدف، فالعملية وفق هذا السياق مستمرة، وغير محكومة بزمن معين، وهذا حال كل الحواضن، فالأجيال تتوالى، وتحتاج إلى كثير من الرعاية والعناية التي توفرها لها هذه الحواضن المتعددة والمتنوعة.

في الغالب؛ تتحمل الحواضن مسؤوليات كبيرة، ونوعية، ويناط بها الكثير من المهمات النوعية والمركزية – فهي ليست هلامية؛ كما ذكرنا – ولذلك يعاد إليها العتاب بقوة؛ في حالة عدم قدرتها على تقديم ما تحتضنه بصورة ترضي جمهورها، أو ترضي المتابع المنتمي إلى حاضنة أخرى، يحدث ذلك عندما يكون هناك خلل في النتائج، فالحاضنة الاقتصادية تشن هجوما عنيفا على الحاضنة المعرفية، وذلك لأن الأخيرة لم تستطع أن ترفد المجتمع بأفراد اقتصاديين من الدرجة الأولى؛ حيث يشار هنا إلى ضعف المخرجات التعليمية في المجال الاقتصادي، والحاضنة السياسية تشن هجوما عنيفا على الحاضنة الشعبية، لأنها لم تستطع هي الأخرى أن توجه بوصلتها نحو خدمة الأهداف السياسية من خلال تصويبات الرأي العام المسؤولة عنه، وخاصة عندما يظهر الرأي العام مهلهلا في مواقفه، وأن الطبقة السياسية في خضم هذه الحاضنة غير قادرة على اتخاذ مواقف واضحة ومحددة من قضية رأي عام ما؛ مطروح للنقاش، ولذلك يكثر الهرج والمرج إبان الانتخابات التشريعية في تحديد المرشح المناسب في الدوائر انتخابية، مع الأخذ في الاعتبار أن الحاضنة الشعبية تعد من أكبر الحواضن على الإطلاق؛ نظرا لامتدادها الأفقي «الكمي» فوق أنها تفتقر إلى التخصص «النوعي» الذي تتميز به بقية الحواضن، والحاضنة السياسية؛ صحيح؛ هي منبثقة من الحاضنة الشعبية، وقد يشار إليها بـ «النخبة» ولذلك فهي واقعة في مأزق ما بين نجاح وفشل بسبب هذا الانتماء الذي لا مفر منه، لأنه الروح الذي تستمد منه القوة والتمكين، ولا مجال آخر لها، وبالتالي فعلى الرغم من أنبثاقها - أي الطبقة السياسية - من الحاضنة الشعبية؛ فهي في الوقت نفسه مسؤولة مسؤولية تامة عن تصويب مجموعة الممارسات التي يمارسها أفراد الحاضنة الشعبية، وينظر إليها بكثير من الاهتمام، خوف السقوط في ممارسات تؤدي إلى مآزق كثيرة، فهي تجسر العلاقة بين طرفي: شعبيتها وعلاقتها «الاستثنائية» الرسمية، ولا بديل لها عن هذا الترابط.

السؤال هنا أيضا: هل تشكل الحواضن أهمية موضوعية سواء لأعضائها المنتمين إليها «مؤقتا» حيث التنشئة والإعداد، أو للذين يرصدون حراكها الدينامكي «الآني» أو تأثيراتها البنائية على المدى البعيد؟ وماذا يعني لو لوحظ أن هناك إخفاقا في نتائج هذه الحواضن؟ ولمن يعاد العتاب، أو سهام الإخفاق؟ وإذا تم التسليم جدلا؛ أن تأثير الحاضنة ليس متمحورا حول طبيعتها، بل يمكن أن يتعدى ذلك إلى الالتحام مع الحواضن الأخرى؛ هل يعد ذلك نجاحا مزدوجا لتأثيرات الحواضن؛ أو قد يؤدي ذلك إلى شيء من التقاطعات في النتائج في واقع الممارسات الفعلية؟ بمعنى هل هي أقرب إلى التكامل منه إلى التقاطع في نتائجها؟ أما من حيث أهميتها الموضوعية؛ فهذا أمر مسلم به إلى حد كبير، ومسألة الإخفاق مسألة واردة في أي جهد بشري، وقد يحدث عندما يخفق الفرد في تصويب ممارساتها التي تتناقض وأهداف الحاضنة التي ينتمي إليها، ولأن الحواضن تتكامل في نتائجها العامة، فإن مجموعة التقاطعات التي تحدث قبل ذلك؛ تظل أمرا واقعا، ومقبولا، ولا يثير القلق.