أفكار وآراء

فلسفة الحوار بين زكي نجيب محمود والشيخ الشعراوي

حتى بداية سبعينيات القرن الماضي كان الدين قضية مستقرة في وجداننا، يمارس المسلمون شعائرهم الدينية صباح مساء، يعرفون الحلال والحرام بالفطرة الطبيعية التي فطر الله الناس عليها، كانت البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون محدودة وقاصرة على علماء حقيقيين، يخاطبون الناس بما يناسب عقولهم ويحقق مصالحهم، لم يكن ذلك في عالمنا العربي فقط بل في كل العوالم التي تعتنق الإسلام، يطرب المسلمون جميعا لسماع القرآن الكريم من قراء منحهم الله جمالا في الصوت ومعرفة بعلم القراءات، وكان الراديو أكثر الوسائل التي يستمع إليها المسلمون وهم ينصتون لقراء عظام، ولم يكن فهم معاني القرآن الكريم قاصرا على العلماء، بل ربما كان العامة يفهمون وفق قدرتهم، وربما كان يستعصي عليهم الكثير من الألفاظ والمفردات، لكن المعاني العامة ومعرفة الحلال من الحرام ومقاصد الشريعة الغراء يفهمها عامة الناس، ولعل ذلك دليلا على عظمة كتاب الله وبلاغته، حتى الأحاديث التلفزيونية والإذاعية كانت سهلة الفهم وواضحة للمتلقي، ولم تكن ثمة مشكلة بين المذاهب الإسلامية، بل لم تكن أية مشكلة مع الديانات الأخرى غير الإسلامية.

منذ سبعينيات القرن الماضي ظهر جيل من الدعاة الجدد، أحالوا الإسلام إلى معارك فكرية وأيدلوجية وأخضعوا القرآن الكريم إلى تفسيرات مذهبية ضيقة، ثم تلتهم أجيال اتخذوا من الدين وسيلة للارتزاق وبدعم غير محدود من دول وجماعات أحدثوا فتنة كبرى بين المسلمين، ووصل الأمر ببعضهم إلى تكفير مخالفيهم في الرأي، بل وصل الأمر إلى القول بدار الإسلام ودار الكفر، واستغلوا عوام الناس الذي راحوا يتلقون خطاباتهم على أنها الإسلام الحقيقي، بعدها عمت فتن كبرى في كل العالم الإسلامي، ووصل الأمر لدرجة الفتوى بقتل المخالفين، وقد شاهدنا خلال النصف قرن المنصرم مشاهد مروعة راح ضحيتها كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بعد أن تراجع دور العقل وإعمال الفكر، وهي مأساة أضرت الإسلام والمسلمين معا، وأصبح المسلم في كثير من دول العالم موضع مراقبة وتوجس، وقد اكتفى أنصار التشدد بالرد على ما يُلحق بالإسلام بقولهم إن الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر.

لقد تراجع دور المفكرين والفلاسفة، عن الدخول في معارك مع أنصار هذا الفكر، إلا نفرا قليلا كان من بينهم زكي نجيب محمود ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم، عندما لاحظوا جميعا الشعبية الهائلة لواحد من أنصار القول بالنص على حساب العقل، بل وربما تجاوز كل ما يقول به العقل، الذي لا يجوز أبدا أن يتعارض مع الدين (يكمن شرع الله حيث تكمن مصالح المسلمين)، وقد تنبه زكي نجيب محمود بشكل خاص إلى خطورة ما يُشاع بين العامة من أحاديث يقول بها الشيخ الشعراوي، من قبيل إذا سقطت ذبابة في شراب فعلى الشارب أن يغمسها كلها في الشراب، ثم يمضي في الشراب لأن للذبابة جناحا فيه داء والآخر فيه الدواء! وقد استند الشيخ، لا فض فوه، إلى رأي قال به العلماء الألمان على حد قوله، ولم يذكر فضيلته اسم واحد من هؤلاء العلماء، ولا اسم المركز البحثي الذي أجريت فيه تلك التجارب، عندئذ شعر زكي نجيب محمود بقدر من الحيرة، ولجأ إلى التصوير الأدبي حينما كتب مقالا في صحيفة الأهرام تحت عنوان: (ذبابة تعقبتها)، بعدها راح يحرص على الاستماع إلى أحاديث الشيخ، وقد لاحظ موقفه من العلم الذي راح يسخر منه في قضية من قبيل الصعود إلى القمر والسير على صخوره، وأخذ يهزأ من تلك المنجزات العلمية، لدرجة أنه في أحد أحاديثه انتزع ورقة من علبة مناديل كانت أمامه، وخاطب الملايين الذين كانوا يستمعون إليه قائلا: إن هذه الورقة أنفع من الصواريخ ومن الصعود إلى القمر، ولم يتنبه الشيخ إلى أن أقل ما يقال عن نتائج تلك الصواريخ وتلك الأقمار الصناعية التي استخدمت في البث التلفزيوني، والذي صار متاحا لأحاديث الشيخ، التي كانت تبث على ثلث الكرة الأرضية، بل من الممكن أن تذاع على الكرة الأرضية كلها.

مع احترامنا وتقديرنا للشيخ الشعراوي ومقدرته الفائقة على التفسير اللغوي والبلاغي للقرآن الكريم إلا أن موقفه من العلم كان ملتبسا، لدرجة أنه جعل العلم على خصومة مع الدين، فعندما ضرب الزلزال مناطق في إيطاليا، وقال علماء الزلازل باحتمال وقوع زلازل أخرى في بعض المدن الإيطالية، وفي هذه المرة يسخر الشيخ أيضا من العلم، عندما قال في أحد أحاديثه التلفزيونية التي كان يتابعها الملايين: لقد ترك الله هؤلاء العلماء يجرون أبحاثهم ويعلنون عن تنبؤاتهم، حتى إذا فرغوا من ذلك فاجأهم بزلزال في منطقة غير التي توقعوها، وفي وقت مخالف لتوقعاتهم. وكأن الله في موقف المنتقم من هؤلاء العلماء لأنهم تجرأوا على أن يتنبأوا بغير ما قال به الله. دارت حوارات طويلة من خلال مقالات راح يكتبها الشيخ الشعراوي ردا على ما يقوله زكي نجيب محمود، وهو حوار بين رجلين أحدهما ينتصر لمجمل التصورات الغيبية التي لا يعلمها إلا الله، والتي فهمها الشيخ بطريقته الخاصة، والآخر فيلسوف ومفكر راح يعلي من دور العقل في فهم النص القرآني الذي يستحيل أن يتعارض مع العقل، وهو ما قال به الإمام محمد عبده منذ نهايات القرن التاسع عشر، وخصوصا في قضايا علمية ذات طابع تجريبي تخضع في مجملها لمنطق التجربة والخطأ، ولأن القرآن الكريم ليس كتابا في الطب أو العلوم الطبيعية، وإنما هو كتاب هداية وعقيدة.

لقد استفزت أحاديث الشيخ الشعراوي المفكر توفيق الحكيم والروائي يوسف إدريس وبقدر من الاحترام راح كل منهما يحاور الشيخ الشعراوي فيما يقول، ولعل هذه الردود قد أغضبت الشيخ، لدرجة أنه طالب بمنازلتهم جميعا في حوار أمام جموع الناس، وقد كتب زكي نجيب محمود ردا على ما قال به الشيخ بشأن تلك المنازلة، وخصوصا عندما قال الشيخ أن كلامهم كلهم خارج عن الدين، وقد انبرى زكي نجيب محمود قائلا للشيخ معلقا على كلمة (كلهم): هل قرأت لي يا شيخنا كل ما كتبته لتقول بأن كل كلامي خارج على الدين؟ إن لي أربعين مؤلفا ومئات المقالات.. هل قرأت كل ذلك؟ وإذا كنت لم تقرأ لي كل ما كتبته وأثق أنك لم تقرأه أفلا تكون في هذه الحالة قد اتهمت مسلما بأبشع ما يتهم به المسلم أخاه المسلم وعن غير بينة؟

لم يتوقف الشيخ الشعراوي حينما راح يقول إن هؤلاء الثلاثة زكي نجيب محمود ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم كل ما يقولونه يحمل الضلالة والإضلال، وأنه يدعوهم جميعا لمناقشة علنية لكي يعرف الناس قدرهم، ويعلق زكي نجيب محمود قائلا: لو أردت أن تحتكم إلى العقلاء من الناس لكنت أكثر توفيقا، أما جموع المسلمين فهم مشغولون اليوم بقتل بعضهم بعضا، ويعترك كل مذهب مع مذهب في كل العالم الإسلامي.

هذا نموذج للحوار بين الفقيه والفيلسوف، ولعلنا أحوج ما نكون هذه الأيام إلى العودة إلى قراءة الفكر الديني ما بين مدرسة العقل ومدرسة النص، مدرسة الاكتفاء بالمعاني الظاهرة التي ربما لا يقصد من ظاهرها إلا باطنها، وهي المعاني التي أشاعها البعض الذي أبعدنا كثيرا عن الفهم الحقيقي للقرآن الكريم بمقاصده النبيلة وبلاغته وعمق معانيه وتدبر قراءته، وفي كل مرة يتساءل العالم لماذا يتقاتل المسلمون؟