شماعة الأفكار الدخيلة
الأربعاء / 24 / محرم / 1446 هـ - 23:01 - الأربعاء 31 يوليو 2024 23:01
يحلو لبعض الشعوب أن تستخدم شماعة الأفكار الدخيلة لتُعلل عجزها عن التفاعل مع أفكار العالم المفتوح، بمجرد أن تُلصق صفة «دخيل» على فكرة أو ظاهرة فهذا يكفي لرفضها، الحط منها، ومضايقة أصحابها، دون الحاجة للنظر في أصلها، أو نقدها، أو مراجعتها، تُهمة الدخيل هذه تحصر مساحة التعبير والتفكير ضمن حيز ضيق تُحدده القوى المتحكمة سياسية كانت، أو اجتماعية، أو دينية.
بُلدان الطهارة هذه ترفض القبول بكونها جزءا من العالم، فهي أسمى من أن تتأثر وتؤثر فيه، لا مكان للعطف في بلدان الطهارة. فابن البلد الذي يشذ عن قالب المواطن النموذجي، لا يعود مواطنا، أو يُصبح مواطنا بدرجة أقل، بالتالي لا مكان للتعددية أو التنوع في مجتمع الطهارة.
العالم بأسره يُريد النيل من هذه البلدان، إنها شعوب -ويل لقسوة العالم- ضحية كمالها، يُريد العالم أن يخسف بها. المجتمع الطاهر خالٍ من الاستغلال، الظلم، التطرف، الجوع، وإذا ما حدثت جريمة فمرتكبها بلا شك من المهاجرين الأنجاس، الذين ورغم أن المجتمع الطاهر يبذل ما بوسعه لإقصائهم عنه، ورفضه العنيد لأي مبادرة إدماج، وهو لولا حاجته لعرقهم ودمائهم لَرَفَع سورا إلى السماء يعزل مشكلاتهم «الحاتة» عن كماله المُطلق، إلا أن الطاهرين المساكين يقعون ضحايا شرهم كل مرة، تُستغل السلطة الدينية في الدولة الطاهرة للتأكيد على أن الناس لم يولدوا أحرارا، وأنهم لا يُمكن أن يكونوا متساوين، وأن مشكلات الحثالة لا تدنس ثوب الطهارة الرفيع.
المواطن الطاهر ليس خاليا من العيوب فحسب، بل من المشكلات أيضا. إنه يصحو كل يوم عند السادسة، ويُلبي نداء الوطن عند السابعة بثياب دون ثنيات - مستوية استواء مزاجه الذي لا يُعكر، هو الحليم، الرصين، المتوازن. لا يزعجه الاكتظاظ المروري - ما الاكتظاظ المروري أصلا؟ فشوارع بلاده ذات الثلاثة مسارات، والأربعة، والخمسة تستوعب كل العجلات المنفوخة بقدر سائقيها.
لا تحرّش ولا عنف أسري في المجتمع الطاهر، وحتى لو ظهرت حالة أو حالتان فهذا شيء شاذ. وإن كان ثمة من يمكن أن يُلام فهو هذه الضحية أو الضحيتان اللتان تجرأتا على النجاة لتحكيا عن معاناتهما، فيما تعلمان أن شهاداتهما تهزان الصورة الطاهرة التي يعمل المجتمع بأسره على صيانتها.
العمى الطوعي واجب وطني في الدولة الطاهرة، ومن لا يتطوع تُفقأ عينه؛ ليتعلم أن يغض الأخرى، النظر خيانة، مثله مثل الإحساس، والاعتراض، والاستقلال، والطموح.
يقف المجتمع الطاهر مع القضايا العادلة بشجاعة، دون التفريق بين العدالة والمصلحة، هو بارع في جعل الأمرين يلتقيان، مهما يكن الأمر صعبا، كما يبرع في استثمار وقفته الشجاعة لمواصلة تلميع الصورة، حتى لو عنى ذلك أن يمسحها بدموع ودماء ضحايا الحرب، فالحرب بأسرها وُجدت من أجل أن يساندها الشعب الطاهر، ويُثبت بطولته، وهذا مغزاها الوحيد، وما القتلى، والنازحون، والمُعذبون، والميتون جوعًا إلا لاعبون ثانويون، «كومبارس»، لا أقل ولا أكثر، دورهم يبدأ وينتهي عند إثبات جدارة الشعب طاهر الأخلاقية.
بإمكان هذا الشعب أن يُعرقل أي صيرورة، ويقاوم أي تغيير، ولديه ما يكفي من الثلج الأخلاقي لتجميد ضميره، وفضوله، وقابليته للاستفزاز. وهو -يا الله- غنائي، بليغ، لا يترك عجلة لغوية إلا وأعاد اختراعها.
فلا عجب بعد هذا أن نرى باقي الشعوب تستثيره، وتستهدفه، وتحاول أن تغزوه بأسلحة ليس أقلها الفكرة، فكيف لهذه الطهارة الهشة أن تقاوم فكرة؟ من خصائص الثوب الأبيض أنه قابل أكثر من غيره للتدنيس، تفكيك الأفكار، تأملها، نقدها ليس من وظائف الشعب الطاهر، وظيفته الوحيدة هو أن يتخذ وضعيته الأنيقة، في ثوبه الناصع، لتُلتقط له صورة تتحدى الزمن في ثباتها.
نوف السعيدي كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم
بُلدان الطهارة هذه ترفض القبول بكونها جزءا من العالم، فهي أسمى من أن تتأثر وتؤثر فيه، لا مكان للعطف في بلدان الطهارة. فابن البلد الذي يشذ عن قالب المواطن النموذجي، لا يعود مواطنا، أو يُصبح مواطنا بدرجة أقل، بالتالي لا مكان للتعددية أو التنوع في مجتمع الطهارة.
العالم بأسره يُريد النيل من هذه البلدان، إنها شعوب -ويل لقسوة العالم- ضحية كمالها، يُريد العالم أن يخسف بها. المجتمع الطاهر خالٍ من الاستغلال، الظلم، التطرف، الجوع، وإذا ما حدثت جريمة فمرتكبها بلا شك من المهاجرين الأنجاس، الذين ورغم أن المجتمع الطاهر يبذل ما بوسعه لإقصائهم عنه، ورفضه العنيد لأي مبادرة إدماج، وهو لولا حاجته لعرقهم ودمائهم لَرَفَع سورا إلى السماء يعزل مشكلاتهم «الحاتة» عن كماله المُطلق، إلا أن الطاهرين المساكين يقعون ضحايا شرهم كل مرة، تُستغل السلطة الدينية في الدولة الطاهرة للتأكيد على أن الناس لم يولدوا أحرارا، وأنهم لا يُمكن أن يكونوا متساوين، وأن مشكلات الحثالة لا تدنس ثوب الطهارة الرفيع.
المواطن الطاهر ليس خاليا من العيوب فحسب، بل من المشكلات أيضا. إنه يصحو كل يوم عند السادسة، ويُلبي نداء الوطن عند السابعة بثياب دون ثنيات - مستوية استواء مزاجه الذي لا يُعكر، هو الحليم، الرصين، المتوازن. لا يزعجه الاكتظاظ المروري - ما الاكتظاظ المروري أصلا؟ فشوارع بلاده ذات الثلاثة مسارات، والأربعة، والخمسة تستوعب كل العجلات المنفوخة بقدر سائقيها.
لا تحرّش ولا عنف أسري في المجتمع الطاهر، وحتى لو ظهرت حالة أو حالتان فهذا شيء شاذ. وإن كان ثمة من يمكن أن يُلام فهو هذه الضحية أو الضحيتان اللتان تجرأتا على النجاة لتحكيا عن معاناتهما، فيما تعلمان أن شهاداتهما تهزان الصورة الطاهرة التي يعمل المجتمع بأسره على صيانتها.
العمى الطوعي واجب وطني في الدولة الطاهرة، ومن لا يتطوع تُفقأ عينه؛ ليتعلم أن يغض الأخرى، النظر خيانة، مثله مثل الإحساس، والاعتراض، والاستقلال، والطموح.
يقف المجتمع الطاهر مع القضايا العادلة بشجاعة، دون التفريق بين العدالة والمصلحة، هو بارع في جعل الأمرين يلتقيان، مهما يكن الأمر صعبا، كما يبرع في استثمار وقفته الشجاعة لمواصلة تلميع الصورة، حتى لو عنى ذلك أن يمسحها بدموع ودماء ضحايا الحرب، فالحرب بأسرها وُجدت من أجل أن يساندها الشعب الطاهر، ويُثبت بطولته، وهذا مغزاها الوحيد، وما القتلى، والنازحون، والمُعذبون، والميتون جوعًا إلا لاعبون ثانويون، «كومبارس»، لا أقل ولا أكثر، دورهم يبدأ وينتهي عند إثبات جدارة الشعب طاهر الأخلاقية.
بإمكان هذا الشعب أن يُعرقل أي صيرورة، ويقاوم أي تغيير، ولديه ما يكفي من الثلج الأخلاقي لتجميد ضميره، وفضوله، وقابليته للاستفزاز. وهو -يا الله- غنائي، بليغ، لا يترك عجلة لغوية إلا وأعاد اختراعها.
فلا عجب بعد هذا أن نرى باقي الشعوب تستثيره، وتستهدفه، وتحاول أن تغزوه بأسلحة ليس أقلها الفكرة، فكيف لهذه الطهارة الهشة أن تقاوم فكرة؟ من خصائص الثوب الأبيض أنه قابل أكثر من غيره للتدنيس، تفكيك الأفكار، تأملها، نقدها ليس من وظائف الشعب الطاهر، وظيفته الوحيدة هو أن يتخذ وضعيته الأنيقة، في ثوبه الناصع، لتُلتقط له صورة تتحدى الزمن في ثباتها.
نوف السعيدي كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم