أعمدة

سردية الصمود الفلسطيني

يسأل المذيع ضيفه الطبيب العائد من غزة. هل هنالك أشياء تتذكرها من هناك؟ يقول نعم، أفعل. الرائحة الزكية التي تشبه المسك من الشهداء، يبتسم المذيع لكي لا أقول أنه يضحك ويقول «تتذكرها»؟ فيجيب ضيفه نعم. خطفتني تلك الابتسامة التي رد بها المذيع على حديث كان الطبيب قد قال فيه بأنهم يفتحون حقيبة يوضع فيها الشهداء وتلك الرائحة الزكية التي أشار لها. ما الذي يمكن أن نفهمه ونقرأه من ردة الفعل هذه؟ يتم التعامل مع الفلسطينيين كرموز ميتة طيلة الوقت، هذا مصير الفلسطيني المحقق والحتمي، بل إن ذهبنا أبعد من ذلك، فيمكننا أن نقول إنها هويته. وأنه بموته إنما يحقق الذات التي نتوقعها عنه. هالني كيف أننا نتحدث عن إنسان لديه قصته وعائلته، وقتل بهذه الطريقة البشعة والمروعة ليصبح موته، مسألة تستدعي الذكرى والابتسام. لا أقول إن المذيع كان يقصد الضحك على الشهيد، ليس هذا ما أحاول الإشارة إليه لا من قريب ولا من بعيد. ما أحاول قوله، هو تصورنا العميق عن الفلسطيني، كيف نفهمه، أو بلغة مفهومة أكثر: كيف يظهر في اللاوعي الخاص بنا؟

أراقب من بداية الإبادة الجماعية في غزة في السابع من أكتوبر تناول الإعلام العماني لها، كنتُ مع زميلتي نايلة البلوشي في برنامج تفاصيل الذي يبث على إذاعة سلطنة عمان قد خصصنا حلقة للحديث عن كلمة الرأي التي نشرت في جريدة عمان وعنوانها: «إسرائيل خطر حقيقي على الإنسانية» بتاريخ الثالث عشر من يوليو وفرحنا بقدرة هذه الكلمة على أن تعبر عن رأي سلطنة عمان حكومة وشعبًا في هذه المأساة والجريمة، لكن ماذا عن الثقافة الفردية لدى الصحفيين في شتى المواقع الإعلامية في سلطنة عمان؟ لطالما انزعج الغزيون من تصويرهم كمثال للصمود، قال لي أحد أصدقائي، أشعر عندما أقرأ ما يكتب أو يقال عنا بأننا كائنات فضائية! أرجوكم الصمود ليس كل شيء، أفهم ما قاله هذا الصديق: ففي هذه النظرة تخلٍ من جانبنا، تنازل عن مسؤولية العالم أجمع إزاء الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الصهيوني ضد الفلسطينيين، صار يتوقع من الفلسطيني أن يكون رمزًا فحسب، وهو صامد لا محالة. يمكنه في هذه الحالة أن يصبر أن يتحمل، وأن يتعامل مع الجريمة الواقعة عليه. جوهر هذا الاعتراف إيمان ساذج آخر بأنهم لا يبادون، بأنه لن يتم قتل الجميع وإنهاء الحياة هناك أبدًا، وأن هذا الجيش المجرم والدولة المجرمة غير قادرة على محو غزة عن بكرة أبيها فلا يعود هنالك من يصمد ممن توقعنا منهم ذلك.

أفهم الدوافع الطيبة والبريئة وراء هذه الدعوى من قبيل الإشارة لحق الفلسطينيين بأرضهم، وتمسكهم بها على الرغم من الفظائع التي يمرون بها كل لحظة، لكنني لا أستطيع إلا اعتبارها سذاجة عندما تصدر من صحافي أو مثقف، ينبغي أن يشتبك مع الموضوع الذي يتحدث عنه، وأن يستعد جيدًا لتأدية واجبه المهني. لا أريد أن أتخذ نبرة فوقية أو استعلائية هنا، لكنني حقًا أشعر بالظلم عندما يتم تصوير الفلسطيني بهذه الطريقة، كما أنني أؤمن أن مشاعرنا سياسية، وأن جزءًا أساسيًا مما ينبغي أن لا نهزم فيه وأن لا يستلب منا هو الغضب! الغضب من كون العالم يسير على هذا النحو، الغضب من استمرار الإبادة، الغضب من الشهداء المكتنزين في الحقائب، الغضب من وجود شهداء أصلًا، لا أتخيل إلا أننا نقف مروعين مذهولين أمام حقيقة أن هذا يحدث الآن. أما السبق الإعلامي والحوارات غير المدروسة والابتسامات في غير محلها فهي مهادنة وتطبيع مع الواقع المروع.

أفكر في هذه المواقف أننا مغيبون بطريقة ما إننا في غيبوبة بمعنى آخر تنطوي هذه السلوكيات وإن كانت دقيقة وصغيرة على أن ارتباطنا بما يحدث هناك محدود إن لم يكن معدومًا. أتذكر في هذا السياق نصًا مهمًا للشهيد الكاتب حسين مروة بحسب تقديم مجلة باب الواد والذي أعادته نشره عام 2019 بعد أن نُشر النصّ في صحيفة «النداء» البيروتيّة، بتاريخ 20-6-1982. قدمته مجلة باب الواد: «يأخذنا الشهيد مروة إلى عالم الحزن الذي بإمكانه أن يبني تاريخًا ويهدم آخر، الحزن الذي بمكنته أن يكون سلاحًا ضدنا يحمله العدو بوجهنا، أو سلاحًا نشحذه بوجهه».

يكتب مروة في رده عن الفرق بين حزنين، حزن المراقب من بعيد والمهزوم والسلبي والمتخاذل والعدمي وحزن من في موقع المعركة، حزنين لا يشبه فيهما الشمس البحر فيقول:

«الفرق يا صديقي:

أنّ حزنك هو الحزن القاتل، إنّه يقتلك أوّلًا، وإنّه -أوّلًا وآخرًا- قاتلٌ من القتلة في صفّ العدو.. إنّه يوجه الرصاص، نفسيًّا ومعنويًّا، إلينا في معركة الصمود التي هي الآن عماد معركتنا الوطنيّة -القوميّة- الديمقراطيّة كلّها.

وأنّ حزن «الفتى» في مكانه من المعركة ذاتها، هو الحزن المُقاتل.. إنّه الحزن المقدّس، إنّه «الحقد الشريف».. إنّه الشكل الأجمل والأنبل للحزن العظيم..».

أمل السعيدي كاتبة وقاصة عمانية