أعمدة

أول القصص (3)

عندما كنت أرى كتاب العوْتَبي الصحاري «الأنساب»، أمرُّ عليه دون أن أفكِّر في فَتْحه أو النظر فيه، لسببٍ بسيطٍ، وهو أنّ وَفرةً من كُتُب الأنساب، كانت مُمِلّةً، مُضْجِرةً، تُصيبُني بالنُّعاس والتثاؤب والكَدَر -شأنها شأن كتب اللّغة- حتّى وأنا أتصفّحها فحسبُ، كُلّها أسماء وألقابٌ وقبائل وبطونٌ وسُلالاتٌ لا شأن لي بتتبّع أشجارها ولا أغصانها ولا أوْراقها، ولكنْ ما كان يعنيني دوما هو القَصصُ، الحكاياتُ، الخُرافات، لأنّي على يقينٍ تامٍّ أنّنا نعيش دوما حكايةً ما، وأنّ الكونَ حكايةٌ، وأنّ الإنسان كان دوما حاملا لحكايةٍ عن الماضي وعن المستقبل، عن بدْءِ الكون، وعن منتهاه، ولذلك فإنَّ الإنسان كائنٌ حكَّاءٌ، حاملٌ لحكايةٍ لم يتخلَّص منها عبر مراحل تكوّن التاريخ القديم والحديث والمعاصر. ولكن عندما أردتُ هذه الأيّام أن أشتغل على المُتخيَّل السرديّ في كُتب الأنساب، تذكّرتُ كتاب الأنساب للعوتبي الصُحاريّ العُماني، ودهشتُ ممّا ضمّه هذا الكتاب من قصص وحكايات، وكأنّه لم يكن كتابا في الأنساب، وإنّما هو مدوّنةٌ لقوّة التخييل العربي (ذِكر مبتدأِ الخلْق- ذِكر شيءٍ من أخبار الملائكة- أخبار إبليس لعنه اللّه- ذِكر الجنّ- ذِكر خلق آدم وذِكر شيء من قصّته- ذكر هبوط آدم وحوّاء من الجنّة إلى الأرض- قصّة قابيل وهابيل- قصص أبناء آدم- قصّة نوح- قصص أولاد نوح- قصّة قوم عاد)، وابلٌ من الحكايات التي يتفنّن العوتبي في تتبّعها، فالنَّسب في كتابه، هو علّةٌ وسببٌ للدخول عالمَ القصص الشهيّ البهيّ، قصصٌ يُفتِّح مِن ممكن السرد ما يُرْضي المتلقّي المتلهّف لحكايات مثل حكاية إبليس واسم زوجته وأبنائه، وأين يقيم في عالم الشهادة، ومن دلائل أنّ المتلقّي يتلهّف لمثل هذه القصص ويطلبها أنّ الأمر بلغ الراوية، المحدّث، الشعبيّ (وهو من الرّواة الحفّاظ) إذ سُئل عن اسم زوجة إبليس، فكان جوابه طريفا خفيفا إذ قال: «ذلك نكاحٌ ما شهدتُه»، غير أن العوتبي يُوجِدُ لإبليس زوجة ويسمّيها «أوه» رافعا الرواية إلى أبي هريرة، ويُوجد له ذريّة وأبناء ومكانا يقيم فيه هو بطون الحيّات، أفليس هذا العالم من المُخترع القصصيّ جديرا بالتقصّي والإثارة وإعادة التمثّل وبناء عوالم من مُدركات الذهن العربيّ وقُدرته على صناعة عوالمه التخييليّة، الماورائيّة المُجانبة لحياته العينيّة المُدرَكة؟

الشيطان قصّةٌ لا يقتصر راويها على ثنائيّة «العصيان واللّعن» والوعد بالغواية، بل يُصبح الشيطان الملعون، مجالا وإطارا وفضاءً لحكاياتٍ ممكنةٍ، تصدر عن «المُحدّدات الكبرى» لكونه، التي تُشكِّل هيكلا سرديّا لا يحيد عنه الراوية، ويعمل على توسيعها وتأثيثها، ولذلك فإنّ العوتبي يخصّه بفصلٍ يُفرده له بعنوان «أخبار إبليس»، هي قصّة إبليس من منظور المخيَّلة القصصيّة العربيّة التي لا ترضى بألاّ يكون لإبليس حكاية، تحكي العصيان وما قبل العصيان وما بعد العصيان.

الخَلْقُ قصّةٌ فيها أوْجُهٌ ومراحلُ وتفسيرٌ للأسماء والظواهر، فاللّه تبارك وتعالى لمّا أراد «أن يخلق سماء «وأرضا» خلق الله الريح فسلَّطها على الماء، فضربته موجا وزبدا ودخانا. فقال للزبد: اجمد فلمَّا جمد جعله أرضا، قال وللموج: اجمد. فلمَّا جمد جعله جبالا. وقال للدخان: اجمد. فلمّا جمد جعله سماء»، تلك علّة خلق السّماء والأرض، وعناصر الكون، ويتوسّع العوتبي في روايته، حكايةً لخلْق التربة والجبال والشجر والمكروه والأنعام والدوّاب، وتوزيع هذا الخلق على أيّام الأسبوع حدّ بلوغ يوم الجمعة، يوم الجمّع الذي نفخ فيه آدم وجمَعه يوم الجمعة «فسُمِّيت الجمعة». وقس على ذلك في خلْق الجنّ وطبائعهم وأصولهم وعلّة تسميتهم.

آدمُ في خلْقه وعصيانه ونزوله وتفرّع ذرّيته وتنازعهم قصّة، نوح وإعادة الخلق بعد أن غمر الطوفان الأرض، وأفنى البشر والشجر والحيوان قصّة. يتحوّل النّسب إلى قصص وحكايات وأساطير تدعو شهيّة البحث، نظرا في قُدرة المُخيَّلة العربية على ابتداع عوالم تُصَاغ وفق تصوّرات ومُدركات شافّة عن رؤية الإنسان للعالم من حوله، وعن عدم استطاعته العيش بدون روايةٍ وقصّة يهنأ بها، عن بدْء الخلْق وعن الجنّ وعن الشيطان وعن آدم، وعن التحوّلات الكبرى في تاريخ البشريّة، وعن الأنبياء والصالحين، وعن الأبطال الخارقين والملوك الفاعلين. ولذلك فقد لاحظنا أنّ العوْتبي يعي جيّدا أنّه يقصّ وأنّه لا يجرُد شجرة النّسب فحسب، فأورد في مقدّمته قوله: « هذا الكتاب يشتمل على ذكر شيء من مبتدأ الخلق والملائكة عليهم السّلام. وشيء من أخبار إبليس لعنة الله. وسكّان الأرض وعُمَّارها قبل أن يَخلق الله آدم عليه السلام، وقصة آدم صلوات الله عليه، وما كان من شأنه، وأمر ولده من بعده. وتسميتهم، إلى ذكر نوح عليه السّلام، وولده من بعده، وولد ولده حين بعثه الله إلى قومه، وأمر الطوفان، وذكر وَلد نوح عليه السلام من بعد ذلك، حين قَسَّم بين أولاده الثلاثة: سام: وحام، ويافث، ونزول كلّ قوم منهم في أي أرض وبلاد، وما كان من الأحداث التي كانت بعد نوح وقبل إبراهيم صلوات الله عليهما، وما كان من بعدهم من حديث قوم عاد، وما كان من أمرهم حين أهلكهم الله بمعصيتهم، وثبوت المُلك من بعدهم لقحطان بن هود، وولده من بعده. وذكر إبراهيم الخليل. صلوات الله عليه. وولده وتسميتهم».

النّسبُ في كتاب العوْتبي هو بيانٌ لنسب الكون، ولنسب الإنس والجان، ومحتوى لقصصٍ مُختَصرٍ مبينٍ عن ميلٍ أصليٍّ عند العرب إلى الحكايةِ، وإلى ميلٍ لإيجاد الأجوبة على ما بدا ما ورائيّا أو ما بدا غائما غامضا في المسرد الدينيّ أو التاريخيّ، وهنا تحضُر المُخيّلة القصصيّة الشعبيّة ذات القدرة القصصيّة الطليقة والحرّة، تُوجِدُ للكوْن قصّةَ خلْقٍ، ولإبليس حكايةً وزوجةً وذرّيةً وعالما قبل العصيان وبعْده، وتُوجِد لآدم قصّة تُبئّرُ نزوله إلى الأرْض وتُواصِل حكايته التي تقف دينيّا عند إنزاله الأرض عقابا وغفرانًا، لترصُد الروايةُ الشعبيّة القصّة الأرضيّة لآدم ولذرّيته. فمقامُ هبوط آدم حكايةٌ فيها أوجهٌ وصفات وأحوال وحكاياتٌ يُمكن أن تكون لطالب السرد، مُعْمل الخيال، صانع العوالم باللّغة مهادًا روائيّا منفتحَ الأبواب.

وفرةُ هذه الحكايات تُمثّل أمرين بالنسبة إليّ، الأمر الأوّل علميّ بحثيّ، يخصّ النَّوى الأوليّة لتخلّق السرد العربيّ، نظرًا في تأصيل أصوله، التي تعود إلى منْبتٍ دينيّ في جانبٍ منه، وإلى منبَتٍ قوميّ عرقيّ ظاهرٍ في كتب الأنساب، وإلى منبتٍ شعبيّ جامعٍ، وهذا الأمر يمكن أن يقود إلى إثارة مباحث علميّة في كليّات الآداب التي تعيش فقْرا في إيجاد مواضيع بحثيّة. الأمر الثاني إبداعي، يخصّ فكرةً ما زالت ثابتةً في ذهني وهي أنّ الرواية الحديثة تستمدّ قوّتها وأُلقها من قوّة أساطير الشعوب وموروثها القصصيّ الشعبي، وموروثنا القصصيّ الشعبي ما زال بِكرا غفلا، يحتاج روائيّا فطِنا لإيقاظه.