عمان الثقافي

بين ظلمة الأسر وسماء الجائزة

في أيام بيت الزُبَير للسرد، أثناء الاستراحة بين الجلسات شاء الله لي أن ألتقي بالناشرة رنا إدريس أول مرة، كان لقاءً خاطفا وجميلا فلم أكن أعتقد يوما من الأيام أني سألتقي بها، كان ذلك بعد صدور القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية ببضعة أيام، سألتها: أين دار الآداب من القائمة هذه المرة؟ ذكرت لي وصول رواية باسم خندقجي ومضى الحوار سريعا مؤذنا ببدء الجلسة التي تليها بعنوان سلطة الجائزة.

وانقضت أيام بيت الزبير وانقضت اللحظات السعيدة ثم جاء موعد إعلان القائمة القصيرة في فبراير المنصرم وقد تأهل إليها من مصر الكاتب أحمد مرسي عن روايته «مقامرة على شرف الليدي ميتسي»، ومن المملكة العربية السعودية الكاتبة رجاء عالم عن روايتها «باهبل مكة»، وقد فازت الكاتبة بالبوكر سابقا عن روايتها «طوق الحمام»، ومن المغرب الكاتب عيسى ناصري عن روايته «الفسيفسائي»، ومن سوريا الكاتبة ريما بالي عن روايتها «خاتم سُليمى»، وحريٌّ بنا أن نشير إلى عناية لجنة التحكيم بالقضية الفلسطينية هذا العام؛ لما غيرته أحداث السابع من أكتوبر عام 2023 فقد وصلت من فلسطين روايتان، الأولى من الكاتب أسامة العيسى بعنوان «سماء القدس السابعة»، والأخرى للأسير الفلسطيني باسم خندقجي التي حملت عنوان «قناع بلون السماء».

وقد لقي خبر وصول رواية الأسير إلى القائمة القصيرة هجمةً عنيفةً من الكيان المحتل، فهل يحيط الأسير نفسه بسماءٍ تحرره من الأسر يوما؟، هل يمكن أن تكونَ الأقنعة سماءنا التي نحلم بها فنتحرر من قبضة الليل المظلم؟ وصلنا حقا إلى نتيجة مفادها أن الكتابة مقاومة وانتصارٌ لصوتِ الحق.

إن من ينظر إلى هذا العمل نظرةً سياقيةً يعرف أن هذا النص خرج من ولادة متعسرة؛ فأن تكونَ في سجن مستعمرٍ يتبع نظام الفصل العنصري ويحاول دائما أن يضع قناع الضحية ويخفي وجهه الحقيقي الذي لا يخفى على أحدٍ فهذا يجعلك تبذل جهدا مضاعفا في النضال وانتزاع الحق والدفاع عنه.

أتأمل هذا العنوان الذي بين يدي وأرى أن هناك ثنائية في العنوان، الكلمة الأولى القناع التي تدل على الخفاء والاستتار وكلمة السماء وهي الكلمة الأخيرة في العنوان، ثنائية التجلي والوضوح في السماء التي تكون ظاهرةً عادةً، تكون ظاهرةً وتظهر ما فيها من أجرام، وهذه السماء تبدو ملائمةً للنور فاسم نور مهدي الشهدي يظهر السردية الحقيقية، وحكاية اللجوء والمعاناة وخيبة الأمل والتهجير مهما كانت قسوتها، غير أن هذه السردية لها صوتٌ عالٍ دائما، فصوت الحقيقة لا يخفت وهو واضحٌ لكل من يبحث عنه تجده في دموع المتعبين، الحالمين تحت أنقاض منازلهم الباحثين عن أجزائهم التي ضَيَّعتها الشظايا مهما ظهر العكس، كذلك تمثل هذه السماء سماء إسماعيل القادمة من حيفا باغترابها وقوّتها التي تحاول أن تشهرها في وجه المحتل، فكانت نِدَّا قويا لأيالا. ويمكن أن ننظر إلى هاتين بصفتهما روايتين كاملتين فننقل هذه الشخصية من مفهومها الخاص بصفتها شخصية إلى وظيفتها العامة التي تمارسها في العمل السردي من حيث إن كل واحدةٍ من تينِك الشخصيتين تحمل سرديةً مغايرةً، وكل واحدةٍ منهما تصارع من أجل أن تبقى فيكون على الشخصية الأخرى أن تختفي فتبقى في النهاية الشخصية الحقيقية وتنتصر في نهاية الرواية ضد القناع. هذا القناع الذي يخبئ أور داخله شخصيته الحقيقية قد يكون سماءً بالنسبة للقصة المزيفة التي يحاول أن يصنعها المحتل ليثبت حقه الوجودي في تلك الأرض.

عندما يتحدث السارد عن نور وشخصيته الحقيقية يعرفنا على المخيمات وكيف تخلد وكيف تسطر أمجادها، وكيف يكون الدم رمزا للألم في أعتى مراحله، وكيف يمكن للدم أن يكون الناطق باسم مخيم، وكيف يكون الدم مانحا للقب المخيم.

زمن الرواية

إن زمن الرواية كله في شهر رمضان، والمصادفة الغريبة أن زمن الرواية جاء مشابها لزمن القراءة بالنسبة لي، ويبدو أن شهر رمضان بقدسيته انعكس على الرواية ليس في طقوسه فحسب بل حتى في استحضاره لبعض الرموز الدينية الإسلامية والمسيحية، غير أن الرواية التي أراد نور أن يكتبها والتي تصاعدت من أجلها الأحداث رواية مريم المجدلية، وهي مفصل الرواية التي تفصل بين قسميها الأول والثاني، بين نور وأور كانت تعرض الحقائق التاريخية والفرضيات بشكل قد لا يناسب القراء فتلك الرموز يجب أن تسبقها خلفية ثقافية عن المسيحية والمبادئ التي تقوم عليها.

بين القدس ورام الله

حتى نور الذي يسكنه الألم استعدادا لولادةٍ جديدةٍ دائما ما تحدث إلا ليكون حُرّا ومتخلصا من قبضة صمته وحزنه في لحظاتٍ معينة أو في مكان معين يسكن فيه، هل يمكن أن نقول إنها سلطة المكان؟ هل يمكن أن يكون المكان كالمرآة؟ هل يمكن أن يكون المكان إنسانا بهيئةٍ أخرى غير الهيئة التي اعتدنا عليها أنه إنسان مثلنا لكنه يزيد خيبتنا بصمته وخيبة أمله هو الآخر؟ رأيت أن المكان بما يحتويه من حركةٍ ومعالم وأناس وسماء يمكن أن يأوينا كلما اعتقدنا أننا سببٌ من أسباب الخذلان الذي يكابده من نحب، كلما كانت الذاكرة ملغومة بما لا يمكن أن تمحوه سنوات وعقود كذلك كانت القدس بالنسبة لنور والشيخ مرسي، القدس بحاراتها ومعالمها المقدسة بجمالها الذي لا تسمع في حضوره إلا همسا.

إحالات الرواية

عند قراءة الصفحات الأولى من الرواية تصادف الإحالات خارج النص وقد تُكسب النصَ الإحالاتُ قيمة في النص رغم أنه جاء بفكرة مميزة وهي فكرة البطاقات الصوتية التي يرسلها إلى صديقه الأسير لكنه يجعل الشخصيات قريبةً منا ومن الواقع الذي نعيشه كأن هذه الشخصيات تعرف من يكون كاتب ياسين، وإلياس خوري ودان براون الذي أحال عليه كثيرا وسائر الإحالات التي كان معظمها تتحدث عن الاستعمار وأشكاله وأثره، فالاستعمار ظاهرة غير جديدة ويمكن لكل فرد أن يميزها ويعرف أشكالها المتعددة.

السجن الأكبر والسجن الأصغر

السجن يتكون من ثلاثة عناصر السجن السجان السجين فما السجن الأكبر؟ أهو الذات؟ أم هو كلُ ما يصعب على المرء مواجهته والتحرر منه؟.

لقد قرأت هذا العمل الفلسطيني بعد مُدَّةٍ من الهجر الطويل لكن باسم أحدث في داخلي عددا من التساؤلات، عن الحرب وهل يمكن أن تنقل الإنسان من الهامش إلى المتن، هناك تساؤلات أخرى وُلِدت وتشكلت بفعل قراءة هذا العمل لخصوصيته وظروف كاتبه المتعسرة، ولو أني والرواية ليست من الصنف الذي يجذبني؛ بسبب وضوح النهاية، وجدت أن النهاية لم تكن مناسبةً للتصاعد الحاد للأحداث بعد أن تهدد نور الخطر وهو يدخل الأراضي المحتلة، لا أرى أن تَقَمُّصا بهذه القوة يجب أن ينتهي بهذه البساطة، من جهتي لا أحب الأعمال ذات الحوارات الطويلة والكثيرة والمُكَثفة، أميل إلى الوصف والتفاصيل التي تؤثث المكان في الرواية، أحب الروايات ذات الشخصيات الكثيرة، أشعر أنها تمنحني أمانا في الرواية تجعلني لا أبدو وحيدة في العمل فلا أشعر بالوحدة أو الاغتراب أحب اللغة الواصفة التي تطلعك على الأحداث من دون تلك الأحاديث والرسائل الطويلة التي قد تضيع بسببها في التقاط أحداث الرواية لكن الرواية لفتتني في بداياتها، أسرتني أسماء الشخصيات وأن كل شخصيةٍ تحمل في اسمها كثيرا مما لم تقله الرواية، نور مهدي، شمس اللد، سمية، الشيخ مرسي، سماء إسماعيل ترينا، أن القضية أكبر بكثيرٍ من كل أشكال التشويه والتغييب والطمس ولو بدا لنا عكس ذلك.

قرأت قبلها أم سعد ورجال في الشمس وعائد إلى حيفا لغسان كنفاني، قرأت الملهاة الفلسطينية كاملةً ثم مجموعة عودة الياسمين إلى أهله سالما لإبراهيم نصرالله، وقرأت له أعمالا أخرى بعد هذه الرواية عدت لأقرأ «تفصيل ثانوي» لعدنية شبلي وأعتقد أن قراءاتي لن تتوقف هنا، ستشق طرقا وستحفر أنفاقا وستتخذ سلالم تصعد بها عاليا لتصبح الأفكار مرئية ويصبح الحق واضحا دائما ويصبح منتشرا لا يخفى على أحدٍ أبدا.

الشيء الذي كان مُحْزِنا ومؤثرا في الوقت نفسه، استلام الناشرة رنا إدريس للجائزة، ثم حضور فرد من أفراد عائلة الأسير للتوقيع على روايته في معارض الكتب، إن هذين المشهدين يجعلانك تبكي فرحا وحزنا في الوقت نفسه، تبكي فرحا؛ لأن الأسير تحرر رغم الأسر تحررت أفكاره ليسمعَ صداها العالم، والمحزن الغياب لكن كثيرا من الذين يكتبون رغم غيابهم فهم حاضرون، وكتبهم تنطق عنهم؛ لأنهم ينطقون عن الإنسان، وكذلك باسم تحدث عن الذين غلبهم أساهم فكان للرواية أن تكونَ حاضرةً رغم كل شيءٍ.

ريان بنت خميس المخينية كاتبة عمانية