أعمدة

تجفيف منابع العنف مسؤولية الجميع

تفرض الأحداث الحزينة على الإنسان التفكير في أسئلة كبرى من قبيل كيف؟ ومن؟ ومتى؟ أما لماذا وقعت الواقعة؟ فلا محل لها من التساؤل، فالعنف المؤدلج يُعمم على كافة المجتمعات والدول مهما حاولت بعض الدول تجنبه، خاصة مع تنظيم داعش، فقدرة التنظيم على عبور الحدود الوطنية وسهولة استقطابه للنخب يجعل المرء يحار في كيفية التعامل مع خطورته والحد من تغلغله في طبقات المجتمع المستقرة اجتماعيا واقتصاديا.

أوجد الغرب التنظيم الإرهابي، سواء كفعل أو ردة فعل، عجل بظهوره على الساحة، بعد التدخل الدولي في كل من العراق وليبيا والصومال وغيرها من الأماكن التي قضت فيها القوات الأمريكية خاصة على مؤسسات الدولة المدنية، حتى وإن كانت هشة أو لم تمارس الديمقراطية على الطريقة الغربية، إلا أنها حافظت على الأمن العام والسلم الاجتماعي لشعوبها وعاملتهم بقدر معقول من المساواة والعدالة. صحيح أن التنظيم يتغذى على مخزون هائل من العنف التاريخي المكتوب، ولم تتم غربلة التاريخ أو قراءته من جديد وفق تطلعات الإنسان ورغبته في العيش بسلام بدلا عن اجترار الأحداث التاريخية واجتراح الجراح والأحزان وتقديسها.

إن القصد من الكتابة عن التنظيمات الجهادية الراديكالية هو محاولة فهم طريقة التنظيمات في التأثير على عقول النخب والأفراد المنتمين إلى طبقات اجتماعية متوسطة الدخل لا يعوزها المال ولا الجاه ولا المستوى التعليمي والثقافي، فمثلا ما دوافع انضمام مغني الراب الألماني دينيس كوستر، وكذلك مطرب الراب البريطاني ذي الأصول المصرية عبدالمجيد عبدالباري، أو الكندي أندريه بولين الذي يتقاضى مرتبا بقيمة 2000 دولار شهريا، أو أستاذة الفقه والاقتصاد الإسلامي في جامعة الدمام الدكتورة السورية إيمان مصطفى البغا التي تركت التدريس وانضمت إلى التنظيم الإرهابي مع أطفالها، وكذلك فعل الموريتاني محمد ولد بريهمات حامل شهادة الماجستير في الاتصالات وشبكة المعلومات، أو صافنات ابنة السفير السوداني علي الصادق، وغيرهم من أبناء وبنات رجال أعمال سودانيين درسوا وأقاموا في الغرب، ممن لا ينقصهم المال أو المكانة الاجتماعية ولا الشهادات العلمية، فكيف جرى تجنيد هؤلاء الشباب وغسل أدمغتهم؟

إن مواجهة الغول البارع في استخدام وسائل التقنية الحديثة مثل تنظيم داعش يتطلب إجراءات وعمليات تصحيحية في المؤسسات التربوية، بدءا بالبيت وليس انتهاء بالمادة الإعلامية الموجهة إلى جيل يتأثر بما يشاهده، وليس بما يسمعه أو يلقن إياه ويتلقاه من وسائل ومنابر تقليدية. فالعديد من الشباب الملتحقين بالتنظيم الخطير يحملون شهادات ولكنهم يفتقرون إلى الوعي الذي يعني الإدراك والفهم، وأن الإنسان خُلق للتعمير والبناء وفعل الخير وليس للتدمير وقتل الأبرياء، بمعنى أن وسائل الثقافة التقليدية عجزت عن التركيز على بذرة الخير المغروسة في جوانب الإنسان المعروفة بالفطرة الإنسانية.

لذلك ينبغي التفكير في جرعات التحصين بأفكار غير تقليدية تتوافق مع أذواق الباحثين عن الاعتراف والاهتمام وتتماشى مع صيحة الألفية الثالثة التي وفرت لكل فرد منصة اتصال ومساحة مطلقة من التواصل مع الآخرين. هل علينا القول: إن المراجعة يجب أن تبدأ الآن وليس غدا، وهل علينا التفكير في إعادة مادة الفلسفة والتفكير النقدي إلى المناهج الدراسية في مؤسسات التعليم العام والعالي؟ وهل الثقافة يمكنها تقديم حلول ناجعة لإعادة الاعتبار للذات عبر الفنون والآداب وأشكال التعبير التي يستعصي على حاملها التعبير عنها فيلجأ إلى العنف للتعبير عن الذات؟ الثقافة تصنع الوعي الذي يرمم الذات الباحثة عن الاكتمال أو الاحتواء والقضاء على العنف وتقديم الخير للبشرية، مع التركيز على إرادة الإنسان في تجاوز المعضلات والمعيقات عن تحقيق فكره على أرض الواقع.

يجب علينا في المرحلة القادمة التعاطي مع الواقع بعدم التهاون أو التعويل على لحمة المجتمع وتماسكه، فهذه مكتسبات وطنية ثابتة، ولكن التنظيم الذي يعبر الحدود يختار تابعيه بعناية يصعب فهمها، فهو ليس كالتنظيمات الأخرى أو العصابات التي تبحث عن نقاط ضعف في ذوات المنضمين لها كالمنتمين إلى الفئات الاجتماعية المهمشة أو الأقليات أو من أصحاب السوابق ممن يبحثون عن الطهارة الروحية والتكفير عن خطاياهم، فداعش يبحث عن نقاط القوة في داعميه ويستغلها ويوظفها في عملياته.