أعمدة

عمر أميرَلاي: الإخلاص للفيلم الوثائقي

سأقول ببساطة مفرطة إنني تأثرتُ بسينما عمر أميرلاي منذ أول مرة تعرفتُ فيها على أسلوبه قبل عدة سنوات. لا كاميرا معي، لكنني لا أستريح إلى اليوم من التفكير بكتابة شعرية مُجففة الألوان تشبه هذه السينما؛ شعر وثائقي ينحاز بلا رحمة لوصف المشاهد بالأبيض والأسود، بلا اعتماد يُذكر على البلاغة والجماليات اللغوية.

كانت زيارتي الأولى له عبر فيلمه الوثائقي القصير «طبق السردين أو المرّة الأولى التي سمعت فيها بإسرائيل» الذي أنجزه عام 1997. يصور هذا الفيلم زيارة طلليَّة لما تبقى من مدينة القنيطرة الواقعة في مرتفعات الجولان، المدينة التي احتلها الإسرائيليون في اليوم الأخير من الأيام الستة لحربِ 1967 وحرصوا على تدميرها بالكامل قُبيل انسحابهم عام 1974، تاركينها درسا للعبرة في الجبهة السورية. نرى مع بداية الفيلم المبنى المدني الوحيد الناجي من هذا الدمار؛ صالة عرض سينمائي قديمة عُرفت باسم «سينما الأندلس»، ونتتبع خلاله جولة المخرج السوري محمد ملص، ابن القنيطرة، وهو يتنزه بين الحارات المدمرة مستعيدا ذكريات فيلمه «القنيطرة 74». وفي المشهد الأخير تتملى الكاميرا هضاب الجولان الواقعة على الشريط الحدودي، مطلةً على مأساة النازحين الذين يتبادلون رسائلهم مع ذويهم خلف الحدود بمكبرات الصوت.

بالرغم من وضوح نبرتها التسجيلية الكاشفة، كما في هذا الفيلم القصير، إلا أن السينما التي صنعها عمر أميرلاي بين عامي 1970 و2003، أي بين فيلمه الأول حتى فيلمه الأخير، تبقى غير قابلة للاستهلاك بمجرد المشاهدة الأولى، بل تظل مسكونة بطبقات من الرؤية، مدعاة لتكرار الزيارة المتأملة في موهبة الكاميرا النافذة إلى شغاف التفاصيل، القادرة على تجاوز مهمتها التلقائية في صنع المشهد إلى مهمة تاريخية أصعب تتمثل في تأليف السردية، حيث ينأى المخرج عن دوره كمرسل مباشر للخطاب مُفسحا المعرض لضيوف الكاميرا المتحدثين نيابة عن أفكاره.

عاد عمر أميرَلاي إلى دمشق عام 1970 خارجا من أجواء الثورة الطلابية في فرنسا (مايو 1968) حيث كان يدرس السينما في معهد نانتير على يد أستاذه جان بيير ملفليل المعروف بالأب الروحي للموجة الفرنسية الجديدة. وفور عودته إلى الوطن سيُخرج الشاب المتحمس للمشاريع الإصلاحية التي يقودها البعث السوري فيلمه الأول «فيلم محاولة عن سد الفرات». تلك البداية التجريبية المتفائلة بمستقبل الثورة الاشتراكية في سوريا ستنقلب في أفلامه اللاحقة إلى حالة نقدية مناوئة للسياسة السلطوية القائمة على التلقين الأيديولوجي لمختلف شرائح المجتمع السوري، فهو يقول بعد سنوات عن فيلمه الأول: «كنتُ من أنصار تحديث بلادي بأي ثمن، واليوم ألوم نفسي على ذاك الاندفاع الطائش». لذا كان لافتا أن يختتم هذا المخرج الفريد مسيرته السينمائية من حيث بدأها بالعودة إلى قصة سد الفرات في قرية «الماشي» التابعة لمحافظة الرقة حيث سيصور فيلمه الأخير «طوفان في بلاد البعث».

كاميرا أميرَلاي «المتشيطنة» كما يصفها فجر يعقوب تستنطق ضيوفها بجرأة لا تُقاوم، مثل نظرة حادة لا تنكسر. لم يستطع سياسي محنك كرفيق الحريري مراوغتها وهو في بيته حيث زاره المخرج الراحل لتصوير فيلمه الأشهر ربما «الرجل ذو النعل الذهبي»، والذي تجرأ فيه المخرج على نقد الفيلم داخل الفيلم نفسه بالاستعانة بآراء ثلاثة من أصدقائه المثقفين: فواز طرابلسي وإلياس خوري والشهيد سمير قصير.

ومنذ رحيل المخرج السوري في فبراير 2011، أي على بُعد أسابيع قليلة فقط من اندلاع أحداث الثورة السورية، ظلَّت هذه السيرة السينمائية المشيدة من نحو عشرين فيلما تفتقد لكتابٍ سِيَري نقدي يغطيها، حتى صدر قبل عامين كتاب الروائي والسينمائي الفلسطيني فجر يعقوب «عمر أميرَلاي: العدسة الجارحة» عن منشورات المتوسط. وهو كتاب يقربنا من سيرة أميرَلاي المخلص بولع للسينما الوثائقية «حين لم تكن تُغري كُثراً من حولها، فضَّلوا العيش مع «لعبة» الممثل والإضاءة والديكورات والتقطيع والميك - أب». ويضيف فجر يعقوب نقلاً عن المخرج الراحل: «قال أمامنا وكرَّر ذلك على الملأ: إنه سيخلص للفيلم الوثائقي؛ لأن هذا الفيلم لا يغدر بصاحبه، كما تفعل الأفلام الروائية بصاحبها».

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني