أعمدة

امرأة مدفونة تحت طبقات من اللحم والمخاوف !

دخلت عيادة الطبيب النفسي بوزن ٢٥٠ رطلا. كانت معالم جسدها غائبة، مزعزعة نفسيا وتنتابها نوبات هلع حادة. لم تكن قادرة على التوقف عن تناول الطعام. لقد حال جسدها دون قدرتها على ارتداء ثيابها. بدت للطبيب امرأة بوجه مُتعدد الطبقات وجسد مغطى باللحم. ولم تكن البدانة وحدها ما يؤلمها، وإنّما ذلك الحكم المُستبد ممن حولها بأنّ النساء البدينات يفتقرن للحيوية والرشاقة العقلية، الأمر الذي دفعها لاكتئاب مُضاعف. آنذاك كان عليها أن تكشف أوراق أسرارها وصولا إلى جذر الشراهة.

ظهرت بصورة المرأة البدينة المرحة التي تقدم الإصغاء والتسلية لأصدقائها. لكن مسلك المرح الذي تُظهره كان يُخفي الألم في قعر نفسها، وكأنّ تسليتها الآخرين محاولة صغيرة لكيلا تفقد اهتمامهم بها. لكنها أيضا كانت تضمر المخاوف من تلاشي الصداقات من حولها، ولذا كانت تعتزل الناس.

قال الطبيب: إنّ الأمر أشبه ما يكون «برفضنا مشاهدة شروق الشمس لأنّنا نخشى رؤيتها تغرب!» هكذا برز صميمها الفارغ من المعنى، فالفراغ شائع عند أولئك الذين يُعانون من اضطراب الأكل.

اللافت في هذه القصّة كامنٌ في قدرة الطبيب على تحرير مريضته من مشاعرها، لنكتشف ما يكمن وراء ذبذبات السطح الطفيفة من هيجان غير محتمل في الأعماق. فهل لكم أن تتصوروا أن اضطراب الأكل عند هذه الشابة وإصابتها بالبدانة المروعة مرده مشاهدتها لموت والدها البدين؟! مشاهدته يتحول إلى هيكل عظمي ملفوف بطيات من الجلد بسبب إصابته بمرض السرطان! وكأن خسارة والدها للوزن جعلته عرضة للهلاك!

يكتشف الطبيب جلسة عقب جلسة أنّ الطعام لم يكن المصدر الوحيد الذي أمدها بالرضا لتخفيف شعورها الحاد بالفراغ، بل شعرت في لاوعيها أنّ فقدان الوزن سيؤدي إلى وفاتها. ولذا اتضح أنّ النكران العميق هو ما يعيثُ بحياتها فسادا.

لم تكن مستعدة لموت والدها، وهو أول من أبدى لها الحبّ الصادق، ورغم أنّ الحادثة وقعت وهي في الثانية عشرة من عمرها، إلا أنّ ذلك الوجع أخذ يظهرُ في ترددات حياتها المستقبلية على مستوى جسدها وعلاقاتها.

وكانت اللحظة التي دفعها الطبيب فيها لأن تواجه هذه الحقيقة هي لحظة التحول، وحشد العزيمة لبدء حمية غذائية جلبت نتائج جيدة على نقيض سابقاتها. هكذا انسلّتْ من جسمها المتكتل رغم مشقة الامتناع عن الطعام. لقد طرحت جسما كاملا منها، وتحولت من المرأة التي ترغب في إضحاك الجميع لجلب الانتباه إلى امرأة تتفكر في نفسها وحساسيتها.

يصفها الطبيب بعد أن فقدت الوزن بـ«امرأة حسنة المنظر مدفونة تحت الطبقات طوال الوقت». آنذاك فكرتُ: ماذا لو لم تفقد وزنها؟ ماذا لو بقيت بدينة؟ كم كان سيتردى قبولها المجتمعي من قبل الطبيب والمجتمع وفرص الزواج؟ فموقف المجتمع من البدانة موقف إدانة صلب دفعها للتفكير في إنهاء حياتها أكثر من مرّة، فقد حولها لامرأة لا يختارها أحد.

هذه القصة الرهيبة تذكرنا بأنّ لأجسادنا ذاكرة وأن تناولنا للطعام لا يحرضه الجوع فحسب، وإنّما تلك الأفكار شديدة التعقيد. كانت تخشى أن تموت كما مات والدها، ولذا ربط عقلها الباطن بين فقدان البدانة والدنوّ من الموت، حتى إنّ الحميات الغذائية التي تسبب تساقط الشعر كانت تتجنبها كيلا تصير صلعاء مثل المرضى.

هذه القصّة من ضمن عشر قصص سردها كتاب لافت بعنوان: «تعرية الحبّ»، ت: جوهر عبدالمولى، وصدر عن منشورات حياة، يسرد فيه الطبيب النفسي ذائع الصيت إرفين د. يالوم، حكايات وقعت أثناء العلاج النفسي «كلها تدور حول ألم الوجود»، والحقيقة أننا كقراء نعاود النظر إلى أنفسنا في مراياها، كمن يقع على دهشة اكتشاف أصيلة.

العجيب أنّ هذا الكتاب بقي لمدة ٢٥ عاما حبيس الأدراج إلى أن قرر الطبيب نشره، فقد وجد قصصه مليئة بالعواطف الجياشة. كان يُدرك الآليات الدفاعية لمرضاه، وكان يجابهها بذكاء، فقد آمن بأنّ لكل واحد منا سمات شخصية تتطلبُ منهجا علاجيا خاصا.

أتفاجأ من إنكارنا الشديد للطب النفسي أو السلوكي، وكيف يفضل بعضنا حتى من المتعلمين الذهاب إلى الخرافات العقيمة، بينما يمكن لهذا العلم أن يكشف وأن يُعري تلك الهشاشة الجوانية طبقة طبقة.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى