عن تنازلات حماس ومجاعة غزة وخطيئة العرب
السبت / 6 / محرم / 1446 هـ - 20:14 - السبت 13 يوليو 2024 20:14
عندما ينشر هذا المقال تكون حرب طوفان الأقصى مرشحة خلال هذا الشهر لتجاوز المدة التي قضتها الحرب العربية/ الإسرائيلية الأولى التي عرفت بحرب 1948 لتصبح غزة صاحبة أطول حرب عربية - إسرائيلية.
أما ضحايا الحرب الحالية من أبناء الشعب الفلسطيني شهداء وجرحى ومفقودين تخطى حرب الـ٤٨ بعدة أضعاف.. ومن حيث التأثير الاستراتيجي قد لا تقل التغييرات التي ستحدثها الحرب الراهنة في القضية الفلسطينية وفي المنطقة بل وفي العالم عن تغييرات الحرب الأولى التي وقعت قبل ٧٦ عاما والتي تغيرت المنطقة بسببها تغييرا شاملا فشهدت ثورات وانقلابات وأتت بنظم حكم جديدة أعادت تشكيل تاريخ الشرق الأوسط الحديث والمعاصر.
في هذه اللحظة التاريخية يكون السؤال عن مصائر الحرب الراهنة مشروعا.. خاصة وأنها تشهد تحولا فلسطينيا وعربيا محزنا معاكسا للبدايات. تحولا لا يتسق أبدا مع هزيمة العار الإسرائيلية في ٧ أكتوبر ولا الفشل المخزي لجيش الاحتلال في تحقيق هدف واحد من أهداف الحرب رغم مرور ما يقرب من عشرة شهور.
هذا التحول هو اضطرار المقاومة وحركة حماس للمرة الأولى لتقديم تنازلات صريحة في بعض مواقفها تقول مصادر قريبة منها إنها تنازلات تكتيكية وهذا أقرب للمنطق. لكن مصادر أمريكية وإسرائيلية تزعم أنها تنازلات جوهرية من شأنها ليس فقط تضييع إنجاز طوفان الأقصى بل تضييع كامل إنجاز المقاومة المسلحة منذ مفترق الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من غزة ٢٠٠٥.
بعبارة أخرى يجري تلخيص الحرب سياسيا في هذه اللحظة في الجملة المتكررة عبر وسائل الإعلام في الأيام العشرة الأخيرة: «التوصل لاتفاق هدنة وتبادل رهائن أصبح ممكنا وقريبا بسبب تنازلات قدمتها حماس» وزاد الرئيس الأمريكي بايدن على ذلك زاعما إن إسرائيل وحماس وافقتا، مساء الجمعة، على إطار صفقة الرهائن التي قدمها قبل 6 أسابيع.السؤال هو لماذا قدمت المقاومة هذه التنازلات رغم صمودها الأسطوري وتكبيدها العدو خسائر بشرية هي عشرة أضعاف ما خسره في حرب ٢٠٠٦؟
لن أتحدث مجددا عن ضغوط أمريكا وحلفائها العرب التي سبقت هذه التنازلات فقد ناقشها مقال سابق لصاحب هذه السطور «تقدير موقف» الجمعة 5 يوليو 2024 هل تحوّلت مناظرة «بايدن - ترامب» إلى خطة لإكراه المقاومة على الركوع؟!. وكانت سببا من أسباب اضطرار المقاومة لتقديم هذه التنازلات الصريحة. ولكن سأتحدث عن العوامل الأخرى التي شكلت بيئة قرار المقاومة بالتراجع سياسيا خطوة للوراء إذ ما زالت عسكريا وفي الميدان صامدة تؤلم العدو وتكبده الخسائر التي توجع قلب إسرائيل يوميا.
العامل الضاغط رقم واحد على المقاومة في التنازل أو المرونة، سمها كما شئت، يتلخص في كلمة واحدة هي المجاعة الشاملة التي وصل إليها سكان غزة.
لا نتكلم عن التدمير الممنهج للزراعة وتدمير المخابز ومطاحن الدقيق وتدمير الصيد في بحر غزة ولكن نتحدث أساسا عن عواقب احتلال إسرائيل ممر فيلادلفيا وما أعقبه من إغلاق معبر رفح البري مع مصر منذ نحو ٦ أسابيع فبعده انقطعت عن غزة تماما كل المساعدات الغذائية والدوائية.
وبات تحذير الأمم المتحدة في مارس الماضي من أن غزة في شبه مجاعة هو واقع أليم تطور إلى مجاعة شاملة. ومع تعطيل المستوطنين المتطرفين لدخول أي مساعدات من كرم أبو سالم وتفكك الرصيف البحري الأمريكي وتوقف الإسقاط الجوي للمساعدات.. لم يدخل إلى غزة منذ ٤٠ يوما كاملة طعاما ولا دواء. استخدام الإسرائيليين للتجويع القسري المحرم دوليا تم الاعتراف علنا بأنه وسيلة للضغط السياسي على المقاومة فبات مليون طفل في غزة مهددين بالموت جوعا ومعهم مئات الألوف من النساء وكبار السن يعيشون بالقرب من مقالب القمامة بحثا عن الغذاء إضافة إلى آلاف آخرين أصيبوا بالتسمم الغذائي لأكل وشرب مواد منتهية الصلاحية لعدم توافر غيرها.
المجاعة الفلسطينية في قطاع غزة والتي قد تدفع المقاومة لتنازلات عجزت إسرائيل عن الحصول عليها بالحرب ليست جريمة إسرائيلية - أمريكية فقط ولكنها جريمة عربية بامتياز. بعبارة أخرى هي ترجمة لكل الخطايا التي ارتكبها النظام العربي الرسمي منذ بداية الأزمة فهي لم تكن لتحدث لو أن وحدات هذا النظام اعتبرت موت الفلسطينيين جوعا هو خط أحمر عليها أن تمنع إسرائيل من فرضه ٢٨٢ يوما على ما يقرب من 2.5 مليون عربي فلسطيني في غزة.
فما كانت إسرائيل لتستطيع منع قرار عربي جماعي بإيصال المساعدات لغزة يوفر غطاء لدول الطوق.. وكان العالم ليقف داعما خاصة مع طلب آلاف من كبار الشخصيات العامة وحائزي نوبل استعدادهم لتصدر قوافل مساعدات تعبر إلى غزة وهو ثمن لم تكن إسرائيل تستطيع تحمله بقتل كل هؤلاء ومعاداة شعوب الأرض جميعا. لكن النظام العربي كان من البداية قد قرر إن من مصلحته القضاء على المقاومة التي تعيق قطار التطبيع وراهنت على أن نتنياهو قادر على ذلك في خلال فترة وجيزة. ورغم أن المقاومة خيبت ظنهم وصمدت ومازالت أكثر من 9 أشهر ورغم أن حاضنتها الشعبية لم تنقلب عليها حتى مع تضحيات بلغت مائة وثلاثين ألفا بين شهيد وجريح ومفقود إلا أن أرواح ودماء الشهداء وأصوات الأطفال الجوعى الباحثين عن لقمة في غزة لم تحرك أي دماء في عروق مترفة يابسة. نظام عربي اعتبرت وحدات فيه أن السلام مع إسرائيل هو ركيزة الأمن الإقليمي والضمانة الوحيدة للتودد ونيل رضا واشنطن وما يتبعه من رضا وتمويل المؤسسات الدولية.. واعتبرت وحدات أخرى أن التطبيع مع إسرائيل سينقل علاقتها مع واشنطن لمرتبة حلفاء الناتو ويقيها من تهديد إيراني حقيقي أو موهوم.
النظام العربي الرسمي لم يكتف بالتواطؤ على حدوث المجاعة في غزة وامتنع عن تحدي قرار نتنياهو قطع الطعام عن القطاع هو نفسه الذي منع انهيار الأمن الغذائي الإسرائيلي بعد نجاح أنصار الله في منع السفن المتجهة لإسرائيل، فوفرت دول عربية طريقا بريا ممتدا من الخليج إلى إسرائيل لشاحنات تحمل كل المواد الغذائية.
كان على المقاومة هنا أن تعتمد على نفسها وتقرر في حدود المتاح تقديم بعض التنازلات التكتيكية إذ لا تريد المقاومة أن تفقد حاضنتها الشعبية ولا تستطيع أن تطلب منها المستحيل ولهذا فهي ترى أن اتفاقا للهدنة سيسمح للسكان بعبور محنة المجاعة لأن تدفق المساعدات هو مطلب رئيسي للمقاومة من عقد الاتفاق. تدفق المساعدات حتى لستة أسابيع سيسمح بتحسن في الوضع الغذائي كما حدث في الهدنة الأولى ويسمح بالتالي في رفع الروح المعنوية مجددا، كما يتيح تخزين بعض المؤن الغذائية للمستقبل تسمح بتثبيت الصمود سواء للسكان أو للمقاومين.
ليس أمام المقاومة عند لحظة الحقيقة حتى «ترف الاستسلام» فما يخيرها فيه الإسرائيليون هو والعدم سواء فهو إما السجن أو المقبرة كما قال جالانت قبل أيام، ولهذا فإن تجربة خروج عرفات والمنظمة من بيروت عام ٨٢ لن تتكرر في غزة ولن يخرج السنوار إلا منتصرا أو شهيدا.
حسين عبد الغني إعلامي وكاتب مصري
أما ضحايا الحرب الحالية من أبناء الشعب الفلسطيني شهداء وجرحى ومفقودين تخطى حرب الـ٤٨ بعدة أضعاف.. ومن حيث التأثير الاستراتيجي قد لا تقل التغييرات التي ستحدثها الحرب الراهنة في القضية الفلسطينية وفي المنطقة بل وفي العالم عن تغييرات الحرب الأولى التي وقعت قبل ٧٦ عاما والتي تغيرت المنطقة بسببها تغييرا شاملا فشهدت ثورات وانقلابات وأتت بنظم حكم جديدة أعادت تشكيل تاريخ الشرق الأوسط الحديث والمعاصر.
في هذه اللحظة التاريخية يكون السؤال عن مصائر الحرب الراهنة مشروعا.. خاصة وأنها تشهد تحولا فلسطينيا وعربيا محزنا معاكسا للبدايات. تحولا لا يتسق أبدا مع هزيمة العار الإسرائيلية في ٧ أكتوبر ولا الفشل المخزي لجيش الاحتلال في تحقيق هدف واحد من أهداف الحرب رغم مرور ما يقرب من عشرة شهور.
هذا التحول هو اضطرار المقاومة وحركة حماس للمرة الأولى لتقديم تنازلات صريحة في بعض مواقفها تقول مصادر قريبة منها إنها تنازلات تكتيكية وهذا أقرب للمنطق. لكن مصادر أمريكية وإسرائيلية تزعم أنها تنازلات جوهرية من شأنها ليس فقط تضييع إنجاز طوفان الأقصى بل تضييع كامل إنجاز المقاومة المسلحة منذ مفترق الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من غزة ٢٠٠٥.
بعبارة أخرى يجري تلخيص الحرب سياسيا في هذه اللحظة في الجملة المتكررة عبر وسائل الإعلام في الأيام العشرة الأخيرة: «التوصل لاتفاق هدنة وتبادل رهائن أصبح ممكنا وقريبا بسبب تنازلات قدمتها حماس» وزاد الرئيس الأمريكي بايدن على ذلك زاعما إن إسرائيل وحماس وافقتا، مساء الجمعة، على إطار صفقة الرهائن التي قدمها قبل 6 أسابيع.السؤال هو لماذا قدمت المقاومة هذه التنازلات رغم صمودها الأسطوري وتكبيدها العدو خسائر بشرية هي عشرة أضعاف ما خسره في حرب ٢٠٠٦؟
لن أتحدث مجددا عن ضغوط أمريكا وحلفائها العرب التي سبقت هذه التنازلات فقد ناقشها مقال سابق لصاحب هذه السطور «تقدير موقف» الجمعة 5 يوليو 2024 هل تحوّلت مناظرة «بايدن - ترامب» إلى خطة لإكراه المقاومة على الركوع؟!. وكانت سببا من أسباب اضطرار المقاومة لتقديم هذه التنازلات الصريحة. ولكن سأتحدث عن العوامل الأخرى التي شكلت بيئة قرار المقاومة بالتراجع سياسيا خطوة للوراء إذ ما زالت عسكريا وفي الميدان صامدة تؤلم العدو وتكبده الخسائر التي توجع قلب إسرائيل يوميا.
العامل الضاغط رقم واحد على المقاومة في التنازل أو المرونة، سمها كما شئت، يتلخص في كلمة واحدة هي المجاعة الشاملة التي وصل إليها سكان غزة.
لا نتكلم عن التدمير الممنهج للزراعة وتدمير المخابز ومطاحن الدقيق وتدمير الصيد في بحر غزة ولكن نتحدث أساسا عن عواقب احتلال إسرائيل ممر فيلادلفيا وما أعقبه من إغلاق معبر رفح البري مع مصر منذ نحو ٦ أسابيع فبعده انقطعت عن غزة تماما كل المساعدات الغذائية والدوائية.
وبات تحذير الأمم المتحدة في مارس الماضي من أن غزة في شبه مجاعة هو واقع أليم تطور إلى مجاعة شاملة. ومع تعطيل المستوطنين المتطرفين لدخول أي مساعدات من كرم أبو سالم وتفكك الرصيف البحري الأمريكي وتوقف الإسقاط الجوي للمساعدات.. لم يدخل إلى غزة منذ ٤٠ يوما كاملة طعاما ولا دواء. استخدام الإسرائيليين للتجويع القسري المحرم دوليا تم الاعتراف علنا بأنه وسيلة للضغط السياسي على المقاومة فبات مليون طفل في غزة مهددين بالموت جوعا ومعهم مئات الألوف من النساء وكبار السن يعيشون بالقرب من مقالب القمامة بحثا عن الغذاء إضافة إلى آلاف آخرين أصيبوا بالتسمم الغذائي لأكل وشرب مواد منتهية الصلاحية لعدم توافر غيرها.
المجاعة الفلسطينية في قطاع غزة والتي قد تدفع المقاومة لتنازلات عجزت إسرائيل عن الحصول عليها بالحرب ليست جريمة إسرائيلية - أمريكية فقط ولكنها جريمة عربية بامتياز. بعبارة أخرى هي ترجمة لكل الخطايا التي ارتكبها النظام العربي الرسمي منذ بداية الأزمة فهي لم تكن لتحدث لو أن وحدات هذا النظام اعتبرت موت الفلسطينيين جوعا هو خط أحمر عليها أن تمنع إسرائيل من فرضه ٢٨٢ يوما على ما يقرب من 2.5 مليون عربي فلسطيني في غزة.
فما كانت إسرائيل لتستطيع منع قرار عربي جماعي بإيصال المساعدات لغزة يوفر غطاء لدول الطوق.. وكان العالم ليقف داعما خاصة مع طلب آلاف من كبار الشخصيات العامة وحائزي نوبل استعدادهم لتصدر قوافل مساعدات تعبر إلى غزة وهو ثمن لم تكن إسرائيل تستطيع تحمله بقتل كل هؤلاء ومعاداة شعوب الأرض جميعا. لكن النظام العربي كان من البداية قد قرر إن من مصلحته القضاء على المقاومة التي تعيق قطار التطبيع وراهنت على أن نتنياهو قادر على ذلك في خلال فترة وجيزة. ورغم أن المقاومة خيبت ظنهم وصمدت ومازالت أكثر من 9 أشهر ورغم أن حاضنتها الشعبية لم تنقلب عليها حتى مع تضحيات بلغت مائة وثلاثين ألفا بين شهيد وجريح ومفقود إلا أن أرواح ودماء الشهداء وأصوات الأطفال الجوعى الباحثين عن لقمة في غزة لم تحرك أي دماء في عروق مترفة يابسة. نظام عربي اعتبرت وحدات فيه أن السلام مع إسرائيل هو ركيزة الأمن الإقليمي والضمانة الوحيدة للتودد ونيل رضا واشنطن وما يتبعه من رضا وتمويل المؤسسات الدولية.. واعتبرت وحدات أخرى أن التطبيع مع إسرائيل سينقل علاقتها مع واشنطن لمرتبة حلفاء الناتو ويقيها من تهديد إيراني حقيقي أو موهوم.
النظام العربي الرسمي لم يكتف بالتواطؤ على حدوث المجاعة في غزة وامتنع عن تحدي قرار نتنياهو قطع الطعام عن القطاع هو نفسه الذي منع انهيار الأمن الغذائي الإسرائيلي بعد نجاح أنصار الله في منع السفن المتجهة لإسرائيل، فوفرت دول عربية طريقا بريا ممتدا من الخليج إلى إسرائيل لشاحنات تحمل كل المواد الغذائية.
كان على المقاومة هنا أن تعتمد على نفسها وتقرر في حدود المتاح تقديم بعض التنازلات التكتيكية إذ لا تريد المقاومة أن تفقد حاضنتها الشعبية ولا تستطيع أن تطلب منها المستحيل ولهذا فهي ترى أن اتفاقا للهدنة سيسمح للسكان بعبور محنة المجاعة لأن تدفق المساعدات هو مطلب رئيسي للمقاومة من عقد الاتفاق. تدفق المساعدات حتى لستة أسابيع سيسمح بتحسن في الوضع الغذائي كما حدث في الهدنة الأولى ويسمح بالتالي في رفع الروح المعنوية مجددا، كما يتيح تخزين بعض المؤن الغذائية للمستقبل تسمح بتثبيت الصمود سواء للسكان أو للمقاومين.
ليس أمام المقاومة عند لحظة الحقيقة حتى «ترف الاستسلام» فما يخيرها فيه الإسرائيليون هو والعدم سواء فهو إما السجن أو المقبرة كما قال جالانت قبل أيام، ولهذا فإن تجربة خروج عرفات والمنظمة من بيروت عام ٨٢ لن تتكرر في غزة ولن يخرج السنوار إلا منتصرا أو شهيدا.
حسين عبد الغني إعلامي وكاتب مصري