قراءة في «بوصلة السراب»
الثلاثاء / 2 / محرم / 1446 هـ - 21:10 - الثلاثاء 9 يوليو 2024 21:10
كتبتُ في إصداري الأول «مدخل جانبي إلى البيت» أن طبقات الهواء في بلادنا مكتومة، وتحمل طبقات من الكلام الذي نتجنب قوله، اعتدنا ذلك مع مرور الوقت حتى أصبحت تفاعلاتنا الشاحبة جزءًا من هويتنا. يأتي أحمد الرحبي في روايته الجديدة الصادرة هذا العام 2024 عن محترف أكسجين للنشر وعنوانها «بوصلة السراب» لتقصي هذه الطبقات المكتومة، إنه يمسكها، وعلى الرغم من أننا وكما نلاحظ في العنوان حضور «السراب» فإن هذه الضبابية يُعبّر عنها بدفء وشفافية عالية، يصبح فيها السراب موجهًا، ممسكًا به، محددًا، في عملية اجتراح بطيئة تعتمد على اللغة، لا كعنصر زائد، بل كعضو أساسي في قوام الرواية، أحداثها وطاقتها.
يتعامل الكاتب مع الزمن بخصوصية، فنعرف أن أحداث العمل تجري بينما يسافر الأب إلى حرب تحرير الكويت، ومع مرور الوقت نستمع للراديو في أحد أروقة سوق الوادي القديمة الذي يصدح بأخبار هيئة البث البريطانية «التحالف الدولي يعزز حشوده ضد العراق ويرسل المزيد من الجنود والأسلحة، ودول أخرى تنضم إلى التحالف» إلا أن وطأة الزمن هذه تلقي بظلالها على الأطفال بشكل خاص، خصوصًا في بحثهم المستمر عن شيء ما، كما يحدث مع محمد الذي يتنقل في الرواية من مشهد لآخر ومن بيت لآخر، ويتسكع مع سليمان ابن «الغالية» أو رشيد ابن الغجر، إلا أن تبطل الزمن في العمل وتبطل الشخصيات الضجرة، يتم تحديه في الفصل الأخير من العمل عندما يوحد الموت القرية، إلا أن صف الأطفال المقابل لصف الكبار وأعيان الوادي في مجلس العزاء والذي يزدري من خلال تعبيراته الكبار وحياتهم، يحدثنا عن جيل جديد سيأتي ليقول كلمته في الزمن القادم.
إن التغيير هو قدر هذه القرية، ففصل السوق فيها يسوق لنا الفرق بين المحلات الجديدة في مركز الولاية وبين الدكاكين الصغيرة فيها، «هنا يسير الزمن بتؤدة، مختلطًا بأحاديث التجار وزبائنهم القليلين، أما التجار هناك فأجانب لا يجيدون لغة الزبائن، ولا يملكون منها سوى ما يسعفهم على تسيير تجارتهم، لذلك ترتفع هناك أصوات الأبواب والأدراج ونقل البضائع وتطغى على أصوات البشر» وتصاحب هذه التحولات بدلًا من العيش محاولة التعايش، الأمر الذي يظهر ردات الفعل عليها راكدة جدًا، كما حصل مع الابن العائد من حرب تحرير الكويت ليفاجأ بتغيّر البيت، لكنه لا يعبّر عن ذلك وكأنه في ذهول بل يأخذ الأمر بتسليم طبيعي، وهذه السلبية التي يتفاعل بها سكان الوادي مع هذه التغييرات تحمل تفسيرات قوية لكن الكاتب لا يصرح عنها، لا يقدمها في أسلوب تقريري بل يجنح طول الوقت لالتقاطها على الجسد وانخراطه في الفضاء العام. مرة واحدة يظهر فيها الجزع من التغيير عندما يتمنى محمد عند تعقد الحبكة العودة إلى وقاية جدته المبللة بالماء التي تقيه حر ورطوبة الصيف بدلًا من الغرف المكيفة الجديدة، وكأنما يلوذ بذلك الحنين من توحش هذا التغيير الذي لا يُعرف ماذا سيطال غير الذي طاله.
يصبح وجوم الوجه، الثقة التي ينطق بها، والمغالاة في الحياد شخصية أساسية في كتابة أحمد الرحبي، يستخدمها في تقديم تخريجات اجتماعية تستجد على القرية. فلننظر مثلًا لمشهد الأخ الذي ينزل من غرفته العلوية بعد أن صار يعمل مع الوالي وتزوج أخت زوجة الوالي عندما يراه أخوه العائد من حرب تحرير الكويت، خصوصًا وأنه قبل انتقاله الاجتماعي هذا كان هائمًا ضائعًا في القرية «لكن هذه الوجاهة التي يتخذها الآن، والحياد الذي يلتزمه، يبدوان مغالين فيهما، زائدين عن حاجته، وحاجة من ينظر إليه» وتستمر هذه الإشارات لامتقاع الوجه مثلًا طيلة الرواية، فهي تحمل طابعًا موحيًا عن طبقات متراكمة من التغييرات التي تطال الشخصيات في الرواية. فلنتأمل مثالًا آخر عندما تشير الأم لابنتها حول وجودهم في أسفل طبقات مجتمع القرية وترد الابنة بـ«أحنت رأسها حين سمعت أمها، لكنها لم تبدِ تبرمًا لكلامها، فكأن ما قالته أمر طبيعي، يولد مع الإنسان ويبقى معه». وهنا يتّضح التسليم بالطبيعة الهرمية التي يخضع لها المجتمع، وكأنما يلتقط الكاتب بعدسة حساسة جدًا مآلات الروح وانعكاسها على الجسد، وتمثلات الخارج الرمزية داخل الإيماءة والتلويحة البسيطة لكن الغنية في الوقت نفسه. فيكتب عن الاختلاف بين بنات الوالي وأخواته وبقية بنات الوادي «بخلاف فتيات الوادي، كن يمشين بجرأة وثبات، وكانت نظراتهن صافية، لا تعكرها أحلام اليقظة» و«نظرات الخليجي على جانب من الحبور، تعكس حياة رغيدة يعيشها».
تشتبك الرواية برهافة عالية مع الطبيعة، الصراعات معها وتحديها، منذ هدأة الوادي وأوراق الموز، والنخيل، والسدرة التي يستظل بها المعلم، والسدرة التي تشمل المكان بظل كثيف متضافر رغم حدة الشمس، والنبق الأصفر، والنبق الذي يشبه التفاح الأخضر وصولًا للسفرجلة التي ستتوارى شيئًا فشيئًا وراء الغرف الجديدة التي سيبنيها الوالي لصالح لقاء زواجه من أخت زوجه، وهكذا يكون الاحتفاء بالطبيعة وبثعالبها التي تعوي في بداية الرواية في تحدٍ مع الحياة الجديدة التي تفرضها السياسة العامة للقرية وممثلي الحكومة فيها.
الضجر لاعب آخر في الرواية، فهنالك تشاغل بالرسم على الأرض بأعواد من السمر بينما تدور الأحاديث بين الأصحاب، أو يصبح التشاغل بالطعام وسيلة للتهرب من المواجهة، فلنتأمل هذا الاقتباس: «راح يتهرب من نظراتها ويتشاغل عنها، فتارة يعكف على تقشير فص سفرجل أو هرس تمرة بأصابعه الثلاثة: الوسطى والسبابة والإبهام، وتارة يشيح وجهه عنها، متوجهًا إلى النساء أو ناظرًا إلى مقتنيات الحائط»، وهذا المقطع «لم تكن أحاديثهم تشبه أحاديث النهار المعتادة، المنسوجة بمشاغل الحياة، بل مجرد كلمات وجمل تنطق لتسمع، لا أكثر من ذلك. لا جدال فيها أو نقاش أو حتى تساؤل. كلمات وجمل خفيفة، تخرج من الفم مثل همهمات تسري في الظلمة قبل أن يطبق عليها السكون».
تظهر المدينة بتشظ في الرواية، فهي المكان الذي يدخن فيه الناس، فلا يتفاجأ محمد -الشخصية الرئيسة في العمل- من تدخين الناس في القرية لأنه اعتاد ذلك بينما كان في المدينة قبل أن يستقر في القرية، أو تظهر المدينة في تهويمات أخرى مثل: اللباس والهندام والطريقة التي يتصرف بها موظفو المدينة العائدون للقرية، إلا أن مقطعًا مهمًّا يمر في الرواية عبر إحدى الشخصيات في العمل وهو مزارع فيكتب الكاتب: «يكون ساعتها عائدًا من المزارع التي أهدر فيها نهاره، قاصدًا بيته خلف مركز الولاية. لكنه لا يمر مرور الكرام، كان يحفظ الكلمات والعبارات الجديدة من موظفي مسقط، القادمين لزيارة أقاربهم، فيتغنّى بها في عودته إلى بيته موشحًا إياها بلحن ساخر، يظل يرن في السوق حتى حلول الظلام (إجازة سنوية، أقساط السيارة، قرض الإسكان، عام الشبيبة، المصارعة الحرة، برج الصحوة)».
وهكذا يقدم لنا الكاتب تصوّر سكان الوادي عن المدينة، ويكتب لنا عن تعقيداتها ببراعة. ويظهر التناقض بينها وبين الوادي فيكتب «تذكرت كلام أبي: (الحياة في بلادنا تخلي الرجال مثل الدجاج)، شوف هذا الأستاذ المحترم، يندس علشان يدخن سيجارة».
تنتهي الكتابة في هذا العمل إلى أن الأحلام العالية والحنين لمستقبل مختلف، يبدآن منذ القصص الصغيرة كما هو الحال في كل الوجوه التي ناقشتها في المقالة أعلاه فيكتب الرحبي مثلًا: «لهجتها الهجينة وحلتها الطويلة المهلهلة وشعرها الأسود الكثيف الذي تمرد على إشاربها، بعلمها أو من دونه، وراح يتأرجح بين كتفيها بحرية، كاشفًا عن عنقها الأبيض وسلسلتها الذهبية، كل هذا، مع حبها لنفسها، وغيرتها على مأكلها ومشربها، وما أحاطت به نفسها من أثاث وزينة، ناهيك عن انضباط أبنائها العجيب، نقل محمد من عالم القرية، بل من البلاد كلها، وأدخله في عالم جديد لم يألفه: عالم حقيقي لكنه مشحون بالتوقعات». وهكذا يصبح التعلق بالمستقبل رهينًا هو الآخر بالعادي جدًا، المحتفى به في هذه الرواية على عكس الروايات العمانية عن القرى والتي تأخذ عادة بعدًا أسطوريًّا في النظر إليها، القرية هنا هادئة وصامتة وتستعدُّ للتمدن، لكنها تدخل إلى ذلك العالم الجديد مرتبكة وتشيح بوجهها عنه عبر الصمت والضجر رغم قوة تمثلات ذلك العالم في واقعها الراهن.
يتعامل الكاتب مع الزمن بخصوصية، فنعرف أن أحداث العمل تجري بينما يسافر الأب إلى حرب تحرير الكويت، ومع مرور الوقت نستمع للراديو في أحد أروقة سوق الوادي القديمة الذي يصدح بأخبار هيئة البث البريطانية «التحالف الدولي يعزز حشوده ضد العراق ويرسل المزيد من الجنود والأسلحة، ودول أخرى تنضم إلى التحالف» إلا أن وطأة الزمن هذه تلقي بظلالها على الأطفال بشكل خاص، خصوصًا في بحثهم المستمر عن شيء ما، كما يحدث مع محمد الذي يتنقل في الرواية من مشهد لآخر ومن بيت لآخر، ويتسكع مع سليمان ابن «الغالية» أو رشيد ابن الغجر، إلا أن تبطل الزمن في العمل وتبطل الشخصيات الضجرة، يتم تحديه في الفصل الأخير من العمل عندما يوحد الموت القرية، إلا أن صف الأطفال المقابل لصف الكبار وأعيان الوادي في مجلس العزاء والذي يزدري من خلال تعبيراته الكبار وحياتهم، يحدثنا عن جيل جديد سيأتي ليقول كلمته في الزمن القادم.
إن التغيير هو قدر هذه القرية، ففصل السوق فيها يسوق لنا الفرق بين المحلات الجديدة في مركز الولاية وبين الدكاكين الصغيرة فيها، «هنا يسير الزمن بتؤدة، مختلطًا بأحاديث التجار وزبائنهم القليلين، أما التجار هناك فأجانب لا يجيدون لغة الزبائن، ولا يملكون منها سوى ما يسعفهم على تسيير تجارتهم، لذلك ترتفع هناك أصوات الأبواب والأدراج ونقل البضائع وتطغى على أصوات البشر» وتصاحب هذه التحولات بدلًا من العيش محاولة التعايش، الأمر الذي يظهر ردات الفعل عليها راكدة جدًا، كما حصل مع الابن العائد من حرب تحرير الكويت ليفاجأ بتغيّر البيت، لكنه لا يعبّر عن ذلك وكأنه في ذهول بل يأخذ الأمر بتسليم طبيعي، وهذه السلبية التي يتفاعل بها سكان الوادي مع هذه التغييرات تحمل تفسيرات قوية لكن الكاتب لا يصرح عنها، لا يقدمها في أسلوب تقريري بل يجنح طول الوقت لالتقاطها على الجسد وانخراطه في الفضاء العام. مرة واحدة يظهر فيها الجزع من التغيير عندما يتمنى محمد عند تعقد الحبكة العودة إلى وقاية جدته المبللة بالماء التي تقيه حر ورطوبة الصيف بدلًا من الغرف المكيفة الجديدة، وكأنما يلوذ بذلك الحنين من توحش هذا التغيير الذي لا يُعرف ماذا سيطال غير الذي طاله.
يصبح وجوم الوجه، الثقة التي ينطق بها، والمغالاة في الحياد شخصية أساسية في كتابة أحمد الرحبي، يستخدمها في تقديم تخريجات اجتماعية تستجد على القرية. فلننظر مثلًا لمشهد الأخ الذي ينزل من غرفته العلوية بعد أن صار يعمل مع الوالي وتزوج أخت زوجة الوالي عندما يراه أخوه العائد من حرب تحرير الكويت، خصوصًا وأنه قبل انتقاله الاجتماعي هذا كان هائمًا ضائعًا في القرية «لكن هذه الوجاهة التي يتخذها الآن، والحياد الذي يلتزمه، يبدوان مغالين فيهما، زائدين عن حاجته، وحاجة من ينظر إليه» وتستمر هذه الإشارات لامتقاع الوجه مثلًا طيلة الرواية، فهي تحمل طابعًا موحيًا عن طبقات متراكمة من التغييرات التي تطال الشخصيات في الرواية. فلنتأمل مثالًا آخر عندما تشير الأم لابنتها حول وجودهم في أسفل طبقات مجتمع القرية وترد الابنة بـ«أحنت رأسها حين سمعت أمها، لكنها لم تبدِ تبرمًا لكلامها، فكأن ما قالته أمر طبيعي، يولد مع الإنسان ويبقى معه». وهنا يتّضح التسليم بالطبيعة الهرمية التي يخضع لها المجتمع، وكأنما يلتقط الكاتب بعدسة حساسة جدًا مآلات الروح وانعكاسها على الجسد، وتمثلات الخارج الرمزية داخل الإيماءة والتلويحة البسيطة لكن الغنية في الوقت نفسه. فيكتب عن الاختلاف بين بنات الوالي وأخواته وبقية بنات الوادي «بخلاف فتيات الوادي، كن يمشين بجرأة وثبات، وكانت نظراتهن صافية، لا تعكرها أحلام اليقظة» و«نظرات الخليجي على جانب من الحبور، تعكس حياة رغيدة يعيشها».
تشتبك الرواية برهافة عالية مع الطبيعة، الصراعات معها وتحديها، منذ هدأة الوادي وأوراق الموز، والنخيل، والسدرة التي يستظل بها المعلم، والسدرة التي تشمل المكان بظل كثيف متضافر رغم حدة الشمس، والنبق الأصفر، والنبق الذي يشبه التفاح الأخضر وصولًا للسفرجلة التي ستتوارى شيئًا فشيئًا وراء الغرف الجديدة التي سيبنيها الوالي لصالح لقاء زواجه من أخت زوجه، وهكذا يكون الاحتفاء بالطبيعة وبثعالبها التي تعوي في بداية الرواية في تحدٍ مع الحياة الجديدة التي تفرضها السياسة العامة للقرية وممثلي الحكومة فيها.
الضجر لاعب آخر في الرواية، فهنالك تشاغل بالرسم على الأرض بأعواد من السمر بينما تدور الأحاديث بين الأصحاب، أو يصبح التشاغل بالطعام وسيلة للتهرب من المواجهة، فلنتأمل هذا الاقتباس: «راح يتهرب من نظراتها ويتشاغل عنها، فتارة يعكف على تقشير فص سفرجل أو هرس تمرة بأصابعه الثلاثة: الوسطى والسبابة والإبهام، وتارة يشيح وجهه عنها، متوجهًا إلى النساء أو ناظرًا إلى مقتنيات الحائط»، وهذا المقطع «لم تكن أحاديثهم تشبه أحاديث النهار المعتادة، المنسوجة بمشاغل الحياة، بل مجرد كلمات وجمل تنطق لتسمع، لا أكثر من ذلك. لا جدال فيها أو نقاش أو حتى تساؤل. كلمات وجمل خفيفة، تخرج من الفم مثل همهمات تسري في الظلمة قبل أن يطبق عليها السكون».
تظهر المدينة بتشظ في الرواية، فهي المكان الذي يدخن فيه الناس، فلا يتفاجأ محمد -الشخصية الرئيسة في العمل- من تدخين الناس في القرية لأنه اعتاد ذلك بينما كان في المدينة قبل أن يستقر في القرية، أو تظهر المدينة في تهويمات أخرى مثل: اللباس والهندام والطريقة التي يتصرف بها موظفو المدينة العائدون للقرية، إلا أن مقطعًا مهمًّا يمر في الرواية عبر إحدى الشخصيات في العمل وهو مزارع فيكتب الكاتب: «يكون ساعتها عائدًا من المزارع التي أهدر فيها نهاره، قاصدًا بيته خلف مركز الولاية. لكنه لا يمر مرور الكرام، كان يحفظ الكلمات والعبارات الجديدة من موظفي مسقط، القادمين لزيارة أقاربهم، فيتغنّى بها في عودته إلى بيته موشحًا إياها بلحن ساخر، يظل يرن في السوق حتى حلول الظلام (إجازة سنوية، أقساط السيارة، قرض الإسكان، عام الشبيبة، المصارعة الحرة، برج الصحوة)».
وهكذا يقدم لنا الكاتب تصوّر سكان الوادي عن المدينة، ويكتب لنا عن تعقيداتها ببراعة. ويظهر التناقض بينها وبين الوادي فيكتب «تذكرت كلام أبي: (الحياة في بلادنا تخلي الرجال مثل الدجاج)، شوف هذا الأستاذ المحترم، يندس علشان يدخن سيجارة».
تنتهي الكتابة في هذا العمل إلى أن الأحلام العالية والحنين لمستقبل مختلف، يبدآن منذ القصص الصغيرة كما هو الحال في كل الوجوه التي ناقشتها في المقالة أعلاه فيكتب الرحبي مثلًا: «لهجتها الهجينة وحلتها الطويلة المهلهلة وشعرها الأسود الكثيف الذي تمرد على إشاربها، بعلمها أو من دونه، وراح يتأرجح بين كتفيها بحرية، كاشفًا عن عنقها الأبيض وسلسلتها الذهبية، كل هذا، مع حبها لنفسها، وغيرتها على مأكلها ومشربها، وما أحاطت به نفسها من أثاث وزينة، ناهيك عن انضباط أبنائها العجيب، نقل محمد من عالم القرية، بل من البلاد كلها، وأدخله في عالم جديد لم يألفه: عالم حقيقي لكنه مشحون بالتوقعات». وهكذا يصبح التعلق بالمستقبل رهينًا هو الآخر بالعادي جدًا، المحتفى به في هذه الرواية على عكس الروايات العمانية عن القرى والتي تأخذ عادة بعدًا أسطوريًّا في النظر إليها، القرية هنا هادئة وصامتة وتستعدُّ للتمدن، لكنها تدخل إلى ذلك العالم الجديد مرتبكة وتشيح بوجهها عنه عبر الصمت والضجر رغم قوة تمثلات ذلك العالم في واقعها الراهن.