ثقافة

الدروبي يتعقّب "نقوش الخواتم في الحضارة الإسلاميّة"

 
صدر حديثاً عن دار الرّياحين كتاب 'نقوش الخواتم في الحضارة الإسلاميّة' للدكتور محمّد محمود الدّروبيّ، في 876 صفحة. وهو كتاب 'نادرٌ في موضوعه، لطيفٌ في معناه ومبناه، وافرٌ في مادّته، معمّقٌ في تحليلاته، دقيقٌ في توثيقه، غنيٌّ بمصادره المتنوعة، يجمع بين الأدب والتاريخ والفنّ والعلم'.

سعت الدّراسة التي صدرت بالشراكة مع مكتبة نظام يعقوبي الخاصّة بالبحرين، إلى تناول ملامح الكتابات المنقوشة على الخواتم في الحضارة العربيّة الإسلاميّة، في عصورها الزّاهية، إلى نهاية العصر العبّاسيّ.

وقام الباحث بجمع مدوّنة ما بقي من نقوش الخواتم العائدة إلى تلك القرون، مع الاعتناء بها درساً وتحليلاً، وسبراً لأعماق مصادرها في التّراث ودراسات المعاصرين حولـها، وتَبَيُّن اتّجاهاتها الموضوعيّة وخصائصها الأسلوبيّة، ومحاولة تفسير شيءٍ من دلالاتها الدّينيّة والسّياسيّة والأدبيّة.

وعن أهميّة البحث في هذا الموضوع، قال الدّروبيّ: 'تمثّل العناية بدراسة نقوش الخواتم العربيّة الإسلاميّة وجمعها وتحقيقها وتوثيقها وجهاً أصيلاً من وجوه العناية بالتّراث العربيّ، والكشف عن خبيء موضوعاته الحضاريّة والتّاريخيّة والأدبيّة اللّطيفة'.

وأضاف أن نقوش الخواتم تشكّل مادّةً تاريخيّةً وحضاريّةً مهمّة، وأدباً ثريّاً جديراً بالبحث والدّراسة. مشيراً إلى أن هذه النّقوش تشكل دلالاتٍ دينيّةً وتاريخيّةً وسياسيّةً وأدبيّةً على عصورها، فالخواتم 'رمز السّلطة، وسجلّ التّاريخ'، ونقوشها 'علاماتٌ على الزّمان الذي نُقشت فيه'.

وتابع الدروبي بقوله: 'يمثّل أدب الخواتم العربيّة الإسلاميّة لوناً من الالتزام والحكمة، وتتحقّق فيه أبعادٌ دينيّةٌ وسياسيّةٌ وتربويّةٌ وتهذيبيّةٌ ووعظيّة. وتتيح دراسة هذه النّقوش التّعمّق في فهم كُنْه الشّخصيّة العربيّة، وتحليل فلسفات حيواتها وتوجّهاتها الفكريّة. وتكشف النّقوش عن لونٍ طريفٍ من علم النّمّيّات، والأدب الموشّى، ممّا لم يلقَ كبيرَ عنايةٍ في الدّراسات المعاصرة'.

وأكد أن الأدب المنقوش على الخواتم العربيّة الإسلاميّة 'يمثل شاهداً على مكنة اللّغة العربيّة، ولا سيّما قدرتها الهائلة على تحقيق فكرة الاقتصاد اللّغويّ'، وأن العبارات المحفورة على الخواتم 'تحظى بقيمةٍ أدبيّةٍ وفكريّةٍ وتاريخيّةٍ وحضاريّةٍ خاصّة؛ فهي تحكي قصصاً، وتلخّص تاريخاً، وتختصر موقفاً، وتنير على أساليب اللّغة، وطرائق الحياة، ومناهج التّفكير'.

جاء الكتاب في مقدّمةٍ وبابين، وشمل الباب الأوّل تمهيدًا وثلاثة فصولٍ رئيسة، قدّم التّمهيد إنارةً على المعاني اللّغويّة والاصطلاحيّة لعبارة 'نقوش الخواتم'، وحمل كلّ فصلٍ من تلك الفصول جملةً من المباحث. أمّا الفصل الأوّل، فقد استكشف كتابات القدامى والمعاصرين التي تناولت نقوش الخواتم الإسلاميّة. وحمل الفصل الثّاني صورةً عن تاريخ الخواتم ونقوشها في الحضارات الأخرى، وفي الحضارة العربيّة الإسلاميّة. واختصّ الفصل الثّالث بقراءة مضامين نقوش الخواتم العربيّة الإسلاميّة وملامـحها ودلالاتها ومراميها وسماتها الفنّيّة وخصائصها الأسلوبيّة.

وجمع الباب الثّاني الباقيات من نقوش الخواتم العربيّة في عصورها الزّاهرة، وجاء في خمسة فصول: استوعب الأوّل نقوشَ خواتم الرّسول محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- وخلفاء الإسلام، إلى انقضاء الدّولة العبّاسيّة. وضمّ الفصل الثّاني نقوش خواتم الصّحابة والتّابعين. وتعقّب الفصل الثّالث ما بقي من نقوش خواتم الشخصيات التي تولّت السّلطة السّياسيّة. وعني الفصل الرّابع بنقوش خواتم أهل العلم والأدب، من أئمّةٍ وعلماء وفقهاء وقضاة وزهّاد وكتّاب وشعراء. وضمّ الفصل الخامس أشتات نقوشٍ متفرّقة، لم تدلّ المصادر على أصحابها.

وتوصّل الباحث إلى نتائج من أبرزها أن ظاهرة التّختّم من الظّواهر الاجتماعيّة الموغلة في القدم؛ فقد شاع لبس الخواتم في أصابع اليدين عند كثيرٍ من الأمم والشّعوب القديمة، وعرفت الحضارات البائدة هذا السّلوك الاجتماعيّ الذي مارسته الخاصّة والعامّة على السّواء، ومال الإنسان في مراحل لاحقةٍ إلى الحفر على متون تلك الخواتم وفصوصها، وتحليتها بالعبارات الشّعاريّة المعبّرة.

ومما خلص إليه الدروبي أن العرب عرفوا ظاهرة التّختّم قبل الإسلام، فانتشرت بين فئاتٍ من المجتمع، واتّخذوها لغاياتٍ سياسيّة واجتماعيّة وشخصيّة. ونمت هذه الظّاهرة نمّواً واسعاً مع مجيء الإسلام، بعد أن اتّخذ رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- الخاتم الشّريف، فاستنّ به النّاس، وتجذّر هذا السّنن، وأمست له دلالاته السّياسيّة والدّينيّة والاجتماعيّة، وصار الخاتم رمزاً من رموز الخلافة، وشارةً من شارات الحكم عند المسلمين.

ووفقاً للباحث، نظراً لارتباط الخواتم بالغايات السّياسيّة والإداريّة، عُدّت فئة رجال الحكم وأرباب السّياسة في التّاريخ الإسلاميّ أكثرَ الفئات اعتناءً بالخواتم والنّقش عليها. ولم يقتصر اتّخاذ الخواتم -الملبوسة والمحمولة- على فئة الخلفاء والسّلاطين والملوك في الحضارة الإسلاميّة، وإنّما انتشرت ظاهرة التّختّم بين عموم الفئات الاجتماعيّة.

ووجد الدروبي أن كثيراً من الفئات التي اتّخذت الخواتم مالت إلى نقش العبارات الموجزة المركّزة عليها، فانتشرت ظاهرة الحفر والكتابة انتشاراً واسعاً عند العرب والمسلمين، وشاعت مهنة الحفّارين والنّقّاشين على الخواتم في المدن الكبيرة. وأمست تلك النّقوش علاماتٍ على حامليها، تفصح عن أسمائهم وألقابهم وكناهم تارةً، وتحمل شعاراتهم وصفوة فلسفات حيواتهم تارةً أخرى.

وأشار الباحث الذي تعقّب ورصد في كتابه أكثر من سبعمائة نقش، إلى أن مضامين العبارات المنقوشة على الخواتم تلوّنت تلوّناً واضحاً، فقد حملت ما هو دينيٌّ وسياسيٌّ واجتماعيٌّ وتهذيبيٌّ وتربويٌّ وشخصيّ. مؤكداً أن النّظر في فضاء تلك النّقوش يتيح للباحث تحليل ملامح شخصيّات حامليها، ومعرفة توجّهاتهم الفكريّة، وتَبَيُّن خلاصة أفكارهم وأنظارهم ورؤاهم في الحياة.