عمان الثقافي

نونيات الشعر العماني .. سجل إنسان وذاكرة مكان

ديوان أبي مسلم
 
ديوان أبي مسلم


يتسم النتاج الشعري العماني بالتنوع والغزارة إلى حد الدهشة، حتى أنه يستعصي على القارئ أو الباحث حصره وسبر أغواره والإلمام بتاريخه وأعلامه، رغم ما حظي به من اهتمام الباحثين والدارسين في عصر النهضة المباركة. والذي يغوص في مدونة هذا الشعر يرصد الكثير من الظواهر اللافتة والطريفة التي يمكن تتبعها وإضاءتها، باعتبارها ملامح لهذا المنجز الحضاري الذي يعد السمة الأبرز في التاريخ الثقافي العماني.

ومن الظواهر الجديرة بالتأمل في الشعر العماني ظاهرة القصائد النونية الكثيرة، التي باتت تشكل جزءا مهما من ذاكرة الشعر العماني، بدءا من نونية مالك بن فهم مرورا بكل النونيات الملحمية التي سجلت حوادث عمان وتحولاتها ووثقت أرضها وقبائلها، وأصبحت هذه القصائد سجلا لإنسان هذه الأرض وذاكرة للمكان في سيرورته التاريخية المترعة بالأحداث الدرامية. ولعل أبلغ وصف يوجز ما ذُكِر قول الدكتور محمود السليمي أن «تاريخ عمان هو تاريخ الشعر، منذ أن هزتنا نونية مالك بن فهم وأشعار أبنائه إلى الآن» .

ونحن هنا لا نهدف إلى رصد كل القصائد النونية في الشعر العماني، وإنما نتوقف عند أبرز هذه النونيات الكبرى التي لاقت انتشارًا وذيوعًا وشكلت محطات مهمة في تاريخ الشعر العماني، وتلك التي أسهمت في تخليد جوانب من تاريخ عمان أو تناولت في مضامينها ما يمثل بعدًا اجتماعيًا أو إنسانيًا ذا قيمة عليا.

1 ـ نونية مالك بن فهم الأزديتتكئ نونية القائد العماني مالك بن فهم الأزدي على قصة إنسانية كبرى، ذات بعد درامي معروف ومتداول في كتب الأدب والسير والتاريخ، وهي تجسد عداوة الأخوة وكيدهم لأخيهم المحبوب والمدلل لدى أبيهم، بدافع الغيرة التي يؤججها ميلان الأب تجاه الابن المقرب، وهو هنا سليمة بن مالك بن فهم، حيث سعى إخوته إلى اختلاق قصة مكذوبة من شأنها أن تثير الشك لدى أبيهم في أمانة سليمة ووفائه في الحراسة الليلية، الأمر الذي جعل الأب يقرر اختباره، وتنتهي القصة بأن الابن صوّب سهامه تجاه أبيه دون قصد أو دراية منه بأنه والده، ورغم تحذير الأب لابنه بأن لا يرمي، إلا أن التحذير جاء متأخرا بعد أن انطلق السهم نحو صدر الأب فأرداه قتيلًا. ولا شك أن هذه النونية توثق لحظة حاسمة في تاريخ عمان بموت مؤسس الدولة العربية فيها، ذلك الرجل الذي ناضل من أجل استرداد الهوية العربية لهذا القطر الأصيل من جزيرة العرب والحفاظ عليها مدى الحياة. وسقط مالك بن فهم صريعا ليطلق زفرته الأخيرة متفجعا بقصيدة تقطر بالألم، نقتطف منها هذه الأبيات.

فيا عَجَبًا لمن رَبَّيتُ طِفلًا

أُلَقِّمُهُ بأَطرافِ البَنانِ

جَزاهُ الله ُمن وَلَدٍ جزاءً

سُلَيمَةَ إِنَّهُ شَرًا جزاني

أُعَلِّمُه الرمايَة كُلَّ يَومٍ

فَلَمّا اشتدَّ ساعِدهُ رَماني

2 ـ نونية القلهاتي (الحلوانية)أبو عبدالله محمد بن سعيد الأزدي القلهاتي من علماء القرن الرابع الهجري في عمان، وصفه الخصيبي في (شقائق النعمان) بأنه: «العالم الفصيح اللغوي المثقف صاحب كتاب (الكشف والبيان)، وقد وصف بأنه فيلسوف وأنه مؤرخ وأنه لغوي أديب، وأنه من العلماء البارزين في أوائل القرن الرابع الهجري، ومن شعره منظومته المسدسة المسماة بالحلوانية، وتعرف أيضا بالقحطانية؛ لأنها في مدح آل قحطان» . تقول القصيدة في مطلعها:

ألا حيّ دارَ الحيّ من بطنِ حلوان

وحيّ مراعيهم بأكناف قرّان

وحيّ اللوى فالأبطحَ الدمِث الداني

ووادي الحمى والمَرْخ من سفح رامان

مآلف أحبابي ومعهد أخداني

ديار بها في اللهو جررت أرساني

يتفنن القلهاتي في قصيدته الطويلة في مدح القحطانيين ويذكر مآثرهم ومناقبهم، في حين يهجو العدنايين وينعتهم بأوصاف غير لائقة، لذا فقد خلقت هذه القصيدة سجالًا ساخنًا بين الشعراء والعلماء، حتى أن البعض يشكك في نسبة هذه القصيدة له، في حين يذهب العبض بأنها له وأنه تاب عنها بعد أن انتشرت وذاع صيتها بين الناس ولم يكن بمقدوره ردها. وقد رد عليه ابن رزيق، الذي جاء بعده بقرون، بقصيدة نونية أخرى ينتصر فيها للعدنانيين ويرد لهم فيها الاعتبار، أسماها (القدسية النورانية في مناقب العدنانية)، وهي قصيدة معروفة أيضا، يقول في مستهلها:

سلِ الأبطحَ القدسيَّ مِن آلِ عدنانِ

هل اجتمعوا ذكرا بوحي وقرآنِ؟

3 ـ نونية أسد البحار

ترك الربان العماني أحمد بن ماجد السعدي إرثا كبيرا في علوم البحار. ورغم أن للعرب قبل ابن ماجد تراثًا بحريًا دون ريب، إلا أن ذلك التراث لم ينل حظه من الحفظ والتوثيق، حتى جاء ابن ماجد الذي يعد إرثه في فنون الملاحة البحرية أول تراث عربي محفوظ وموثق، ما يجعله بحق من مفاخر العرب في هذا المجال. وقد دوّن ابن ماجد الكثير من معارفه وملاحظاته واكتشافاته على هيئة أراجيز شعرية، ومن بينها نونيته الكبرى المسماة بـ(قصيدة الخيل)، وهي منظومة ذات قدر كبير من الأهمية في علوم البحار تتكون من مائة وأربعين بيتا، وتشتمل على وصف عميق لأصول علم البحار وقياسات النجوم وانتقالاتها بين الأبراج، ما يكشف عن الإلمام الواسع الذي كان يتمتع به أحمد بن ماجد في مختلف العلوم ذات الصلة بلوم البحار والملاحة مثل الفلك والهندسة والرياضيات وغيرها، ناهيك عن مهاراته الأدبية في نظم الشعر. يقول ابن ماجد في بعض أبيات هذه النونية:

يا أيها السالك في المشارق

تجري لأرض الهند بالأخنانِ

من بندر شاع اسمه بين الملا

هي مسقط المعمور من عمان

4 ـ نونية أبي الأحول

تعد نونية أبي الأحول الشيخ سالم بن محمد بن سالم الدرمكي من أكثر نونيات الشعر العماني شهرة وعذوبة. وهي في مدح السيد حمد بن سعيد بن الإمام أحمد بن سعيد. قال عنها ابن رزيق: «وهي قصيدة رائقة فائقة لفظا ومعنى، نسجت على منوالها جملة من أدباء عمان» . بل إن ابن رزيق وحده عارضها بقصيديتن مهمتين أيضا، إحداهما في مدح السيد محمد بن سالم بن سلطان، والأخرى في مدح السيد ثويني بن سعيد.

والمعروف أن الدرمكي كتب قصيدته هذه عرفانا وامتنانا بالصنيع السخي الذي أولاه إياه السيد حمد بن سعيد. وفي هذا السياق يقول الدكتور محمد المحروقي: «وتكاد تكون هذه القصيدة المديحية استثناء في قصائد المديح العربية الأخرى، حيث يسبق العطاء القصيدة» .

ولهذه القصيدة مناسبة لطيفة ذكرها ابن رزيق في (الفتح المبين)، مفادها أن الإمام حمد بن سعيد استدعى الشيخ سالم الدرمكي من بلده إزكي إلى بركاء حيث يقيم الإمام، وولاه أمر القضاء، وكان الشيخ سالم يعاني من شظف العيش. فأمر السيد حمد ببناء منزل كبير للشيخ سالم، ولم يخبر أحدا أن البيت مخصص له، وبعد الفراغ من بناء البيت أمر بتأثيثه وتزويده بكل أنواع الطعام والمؤونة، ثم أمر بإحضار عائلة الشيخ سالم من إزكي وإدخالهم في البيت الجديد. وبعد أن استقرت عائلة الشيخ سالم في المنزل الجديد، طلب منه أن يخرج للتنزه بمعيته حتى أدخله البيت الفاره، فوجد عائلته في انتظاره، وقال له البيت بما فيه لك، فدخل الشيخ سالم وعاد السيد حمد. فأثار هذا الصنيع الطيب قريحة الشاعر سالم الدرمكي، فكتب هذه النونية الخالدة، التي يقول في مطلعها:

ما بين بابي عينِ سَعنَة واليِمنْ

سوق تباع به القلوب بلا ثمن

تَجَروا بما احتكروا به وتحكموا

فجوابُ مَنْ يستامُ منهم لا ولن

العود من أبدانهم، والمسك من

أردانهم، والزعفران من الوجن

وشذا القرنفل هاج من أنفاسهم

سحرا، وماء الورد من عرق البدن

5 ـ نونية جاعد بن خميستمثل تجربة الشيخ أبي نبهان جاعد بن خميس الخروصي حجر الأساس في مدرسة الاتجاه السلوكي أو التصوف في الشعر العماني. ويكاد أغلب شعره يتحرك في هذه الدائرة العرفانية التي شكلت منعطفًا جديدا في مدونة الشعر العماني، وسار عليها بعد ذلك علماء أقطاب، اجترحوا فضاء إبداعيا جديدا وأضافوا للشعر العماني لغة جديدة لم يألفها. ومن أبرز قصائد الشيخ أبي نبهان نونيته البديعة التي تبدأ جميع أبياتها بتسبيح الخالق جل وعلا. تقع القصيدة في تسعة وستين بيتا، وقد اشتملت القصيدة في بنيتها على عدة محاور مثل تقديس الخالق وتنزيهه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته، وذكر مناقب سالكي سبيل العرفان في معراجهم الروحي إلى معارج الكمال والنقاء. يقول في مطلع القصيدة:

سبحان من کلٌّ يسبّحُه به

وإليه منه يدين من قد دانا

سبحان من للكون کان مكوّنا

ما کان أو سيكون کوناً کانا

سبحان من شهد الوجود بجوده

ووجوده سبحانه سبحانا

6 ـ نونية الخليليتعد تجربة الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي امتدادا لمدرسة الشيخ جاعد بن خميس الخروصي، فهو يسير على ذات النهج السلوكي في الفكر والكتابة الشعرية. وهو أحد المؤسسين الكبار لهذه المدرسة في الشعر العماني. وللشيخ سيعد الخليلي أكثر من قصيدة نونية في مواضيع مختلفة، وربما كان أبرزها في منهج السلوك القصيدة التالية، التي بلغ عدد أبياتها مائتين وواحد وعشرين بيتا، تتجلى من خلالها ملامح المدرسة السلوكية في الشعر العماني، يقول في مطلعها:

سلوكُ طريق العارفين بعرفانِ

يلذّ لأرواحٍ غَذِينَ بإيمانِ

يطيب لها فيها عناها فلم تزل

مسافرةً لا تستقرُّ بأوطانِ

من العلم أعلام لها ودلائلٌ

ومن همةٍ شماءَ والعزم ظهرانِ

7 ـ نونية البهلانييقف أبو مسلم البهلاني، ناصر بن سالم بن عديّم الرواحي، كأحد الرموز الشاهقة في الشعر العماني المعاصر. وهو إحدى الشخصيات التي نجحت سلطنة عمان في توثيقها ضمن قائمة اليونسكو للشخصيات المؤثرة عالميا. كتب أبو مسلم الرواحي في مختلف الأغراض والفنون، وكان يمثل نبض قطاع عريض من أبناء جيله داخل عمان وخارجه، في الوقت الذي كان العالم العربي يقبع تحت نير استعمار القوى الغربية ويتطلع أحراره إلى الاستقلال والحرية والعدالة. كما جسدت قصائد البهلاني شعور الاغتراب والحنين إلى الوطن، وهو يبث لواعجه من إفريقيا إلى مرابع طفولته في عمان. وتعد نونية البهلاني من أكثر قصائده شهرة وحضورًا إذ تعدت شهرتها حدود الوطن وتناقلها الأدباء والشعراء في الخارج، وهي قصيدة ملحمية في الاستنهاض، تقع في زهاء أربع مائة بيت. وتؤرخ نونية البهلاني لمرحلة فارقة في التاريخ العماني الحديث، بقيام إمامة سالم بن راشد الخروصي، حيث كتب هذه القصيدة وبعثها للإمام مؤيدا ومناصرا لثورة الإمامة في الوطن الأم ويستنهض القبائل للانضمام إليها. ولا ينسى البهلاني أن يبث في مطلع القصيدة لواعجه وحنينه إلى مرابع الطفولة، إذ يقول:

إن هيّج البرق ذا شجو فقد سهرتْ

عيني، وشبت لشجو النفس نيران

وصيّر البرق جفني من سحائبه

يا برق حسبك ما في الأرض ظمأن

إني أشح بدمعي أن يسح على

أرض وما هي لي يا برق أوطان

هبك استطرت فؤادي فاستطر رمقي

إلى معاهد لي فيهن أشجان

8 ـ نونية سالم السيابي

للشيخ العلامة سالم بن حمود السيابي أكثر من قصيدة نونية، وإن كانت لم تحظَ بالذيوع والشهرة، إلا أنها ذات أهمية كبيرة في مجالها. إحدى هذه النونيات تحمل عنوان (ذكر أولي العزم من أئمة عمان)، وقد وردت في كتاب ما زال مخطوطًا لم ينشر، وهو بعنوان (جوهر الكلم)، بخط ناسخه محمد بن حسن الرمضاني، وقد أرخ للفراغ من النسخ بتاريخ 20/ 2/ 1982م. والقصيدة تشتمل على معاني الفخر وقيم الاعتزاز بعمان وتاريخها المجيد، ويسرد فيها السيابي مناقب عشرين إماما من الأئمة الذين حكموا عمان عبر تاريخها المديد، ابتداء من الإمام الجلندى بن مسعود إلى الإمام محمد بن عبدالله الخليلي. ورغم أن التاريخ العماني مر به الكثير من الأئمة، إلا أن السيابي يخص هذه الكوكبة بذكر مآثرها في قصيدته، ويصفهم بـ(أولي العزم)، أسوة بما وصف به الله تعالى بعض المصطفين من الرسل بأولي العزم من الرسل. وللسيابي عدة نونيات كبيرة في الفخر مثل (الحديث عن غابرنا)، و(أين الحمية) في الاستنهاض لنصرة فلسطين، التي يبدو أنه قالها في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية التي احتلت فيها القدس الشريف. ولكننا نتوقف عند هذه النونية نظرا لفرادة مضمونها. يقول السيابي في مطلع قصيدته الطويلة:

طف بالمعاهد تبصر مجد ماضينا

فقد وضعنا على الدنيا عناوينا

وقد كتبنا على وجه الزمان لنا

بأحرف النور رسما من إيادينا

تاريخ ملتنا في وجه أمتنا

يبدو سناه لتاليه براهينا

عشنا على العز لا نرضى المذلة في

حالٍ، وإن قامت الدنيا تعادينا

9 ـ نونية أمير البيان

ومن النونينات الكبرى التي تستوقف القارئ للشعر العماني نونية أمير البيان الشيخ عبدالله بن علي الخليلي، التي حملت عنوان (ملحمة عمان في سجل الدهر)، وهي قصيدة ملحمية تشتمل على ثلاثة وثلاثين مقطعا شعريا تسرد تاريخ عمان وأمجادها وأبطالها وقادتها وأئمتها وعلماءها وملوكها وسلاطينها وأحداثها منذ الجاهلية، مرورا بعصور الإسلام وما شهدته عمان من وقائع وما سطره التاريخ العماني من بطولات، إلى أن يصل إلى عهد النهضة المباركة التي أشرقت شمسها على عمان بتولي جلالة السلطان قابوس، طيب الله ثرا، مقاليد الحكم. إنها وثيقة شعرية تاريخية جامعة لأهم وأبرز التحولات والانعطافات والأحداث التي شهدتها عمان ودونتها صحف الرواة والمؤرخين. وعبر كل هذه الحقب التي سجلها الخليلي في نونيته الملحمية، يتجلى التاريخ العماني كما وصفه في الأبيات التالية:

تجد التاريخ عنوان القضا

في سجل الدهر منذ الأولين

يا له كم قام فينا كاتبا

يملأ الأوراق بالحق المبين

يملأ الأوراق صيتا وثنا

وعمان الأم خير الكاتبين

10 ـ نونية أبي سرور

وليس ببعيد من ملحمة عبدالله الخليلي تأتي قصيدة (عمان الماضي والتاريخ) للشاعر الشيخ حميد بن عبدالله الجامعي، المعروف بأبي سرور، وهي قصيدة طويلة تزيد أبياتها على 145 بيتًا. طاف الجامعي من خلال قصيدته الغراء عبر التاريخ مسجلا مآثر العمانيين في مشارق الأرض ومغاربها، مذكّرا بأعلام عمان وقادتها وأدوارهم البطولية والعلمية والدينية في مختلف البلدان مثل مصر وتونس ولبنان والصين وشرق إفريقيا وآسيا. كما عرج أبو سرور على دور العمانيين في بناء الحضارة وخدمة اللغة والأدب والشعر حتى أقرت لهم الشعوب بذلك. كما توقف أبو سرور الجامعي عند بعض المدن التاريخية في عمان مثل صور وصحار ومسقط وظفار والبريمي وعبري والرستاق ونزوى وجعلان وسمائل، وغيرها. وتحدث أبو سرور عن الأمجاد البحرية التي سطرها العمانيون بأساطيلهم في ارتياد المحيطات وركوب الأهوال، حتى غدوا سادة البحار بلا منازع. وبكل بساطة لا يرى أبو سرور مجدا يضاهي مجد عمان العظيم، لذا فهو لا يتردد منذ الوهلة الأولى في قصيدته أن يطلب من قارئه بأن يفتح سجل الدهر ويقلب أوراق التاريخ ليرى الحقائق الناصعة بأم عينيه:

سائل فديتك عنا في مواضينا

تلْفَ الحقائق أمجادا لماضينا

سائل تجد ورقات المجد ما كتبت

كمثل ما كتبت عن مجد عالينا

عمان إن فخرت يوما وإن ذكرت

تاريخها أخرست لسن المعادينا

11 ـ نونية هلال السيابي

وأخيرا، وليس آخر، نتوقف عند نونية الشيخ هلال بن سالم بن حمود السيابي الموسومة بـ(القلادة)، وهي نونية طويلة جدا تبلغ أربع مائة وتسعة وعشرين بيتا، تجسد في مضمونها تطوافا شعريا عبر مناطق عمان ومدنها وقراها ووهادها وسفوحها وجبالها وبساتينها وشواطئها وصحاريها المترامية. يبدأ السيابي قصيدته الملحمية بالحنين إلى مرابع الطفولة والصبا، مشتكيا من لوعة الغياب وألم الفراق، الذي كان له بمثابة قدر مكتوب لا فكاك منه. ثم ينفتح هذا الحنين من دائرة مكان الطفولة ليتسع شيئا فشيئا ليكشف عن مشهد كلي تتجلى فيه عمان بكل أرجائها، فيأخذ الشاعر قارئه عبر رحلة روحية تطوف كل بقاع عمان من الجبل إلى الساحل، ومن الساحل إلى الصحراء. يتوقف الشاعر في رحلته السريعة عبر محطات عديدة يسرد فيها ولايات سلطنة عمان واحدة تلو الأخرى، مستحضرا بعض قبائلها وأعراقها الكثيرة التي لا يمكن لقصيدة أن تحصيها. ثم يختم السيابي قصيدته بخاتمة يناجي فيها أباه، معتذرا له عن الغياب، معبرا له عن ما يلاقيه من شوق وحنين إليه ولسمائل الفيحاء، وكأنه يختم القصيدة عودا على بدء بالحنين إلى حضن الأب ومنازل الطفولة. يقول السيابي في مطلع القصيدة:

يا شادي الأيك، لا رند ولا بان

نبا المكان، وعز اليوم إمكان

قد بارحته يد الوسمي مبكرة

وبان من أيكه النسرين والبان

فما صداحك بالأفنان مضطربا

وللنوى فيك ـ يا بن الأيك ـ أفنان

إذن، فقد كان لحرف النون وقعه الخاص لدى شعراء العربية ومن بينهم شعراء عمان، الذين أبدعوا في كتابة قصائد نونية عظيمة، سجلوا فيها تاريخهم ورموزهم وأبطالهم، ووثقوا مآثرهم وأنسابهم ووقائعهم، ابتداء من مالك بن فهم الأزدي مرورا بكل أطوار التاريخ العماني، إلى عهد السلطان قابوس. وما زال نهر الشعر العماني دفاقا هادرا، ربما يفاجئنا بنونيات تضاهي نونيات الأسلاف في عظمتها وعنفوانها وخلودها.