أعمدة

أحوال المنقرضات من أنماط الغناء والآلات

كتبت سابقا في هذا العمود عن معجم موسيقى عُمان التقليدية ومؤلفه الأستاذ الدكتور يوسف شوقي مصطفى، وأعود للكتابة عنه هذه المرة وقراءة بعض مما جاء بداخل صفحاته من أسماء ومعان، التي كان قد جمعها الدكتور شوقي وفريق عمله من أفواه الرواة والممارسين للغناء التقليدي وأنماطه وصنّاع آلاته وحفّاظ ألحانه ونصوصه المتواترة والمعاصرة في الثمانينيات من القرن العشرين الماضي.

وهذا المعجم الذي طبعته ونشرته وزارة الإعلام ممثلة في مركز عُمان للموسيقى التقليدية في عام 1989 يضم إلى جانب مصطلحات الموسيقى العُمانية مصطلحات أخرى من البيئة العُمانية ذات صلة بالممارسة الموسيقية، لهذا هو مهم من الناحية التوثيقية والتاريخية للأشخاص الذين يعملون في مجال الموسيقى العُمانية المحلية من الباحثين والمعلمين والممارسين وحتى الإعلاميين المعنيين بالموسيقى العُمانية، فهذا الكتاب كان من بين أهم مصادر ومراجع الموسوعة العُمانية في مجاله.

وهكذا فإن بعض مقالاتي تحت هذا العنوان ستكون قراءة مخصصة للنظر في أحوال المنقرضات وشبه المنقرضات من فنون الغناء والآلات الموسيقية مع ذكر بعض أسباب الانقراض رغم أني قد أشرت إلى بعضها في مقالات سابقة ولكن دون هذا الربط المباشر مع الأمثلة والزمن التاريخي ذي الصلة بتاريخ هذا المعجم، ومقارنة ذلك بالواقع الحالي حسب المتوفر عندي من معلومات. وعلى العموم أسباب الانقراضات عديدة: اجتماعية وثقافية واقتصادية وهي جديرة بالاهتمام والدراسة، أدت وستؤدي إلى انقراض العديد من أنماط الغناء التقليدي ما لم يتم اتخاذ الإجراءات الحمائية والقانونية المناسبة.

والبداية مع حرف (أ)، وقد ورد في بابه ثلاثة وثلاثين مصطلحا، ولا أدري إن كان بعضها لا يزال معروفا للأجيال الجديدة أم لا، ولكن لاحظت أن عددا منها يمكن تصنيفه ضمن المنقرضات أو شبه المنقرضات. وأولها حسب الترتيب في العجم شخصية:« أبو خرطوم؛ وهي من شخصيات الباكت التمثيلي الغنائي في مدينة صحار. وأبو خرطوم هذا حسب تعريف المعجم هو: « الغراب» وهو إحدى الشخصيات الهزلية التي يتقمصها ممثل متدثر بالسواد، لون الغراب، في فن الباكت تمثيل». وحول هذا الفن الغنائي التمثيلي المعروف بالباكت أدرجتُ سابقا في واحدة من خطط مركز عُمان للموسيقى التقليدية قبيل انتقالي إلى الجمعية العُمانية لهواة العود إنتاج فيلم وثائقي عنه وأتوقع تم إنجازه، ذلك إن هذا الفن الغنائي التمثيلي المميز في التراث الثقافي العُماني بدأ يقل عدد ممارسيه بشكل حاد ويفقد سلسلة التوارث.

أما الاسم الثاني الذي يندرج ضمن شبه المنقرضات إن صح الوصف هو: «أحمد الكبير»؛ وهو من الغناء الديني الصوفي في مدينة صلالة تحديدا، وقد اختفى تقريبا، وربما أسهم في ذلك تأثير بعض التيارات الثقافية الدينية المستجدة منذ التسعينيات على الأقل، حيث انتشرت في الولاية والمحافظة عامة منذ حرب ظفار ثم حرب أفغانستان الأولى تيارات دينية متنوعة لها آراء متشددة تجاه التقاليد التراثية الغنائية عامة والصوفية بصفة خاصة وأثرت تأثيرا واضحا على السلوك الاجتماعي والثقافي والموقف من هذه الفنون الغنائية.

وفي الواقع أعتقد أن المدن الساحلية في محافظة ظفار كانت مراكز أساسية من مراكز الصوفية في جنوب الجزيرة العربية، والتاريخ الثقافي الإسلامي فيها هو تاريخ صوفي والأضرحة الكثيرة لرموز الصوفية التي انقطع زوارها من بن عربية في ريسوت إلى بن علي في مرباط تدل على ذلك.

وفي هذا السياق ربما يأتي فن غنائي آخر من فنون الغناء العربية الشحرية وهو: «المكبور» أو هيلي مكبور، وهو فن غنائي وأدائي حركي مختلط خاص بأهل الجبل في ظفار والناطقين بالشحرية الجبّالية. ويصف شوقي هذا الفن الغنائي: «من فنون الريف في مرباط بالمنطقة الجنوبية، حيث يهب الرجال ويزفنون بالسيف ويمدحون النساء بشعر غزل»، وهذا الفن الغنائي المنقرض واحد من أجمل فنون الغناء الجبالية شعرا وغناءً وأداءً التي تحتفي بالأنثى والحب العفيف والمحبين العذريين إن جاز الوصف، والمكبور بمعنى المحبين، والجميلات يكثر محبيهن. وحسب معلوماتي كان هذا الفن الغنائي الراقص يؤدى بصفة خاصة في مواسم الصرب في ريف ظفار عامة. وأعتقد من الصعوبة في الوقت الحاضر إعادة أدائه حسب التقاليد القديمة للأسباب التي ذكرت.

وفي الواقع التيارات الدينية جميعها تقريبا عندها آراء متشددة تجاه الفنون عامة والموسيقى على وجه الخصوص ولا تأخذها كعلم وفن ولغة اجتماعية فطر الله الناس عليها، وهي في هذا السياق عدوة للاختلاط الذي كانت عليه هذه المجتمعات الريفية، وهذه التيارات المختلفة فيما بينها أيضا ليس لديها القدرة حتى الآن على منع أي نشاط أو نمط غنائي، ولكن عندها قدرة لا يستهان بها من الفاعلية على نشر آرائها وتغيير سلوك الأشخاص ومواقفهم تجاه الموسيقى والغناء بشكل خاص. ونشاطهم ملحوظ في بعض المدارس والتي في الوقت نفسه تعتبر الموسيقى مادة أساسية فيها، ولعل معلمي الموسيقى وطلبتهم يواجهون يوميا هذه التحديات، وقد كتبت مقالا سابقا في هذا السياق من واقع تجربة شخصية. وهكذا يمكن تصنيف هذه التيارات كسبب من أسباب عديدة أخرى مساهمة في انقراض العديد من أنماط التراث الموسيقي الغنائي أو تغيير أسلوب أدائها .

مسلم الكثيري موسيقي وباحث