أعمدة

«3»: قراءة العمل الموسيقي

السؤال الذي يمكن أن يَرِد إلى أذهاننا منذ البداية هو: ما العمل الموسيقي؟ فالموسيقى تُؤلَّف لأجل أغراض متعددة متباينة: فمنها الموسيقى الخالصة التي تستخدم الآلات وحدها (ولذلك تُسمى أيضًا موسيقى الآلات) التي لا تخدم أغراضًا جمالية خارج السياق الموسيقي نفسه؛ ومنها الموسيقى الدرامية التي تُسمى أحيانًا بالموسيقى الوصفية؛ لأنها تصف أحداثًا: كالأوبرا التي تؤلَّف من أجل نص أوبرالي، وموسيقى الفيلم، والأغنية التي تُؤلَّف لتصاحب كلمات شعرية؛ ومنها الموسيقى الحماسية التي تُعزَف في المناسبات الوطنية بمصاحبة كلمات أو من دونها؛ ومنها الموسيقى التي تُؤلَّف لكي تصاحب المتع والحالات العابرة: كالاسترخاء أو الرقص أو تناول العشاء، إلخ. ومع ذلك، فإن الموسيقى في كل الحالات تظل عملًا موسيقيًّا باعتبارها سياقًا زمانيًّا يتألف من أصوات موسيقية تتابع في تشكيل جمالي يقوم على اللحن والإيقاع والهارموني متعدد الأصوات. وقد تخلو الموسيقى من الهارموني، كما هو الحال غالبًا في الموسيقى الشرقية؛ ولكن هذا لا ينال من مشروعية العمل الموسيقي وجمالياته. ويظل اللحن هو العنصر الأساس في بناء اللحن وقيمته الجمالية، ويكون اللحن أكثر جمالًا حينما يعتمد على ثيمة لحنية خصبة قادرة على توليد تشعبات فرعية للحن في مسارات عديدة قبل أن يعود اللحن إلى القرار الذي بدأ منه. يمكن تطبيق هذا على أشكال مختلفة من الأعمال الموسيقية، رغم أنها أشكال لكل منها خصائصها وأساليبها الفنية في التعبير عن الموضوع الذي كُتِبَت من أجله:

الأغنية

ربما يكون اللحن الغنائي هو أكثر أشكال الموسيقى التي يألفها عموم الناس. جمال الأغنية يكمن في ارتباط اللحن بالكلمات بحيث يعبر عن الحالة الشعورية التي تسكنها؛ ولهذا فإننا نستعذب اللحن الذي يستخدم الناي والآلات الموسيقية القادرة على التعبير عن الشجن والحزن في المواويل. ولهذا السبب نفسه، فإننا نستهجن ونأنف أو ينقطع شعورنا الجمالي حينما نجد أن اللحن الحزين المواكب للموال ينقلب فجأة إلى لحن صاخب إيقاعي راقص. ولكن هذا -للأسف- هو ما نجده في ألحان بعض الملحنين العظام من أمثال بليغ حمدي الذي ألَّف ألحان بعض من أشهر الأغاني العربية!

الموسيقي الدرامية

هي الموسيقى التي تُكتَب من أجل نص أوبرالي حافل بالأحداث الدرامية، وهي تتوالى أو تتابع مع تطور وتتابع الأحداث الدرامية. وكذلك فإن موسيقى الفيلم تصف أو تصوِّر موسيقيًّا الأحداث والحالات الشعورية التي تهيمن على الفيلم. ولعل ريتشارد فاجنر هو أهم رواد فن الأوبرا، كما أن إنيو موريكوني هو أهم صانعي موسيقى الفيلم في عصرنا. ومع ذلك، فإن شوبنهاور الذي كان معاصرًا لفاجنر لم يعتد سوى بالموسيقى الخالصة؛ لأن الموسيقى لا ينبغي أن تكون تابعة للكلمات: حقًّا إنه يرى أن ارتباط اللحن بالكلمة يضفي عليها تأثيرًا شعوريًّا قويًّا، ولكنه يرى في الوقت ذاته أن اللحن لا ينبغي أن يكون تابعًا للكلمات؛ بل ينبغي أن تبدو الكلمات تابعة له (أي: كما لو كانت مثالًا عليه أو تجسيدًا له).

الموسيقى الخالصة

السؤال الآن: أين نضع الموسيقى الخالصة من هذا كله؟ الموسيقى الخالصة، أعني الموسيقى التي تستخدم الآلات التي يمكن أن تستخدم الصوت البشري باعتباره مكوِّنا موسيقيًّا خالصًا كالآلات، هي موسيقى لا تعبر عن موضوع محدد كما نجده في الواقع، وإنما تعبر عن جوهر الشعور من دون ارتباط بموضوع محدد: فهي تعبر عن السعادة والبهجة أو الحزن أو الرهبة أو الجلال من دون الارتباط بموضوع محدد مما يمكن أن يثير هذه المشاعر.

ومن أمثلة الموسيقى الخالصة: السوناتا والكونشرتو والسيمفونية التي هي أعلى أشكال البناء الموسيقي وأكثرها تعقيدًا. والواقع أن معظم الناس -خاصةً في العوالم التي تفتقر إلى الثقافة الموسيقية- لا يتذوقون الموسيقى الخالصة، بل قد يأنفون منها؛ ببساطة لأن أذنهم لم تألف سماع هذه الموسيقى، والناس أعداء ما جهلوا، كما يُقَال. ولهذا يمكننا القول: إن الموسيقى الخالصة تظل هي النموذج الأسمى الذي يجسد العمل الموسيقي كما يكون في ذاته وبذاته.

ومع ذلك كله، فإننا يمكن أن نجد صلة قرابة بين الموسيقى الخالصة وغيرها، ونقول: إن الفن الموسيقي تكمن قدرته في التعبير عن موضوعه، وفي قدرته في الوقت ذاته على الاستقلال عن موضوعه الخاص بحيث يصبح معبرًا عن الحالة الشعورية العامة التي تتحقق في موضوعه مثلما يمكن أن تتحقق في غيره. ولإيضاح ذلك، يمكن أن نسوق هنا بعض الأمثلة:

لنـتأمل موسيقى الأفلام الشهيرة التي أبدعها إنيو موريكوني، ومنها ما يُسمى بأفلام الوسترن، وأهمها: «من أجل حفنة دولارات» و«من أجل مزيد من الدولارات»، و«الطيب والشرس والقبيح»، و«حدث ذات يوم في الغرب»، وحدث ذات مرة في أمريكا، فضلًا عن أفلام عالمية أخرى لا حصر لها. ولكن كثيرًا من أعمال هذا المؤلِّف العظيم تبقى لها قيمتها الجمالية الموسيقية بشكل مستقل عن الأفلام التي كُتبت من أجلها! وهنا تكمن المفارقة: فكل عمل من هذه الأعمال الموسيقية يبدو كما لو كان قد كُتِب من أجل وصف أحداث فيلم ما، ولكننا نكتشف أن هذه الأعمال الموسيقية قادرة على أن تستثير إعجابنا حينما يتم عرضها مستقلة في حفلات موسيقية أوركسترالية. ومنها حفلات بقيادة موريكوني نفسه. هذه المسألة تحديدًا قد فصلتُ القول فيها في سيرتي الذاتية بعنوان «الخاطرات»، وفي مقال سابق منشور بجريدة الاتحاد الإماراتية بعنوان «حينما تقوم الموسيقى بدور البطولة». ومثل هذا يمكن أن يُقال عن الموسيقى الأوبرالية كما جاءت في الأعمال الكبرى.

وبحسب حظ المتلقي من الثقافة الموسيقية يكون حظه من حسن قراءة العمل والاستمتاع به. وعلى نحو آخر نجد أن المايسترو وكذلك العازفون يقومون بقراءة العمل الموسيقي بالمعنى الحرفي للقراءة، أعني قراءة النوتة الموسيقية باعتبارها أعدادًا حسابية وفواصل زمنية، إلخ. ولكن قراءة النوتة ليست مجرد قراءة حرفية، ولكنها أيضًا قراءة للحالة الشعورية المباطنة في اللحن؛ ولذلك نجد على هامش النوتة مصطلحات موسيقية تصف هذه الحالة الشعورية التي يمكن أن يستلهمها المايسترو أو العازف (خاصة العازف المنفرد)، وفي هذا يتفاوت حظ هؤلاء من حيث المكانة الموسيقية.