ثقافة

القصة.. ضيف خفيف على الصحافة

 
لي صديق نحيف جدا. يشبه عود قصب، نضحك معه دائما، ونقول له: «أنت تشبه أقصوصة». حينما يهلّ علينا يطالع المكان بسرعة، ويبحث عن أيّ فرجة بين اثنين جالسين، مساحة سنتيمترات، لا تكفي من النظرة الأولى لجلوس طفل، لكنه يلقي بجسده عليها، وسرعان ما يملأ الفراغ الصغير، أو يملأه الفراغ الصغير، كأنه مادة سائلة في تجربة «الأواني المستطرقة». حصلت القصة، مثل صديقي، على مكانها، قبل مكانتها، في الصحافة، تاريخيا، من خلال حجمها الصغير. القصة بين الروايات هي قطعة حلوى بين «تورتات» ضخمة، بيت صغير وسط عمارات شاهقة، ورقة ملونة أمام كراسات وكشاكيل، حوض ورد في حقول شاسعة.

نحافتها سهّلت نشرها، مثلها مثل القصيدة. لو سألت أيّ رئيس تحرير إصدار ورقي، عن أكثر نوع أدبي يجد صعوبة في نشره، سيشير بإصبع إلى (تهمة) ضخمة تستقر على الطاولة أمامه: «إنها الرواية». لا يجد أمامه إلا اقتطاع جزء منها، جزء مستقل، فيه حكاية ما، أو موقف تعيشه شخصية، أو حدث يتوهّم أنه يكفي وحده لشدّ الجمهور، لكنه يعرف قطعا أن الرواية ليس مكانها صفحات الجرائد والمجلات. حتى لو نشرها مسلسلة، لا يمكن أن يضمن أبدا أن يتابعها كلّ الجمهور، فمن يشتري الصحيفة أو المجلة اليوم قد لا يشتريها غدا، أو بعد غد، وبالتالي تبدو فكرة غير عملية، ومحكوما عليها بالفشل غالبا، إلا لو كنا نتحدث عن حالات تاريخية، مثل نجيب محفوظ الذي نشرت بعض أعماله مسلسلة في مجلة «الرسالة الجديدة» وصحيفة «الأهرام».

كان عقد الخمسينيات هو عقد القصة بامتياز في مصر. حاولتْ كلّ مجلة مصرية أن تجذب كتّاب القصة إليها، من «آخر ساعة» إلى «المصور» و«حواء» و«الكواكب» و«التحرير» (مجلة أصدرتها ثورة يوليو ورأس تحريرها ثروت عكاشة، ورأس مجلس إدارتها أنور السادات) و«الرسالة الجديدة»، و«روز اليوسف» و«صباح الخير»، إلى جريدة «المصري».

لم يقتصر النشر على الصحافة، وإنما صدرت كتب تضم باقات قصص لكتّاب راسخين أو شباب. في عام 1956 مثلا صدر كتاب «ألوان في القصة المصرية» ضمّ قصصا لنجيب محفوظ، ويوسف السباعي، ويوسف الشارونى، ويوسف إدريس، ومصطفى محمود، ومحمود تيمور. قدّم له طه حسين، بينما كتب محمود أمين العالم دراسة نقدية عن الأعمال.

واستمرارا لتوهّج القصة في عقد الخمسينيات صدر كتاب «قصص من مصر» عن «الجمعية الأدبية»، في عام 1958، وضمّ قصصا لكتّاب سيكون لهم شأن كبير في المستقبل، مثل عبد الرحمن فهمي، وفاروق خورشيد وأحمد كمال زكي وعبدالغفار مكاوي. قدّم للقصص الناقد الدكتور عز الدين إسماعيل. ودفعتْ حمّى القصة بشاعر كبير مثل صلاح عبد الصبور لأن يكتب في مجلة «صباح الخير» سلسلة قصص بطلها شخصٌ واحدٌ اسمه «محمود»، واخترع إحسان عبد القدوس في نفس المجلة باب «حكاية»، تناوب عليه معظم كتّاب القصة الشباب. كان أشبه بمكان للتدريب على القصة، وأسهم في تعريف الحياة الثقافية بقامات مثل فتحي غانم، وعلاء الديب، وصبري موسى، وأحمد هاشم الشريف. وفي عهد رئيس تحريرها الشاعر ورسّام الكاريكاتير صلاح جاهين نشرت «صباح الخير» باب «الجيل الغاضب» ابتداء من عام 1966، تحت إشراف الديب، وعاونته لجنة لإجازة الأعمال الأدبية تكوّنت من يحيى حقي، ومحمود أمين العالم، وشكري عياد. في هذا الباب نشر الديب لكثير من كتّاب الستينيات، مثل إبراهيم أصلان وخيري شلبي ومحمد حافظ رجب، لكن الفضل الأول في رسوخ هذا الجيل يعود للكاتب والصحفي عبد الفتاح الجمل، فقد خصص ملحق جريدة «المساء» لنشر أعمالهم وتقديمهم إلى الحياة الثقافية. كانوا يعتبرونه راهب جيل الستينيات، فقد أهمل نفسه، وكتابته، وتفرّغ للتبشير بهم، ولم يكن حديثه يخلو في أيّ مكان منهم، ولذلك استمروا في تمجيده حتى رحيلهم واحدا وراء الآخر.

لا أستهدف التأريخ للمجلات والجرائد التي اهتمت، خلال العقود التالية، بالقصة القصيرة، وإلا لاحتجت إلى كتاب كامل، لكنني أريد أن أقفز مباشرة إلى عقد التسعينيات، حيث أتيح لي الانضمام في نهايته إلى جريدة «أخبار الأدب» والعمل مع كاتب من أبرز الكتّاب الذين بشّر بهم عبد الفتاح الجمل، أقصد الروائي جمال الغيطاني. قبل صدور الجريدة كانت القصة المصرية لا تجد المساحة الكافية للازدهار والانتعاش، كما كان يحدث في عقد الخمسينيات أو حتى في الحقب التالية، وتعرضت صفحات الأدب في الجرائد والمجلات المختلفة للإلغاء غالبا تحت ضغط سيل الإعلانات، كما رفضت مجلة «القصة»، التي تصدر عن «نادي القصة» النشر لغير أعضائها، بما يعني أنها انعزلت وتحولت إلى «أخوية»، كما أن مجلة «الثقافة الجديدة» لم تستوعب سيل القصص التي تنهمر عليها من كل الأقاليم، بما أنها شهرية. ولذلك حينما صدرت «أخبار الأدب» بدت كأنها يد القدر التي امتدت لتنتشل القصة من أزماتها. خطّ الغيطاني لها طريقا جميلا، يصل الشرق بالغرب، بمعنى أنها لا تنكفئ على مصر، ولا تكتفي بنشر مواد محلية، وإنما تمد يدها للعالم العربي، وكذلك لبقية العالم، رأى الغيطاني أن للجريدة دورا تربويا، فحين تنشر نصا لشاب ويجد نصه منشورا، جنبا إلى جنب مع نصّ لكاتب عربي أو أجنبي راسخ، سيقرأه ويتعلّم منه.

استنّ الغيطاني تسمية «تقليب التربة» وبدأ في البحث عن المواهب في كلّ مكان، واستطاع تدبير المال اللازم لتأسيس مسابقة سنوية، خصّصها للقصة، إذ كان مقتنعا بأن القصة فن مظلوم، فن افتقد إلى وجود قامات بعد وفاة يحيى حقي ويوسف إدريس ويحيى الطاهر عبد الله. ورأى أيضا أن تخصيص مسابقة لها سيمنحها دفعة قوية، وهو ما حدث فعلا، حيث اكتشفت الجريدة أسماء صار لها وزنٌ كبيرٌ في عالم القصة. كما كان الغيطاني مقتنعا بصعوبة نشر الروايات مسلسلة، مع أنه خالف قناعته ونشر بعض الأعمال بهذه الطريقة، وكان يضع تلخيصا، في كل عدد جديد، لأحداث الرواية المنشورة خلال الأعداد السابقة. كان الغيطاني يتصل بكثير من الكتّاب، ومنهم روائيون، طالبا منهم كتابة قصة خصيصا للجريدة، وأغلبهم استجاب له، ومنح الصدارة لجيله، فلم يخل عدد من نصّ لإبراهيم أصلان أو محمد البساطي أو بهاء طاهر أو خيري شلبي، لكنه منح المساحة الأكبر للكتّاب الجدد، وبرزت القصة في «أخبار الأدب» باعتبارها الفنّ المفضّل لجمال الغيطاني (الصحفي)، وكتبت المقالات في الثناء على القصة وعودتها القوية وأسمائها الجديدة، وفي بداية الألفية وتحديدا في عام 2004 أعلن بصحبة صديقته شمس الإتربي عن تأسيس جائزة «ساويرس» في الرواية والقصة القصيرة، وبدت هذه الجائزة أيضا فرعا يغذي نهر القصة، لكن مشكلتها أنها انكفأت على مصر فقط، بعكس جائزة «الملتقى» الكويتية التي فتحت أبوابها للعرب فأحدثت تأثيرا امتدت مساحته من الخليج إلى المحيط.

القصة في رأيي هي الفن الأكثر كمالا في كل شيء، حتى في العلاقة مع الصحافة، فهي كالضيف الخفيف، أنيق وجميل وزيارته خاطفة، يأتي بمفرده، لا مع كثير من الأشخاص، غير صاخب، أو دعائي، يجلس في أي مكان، ويمضي معك بعض الوقت البسيط، لكنه يترك في نفسك أثرا رائعا، كأنه حلم، أو سحابة، أو هبّة هواء منعشة في يوم قائظ.

شهادتي في المؤتمر الأول لجائزة الملتقى الكويتية