أعمدة

نازك الملائكة وعروبة الأمس

سالم الرحبي
 
سالم الرحبي
لا يُستدعى اسم نازك الملائكة -غالبا- إلا في سياق الحديث عن دورها (البطولي) المشترك مع بدر شاكر السياب في تحرير القصيدة العربية من عُقدة الشطرين والارتهان لسلطة الوزن الخليلي التقليدي على مدى أكثر من أربعة عشر قرنا. هكذا جرى تعريفها للتلاميذ في منهاجهم المدرسي، ولكن ما إن ينتهي الحديث عن ريادة الشعر الحر حتى تنقطع أخبار الشاعرة العراقية وينصرف الاهتمام نحو السيَّاب.

إن أي مقارنة نقدية بين الشاعرين، السيَّاب والملائكة، يمكنها أن تخلص إلى استنتاج عام مفاده بأن أهمية الملائكة في تاريخ الشعر العربي الحديث تتوقف عند حدود الثورة على الشكل؛ ذلك لأن قصيدتها لم تنهض لإنجاز مشروع شعري يواكب هذا التطور الشكلي، بخلاف ما سعى إليه السيَّاب الذي أفاد من تحرر الإيقاع في الكفاح من أجل رؤية جديدة للشعر العربي تمثَّلت معالمها بوضوح في «أنشودة المطر» الأسطورية. أدونيس، مثلا، والذي اهتمَّ باكرا بشعر السيَّاب بعد رحيله فجمع باقةً مختارة من قصائده وقدَّم لها، كان قد عبَّر في أكثر من مناسبة بأن نازك لم تمتلك مشروعا (1). كلمة «مشروع» ربما تكون هي السر هنا: فهل كان غياب الخط والتوجه في كتابتها للشعر، في جو من الضباب الذي أحاط برؤيتها الشعرية منذ منتصف الخمسينيات، خاصة بعد انقلاب 14 يوليو 1958، هو ما دفع بنازك للبحث عن مشروع فكري موازٍ يسند حضورها الثقافي ويعوّض عن فقر التجربة الشعرية؟

كما يتضح من عنوان هذا المقال فهو إعادة كتابة لعنوان أشهر قصائد الشاعر اليمني عبد الله البردوني، قصيدته «أبو تمام وعروبة اليوم». ولكن تجدر الإشارة في البدء إلى أن موضوعنا هنا ليس عن صور العروبة وتمثلاتها في شعر نازك، بل سنبحث عن معنى العروبة في ما خلَّفته نازك من كتابات «فكرية» اتخذت من القومية العربية مطيةً لها ورايةً أيديولوجية منذ البداية. فالشاعرة التي ظلَّت ترواح بين كتابة الشعر والنقد الأدبي اختارت أثناء إقامتها في بيروت أن تقتحم الكتابة الفكرية بدءا بالكتابة عن القومية العربية، أو «حولها» كما يقول عنوان مقالتها «حول القومية العربية» المنشورة عام 1960 في مجلة الآداب اللبنانية، المقالةُ التي سنقرأها لاحقا مضمنةً في كتابها «التجزيئية في المجتمع العربي» الذي يمثل معرضا لمجهودها الفكري كيفما اتفق بين عامي 1953 إلى 1969 حول قضايا المرأة والمجتمع والقومية العربية.

لم يحمّل أحد نازك ما لا تحتمل، فهي من صنَّفت مقالات كتابها المذكور «بحوثا» كما تقول في التقدمة (2)، وعلى الرغم من ذلك فإن الشاعرة، المتمردة دائما، ستستهل مقالتها «حول القومية العربية» بالتمرد على أهم الشروط الموضوعية للبحث، ألا وهو التعريف؛ فهي ترى بدايةً بأن «العروبة» كلمة يحق لها أن تبقى متعالية عن التعريف، وربما مُنزَّهة عنه حالها كحال سائر «المبهمات الجميلة» التي أعيت الفلسفة، مثل «الله» و«الجمال» و«الغيب» والعاطفة»، متبرمة قبل كل شيء من هوسنا الدائم بالتعريفات والوضوح والإحاطة الكاملة بظواهر الكون والأشياء. فهي ترى أن البحث عن التعريفات بدعة غربية هبَّت علينا مع رياح التأثير القادمة «أوروبا المتشككة» التي أسقطت القداسة عن الأشياء، والأهم من ذلك أنها بدعة منافية لطبيعة الإنسان الشرقي «ولا ريب في أن البحث عن التعريفات قد جاءنا من الغرب» وأما نحن، في هذا المشرق العربي، فإننا نمتلك من روحانية الطبع، وغزارة العاطفة ونقاوة الإيمان ما يجعلنا نقف خاشعين مبهورين أمام المغيَّب والمجهول «ولقد حاول الغرب أن يشككنا في قيمة هذه الصفة» غير أنها بقيت مع ذلك مزية فينا لأنها لا تصدر إلا عن اتصالنا بالأعماق الفطرية للإنسان. ولقد وقفنا دائما خاشعين أمام الطبيعة وأمام الإنسان فتقبلنا الحقائق الكبرى تقبّل تسليم دون أن نناقشها أو نحاول تعريفها. وكان ذلك هو أساس حكمتنا الشرقية»(3). ثم تكتب نازك عن العروبة كلذة يجدر بالعربي أن يستمتع بها لا كفكرة تطالب بالتفكير في معناها، ولكن نتيجةً للشك الذي ساقته التأثيرات الغربية علينا «لم يعد في إمكاننا أن نشعر بعذوبة قوميتنا العربية إلا إذا حصلنا على تعريف شامل لها» فتشبه حالتنا هذه بإنسان «يمتص قصب السكر ويرفض أن يجد له لذةً إلا إذا لجأ إلى مختبر وحلل السكر إلى جزيئاته أولا»!(4) وملخَّص دعوة الشاعرة التي تتصدى هنا لدور المفكر القومي هو: لماذا لا نستمتع بعروبتنا فحسب؟! وتواصل نازك، باسم الكتابة الفكرية، هتافها كقائد مبشر بلا جمهور، منتهيةً إلى أن «القومية هي الحياة»! فمن يستطع أن يكبح غرور الذات الشاعرة المعتدة بعدَّة اللغة؟!

في العدد السابع من مجلة الجديد (1995) تكتب الشاعرة صفحاتٍ بعنوان «لمحات من سيرة حياتي وثقافتي» وفيها يمكن للقارئ أن يتتبع مسار التحولات أو التقلبات الفكرية في حياتها وفقا لبوصلة اندفاعها العاطفي. تكتب مثلا عن بهجتها لـ«ثورة 14 يوليو» التي لم تلبث حتى خيّب عبد الكريم قاسم أملها بعد أن «استهوته شهوة الحكم، وسمح للشعوبية أن تطمس جمال الثورة، وتقضي على مبادئها القومية التي أحبها أشد الحب». ومن الطريف أن الشاعرة لم تقل إنها تؤمن بالمبادئ القومية للثورة، كلا، إنها «تحب» تلك المبادئ، وكأن المبادئ السياسية هي مسألة اختيار عاطفي خاص، لا أكثر. وربما كان هذا الحب الأعمى، إن صحَّ الوصف، هو ما يجعل نازك في قمة الاندفاع وهي تعلن بأن القومية العربية فوق العلم: «إن العلم نفسه ضعيف أمامها، وإنما قوميتنا هي الخطرة على أي علم لا يعترف بها»(5).

لقد تركت نازك خلفها إرثا لا يشرح رؤيتها للقومية بقدر ما يحكي عن حالة التباس خَطرة قد تحدث أحيانا بين الفكر والأدب، وهي حالة من حالات الشاعر عندما يقرر لعِب دور المفكر أو المنظِّر، معتمدا على الانسياق العفوي خلف إغواء اللغة المرفود بالدفق العاطفي للأفكار الجاهزة، داخلا إلى المبحث بأدوات الكتابة الأدبية وحدها، وهو ما سيسفر في النهاية عن بطلان مشروع الكتابة؛ فلا هي كتابة ملتزمة برصانة الفكر ودقة البحث العلمي ولا هي منتمية لهوية الأدب.

المصادر:

انظر مثلا: مشكلة الثقافة العربية ليست في الإبداع ولكن في القراءة، عاصم الشيدي عن جلسة حوارية لأدونيس في بيت الزبير، جريدة عمان، 27 مارس 2019.

التجزيئية في المجتمع العربي، نازك الملائكة، دار العلم للملايين، 1974، ص 5.

المصدر نفسه، ص 91.

المصدر نفسه، ص 92.

المصدر نفسه، ص 114.