أعمدة

ينتابني ما ليس في العالم أجمعين

(1)

آثمٌ هو حُبُّنا وعليل (مثل أماني المناديل والأمَّهات).

(2)

حديث «اللغة» في السينما طويل وشائك (الدَّهقن التأسيسي الكبير للنَّظَّرية السِّينماسيميولوجيَّة كريستيان مِتس يذهب إلى أنه لا توجد «لغة» في السينما أصلاً؛ فلقطة مقرَّبة لمسدَّس، مثلاً، لا تقول «هذا مسدَّس» بل تقول «مسدَّس» فحسب، وشتَّان بين الشَّيئين).

لكن -- على الرغم من تداول منظورات عدَّة لمفهوم «اللغة» (أو عدم وجوده من الأساس) في السينما -- فإن الفيلم السيء ليس ثرثاراً بالكلمات فقط، وإنما بالصُّور، والموسيقى، والمؤثِّرات والمراشح الضوئيَّة أيضاً (والكارثة، في هذه الحالة، أكبر) كما هو الحال المؤسف في فيلم «كاملة» (جون إكرام ساويرس، مصر، 2022) الذي يرينا بطلته الشَّابة الجميلة مرتدية بنطال «جينز» أزرق ضيِّقاً، ويستخدم تقنية «التركيز الناعم» (soft focus) من أوله إلى منتهاه بلا أي مسوِّغ جمالي بل لأغراض تكاد أن تكون من نوع البورنوغرافيا الخفيفة (بالمناسبة: «الحوارات الكثيرة» في بعض أفلام عبَّاس كياروستامي مثل «نسخة معتَمدة» «إيطاليا، 2010» -- وهو، على حد علمي، واحد من ثلاثة أفلام فقط أنجزها خارج بلاده -- هي استطرادٌ تعضيديٌّ أو مقاطعة تعزيزيَّة لبساطة الصُّور البليغة. وذلك شيء آخر يختلف تماماً عن «الثرثرة»).

(3)

في بلادٍ ما لا يزال السَّفلة يتأبطُّون الكاميرات. في ذات البلاد ينخرط أقران لهم في كتابة المذكرات. كل هذا والفضيحة لم تبدأ بعد.

(4)

يلوكونك يقيناً منهم أنهم آخر العائلات («المعروفة»، بالتأكيد).

(5)

لقد وصلتُ أخيراً. آه، لو كنَّا تواعدنا على شيء من علامات الطَّريق، ولو كُنَّا قد تحقَّقنا من الأرانب وبنات نعش.

(6)

الوطن ثغرة ينبغي ارتجالها مرة أخرى (كلا، من الأفضل ألا يحدث ذلك).

(7)

سأتجرأ على القول نه، في السِّينما، لم يحدث للعالم تدميرٌ وسواسي التَّفاصيل، مهووس الدِّقة، ممسوس العدميَّة، كامل المنهجيَّة، مطلق الهمجيَّة، بالغ الانتقاميَّة، شنيع التَّشفي، بديع الألوان، كما حدث في القسم الثالث من فيلم «القارَّة السَّابعة» (1989) لمايكل هانيكه (يستغرب هانيكه، ببراءة شديدة، في حوار صحفي مع كرِستُفر شاريت من أنه يمكن لأي أحد أن يرى تلك الصُّور «جميلة». ولا ينسى، في حوار آخر، التنبيه إلى أن المتفرجين، فيما يخص مشهد تدمير البيت/ صورة العالم، تأثروا بلقطة تحطيم حوض الأسماك الملوَّنة وتمزيق النقود ورميها في المرحاض أكثر من تأثرهم باللقطات الشَّنيعة التي تُظهر انتحار أفراد العائلة)!

هذا بالضبط ما كان ينبغي أن يحدث (وقد حدث بالفعل، وبالتَّمام، والمأساة، والكمال).

(8)

لا أكتب، بل أوطِّد أصابعي في النِّسيان، وأستدرج الرِّيح إلى الذَّاكرة، وأذهب بالفزَّاعة إلى القمر.

أنا شخص مفروغ منه.

(9)

لم أشعر أبداً بأي انتماء لأي مكان. لم أعش في أي مكان بطريقة عموديَّة، بل كنت أرتجل الزوايا (ولا أدري كيف سمحت لي مجز الصغرى بكل ذلك).

(10)

سألني في ليلة البارحة صديق عزيز: كيف سنقضي بقيَّة الحياة؟

أجبته: بأن ندع الذكريات تقضينا.

(11)

كل ما يقوله لنا أي فيلم سينمائي كان قد «حَدَث» قبله (حتى وإن صار في أثنائه).

(12)

المَعِدَة من أسرار استمرار الغابة، والسَّماء صغيرة على أجداث الشُّهداء.

(13)

اليوم، تبدو فكرة «الفن» ميتافيزيقيَّة أكثر من أي وقت مضى. وفي يوم أمس، وجد النَّاس البلاهة في عقر دار السَّماء.

أنحاز للانحسار.

(14)

نحن، في هذه البلاد، لا نحتاج إلى «المثقَّف العضوي». نحتاج فقط إلى «مثقَّف» يقرأ الصُّحف من حين لآخر، ولا يحاول مصادرة حصَّتنا في دورات المياه.

(15)

لا أحتاج إلى كل الحروف كي أقول آخر الكلمات في ما يخص شأني العاثر؛ فالأبجديَّة كلها متروكة لمن سيصدرون الحكم. وبالقدر نفسه: «اخرج من هنا! الكلمات الأخيرة متروكة للحمقى الذين لم يتكلموا بما فيه الكفاية» («الشيبة العود» كارل ماركس في ردِّه عن سؤال عمَّا إذا كانت لديه أي كلمات أخيرة، وقد حدث ذلك قبل مدة قصيرة من وفاته).

(16)

التَّسامح من صفقات السُّلطة. الغفران من مواهب انعدام البديهة. القبور ستسائل الجميع.

(17)

الفرحة من بروتوكولات السَّأم (وتأتي الفجيعة لأنها، في الأصل، كانت ذاهبة إلى مكان آخر).

(18)

كلُّ حيٍّ سراب. كلُّ ميِّت غيمة. كلُّ العصافير شجن. كلُّ ضحكةٍ غيلة. كلُّ شمس تراب. كلُّ يوم مقتلة. كلُّ كلمة هَذْر.

(19)

ينبحون في التَّفاصيل، لكنهم لا ينجون في التَّفاصيل.

(20)

لا تستبعد أبداً أن يحدث في موتكَ شيء آخر.

(21)

لا تقولي كلمة أخرى كي لا يحدُث منتصف الطَّريق مرة أخرى.

(22)

هذه كلمةٌ لا يمكن أن تُطاق في بقيَّة هذا اليوم.

(23)

ارتطمتُ بالمصادفة (وكان هذا خطأ النجوم أيضاً).

(24)

الانكسار والعجز متلازمان (قصدتُ الشعور الإنساني الأعظم)، ولا بأس في الحديث عن الشَّجاعة (لمن استطاعوا إلى تلك سبيلا).

(25)

لو كان بين كل تلك الجثث هذا الجَدَث.

(26)

قبل سنوات جاءني يشتكي مما يُشتكى ولا يُشتكى منه. قلت له: «الأهم هو ألا تتخلى عن نفسك».

التقيت به البارحة بالمصادفة في مناسبة اجتماعيَّة اضطراريَّة (في ما يخصني) حين هرع إليّ مشتكياً: «كلهم تركوني».

لم أصفعه.

(27)

أشذِّب نصوصي بما يكفي للابتعاد (أو الاقتراب).

(28)

في بلادٍ صغيرةٍ، ترابها مكدود، ويستوطنها كثير من العَجَزَة والبرابرة.

(29)

انسحابك الاستراتيجي (الوازن والرَّزين) من هذه المواجهة لن يُقَلِّل، ولن يزيد، من تلك الشَّماتة.

انسحابك التكتيكي (على طريقة حرب العصابات) من تلك المواجهة لن يُقَلِّل، ولن يزيد، من تلك الشَّماتة (أيضاً).

(30)

ينتابني ما ليس في العالم أجمعين.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني