عمان الثقافي

سخرية البعد الجسدي في «وأخيرا استيقظ الدب»

 
حين نتناول نصوصا للكاتب العماني عبدالعزيز الفارسي نلاحظ حضور البعد الجسمي كعامل من عوامل إنتاج الفكاهة والسخرية وهذا يقودنا للسؤال: ما علاقة البعد الجسمي والاسم في شخصيات «وأخيرا استيقظ الدب»؟

في مجموعة القاص والروائي العماني عبدالعزيز الفارسي «وأخيرا استيقظ الدب» الصادرة عن دار الانتشار العربي عام 2008م، يلاحظ المتأمل فيها تلك الصور المعتمدة على حس الفكاهة والسخرية وتتجلى بشكل واضح في تجسيد الشخوص متناولا القاص الأبعاد الجسمية والاجتماعية والنفسية ولكن تعلو السخرية بشكل لافت في هذه المجموعة في بناء البعد الجسدي، حيث تبعث اللغة الوصفية الضحك من خلال بناء الصورة المتخيلة للقارئ في مشهد سينمائي يقدر الكاتب بمهارة عالية رسم خيوط الشخوص مبينة المفارقة الحادثة في البعد الجسدي (ونعني بالجسدي المكتسب من الوصف للشخصية بذاتها، أما البعد الجسمي فهو تجسيم الشخصية وحركتها في حيز مكاني) فالصورة الموجودة في نص قصة المستثمر تكمن في خليل في نظرات عينيه وشكل حاجبه وأنفه داعية القارئ إيجاد صورة ذهنية ربما تفجر الضحك والاستغراب له (اتضح لحسن أن خليلا غير مصدق كما أوحت نظرات عينيه، واقتراب حاجبيه من بعضهما وانفتاح المنخرين) هذه الملامح الموجودة في البعد الجسمي لشخصية خليل لم تكن هي فقط، بل تداخلت معها بعض الأنساق المضمرة فأما ما يتعلق بموضوع الأخلاق، فالقاص يضع البعد الجسمي قابلا للتأويل من خلال علاقته بالآخر، فتصرفاته التي تعري جسده تجعله ذات علاقة مع المجسم المكاني والبعد الاجتماعي أيضا، هذا مع إضمار نسق الدين والعادات والتقاليد (نسي خليل السلام على زوجته حين ولج البيت، ودخل الغرفة وبدأ بتغيير ملابسه دون الانتباه إلى أنه يتعرى والباب مفتوح) التعري والباب مفتوح ضد العادات والعرف، وهنا لا يخلو المشهد من إضمار العادات المتحكمة في الإنسان حتى في ملابسه وهذا ما يفسر ردة فعل بنات خليل من تصرفه، تجرأت إحداهن وسألت أمها: علامه أبوي؟ زعلتيه في شيء؟ أجابت الأم بثقة: يكبروا ويخرفوا.

جملة الأم تحيل إلى أن جسد خليل صار هرما وضعيفا وتبطن أيضا أن الخرف هو علاقة تتعدى الجسد لتكون علاقة جسمية مع الآخر أي تواصل الأجسام في حيز مكاني وهذا ما يؤكده المكان (الغرفة، السرير). هذا الموقف فيه من السخرية في جملة الأم وفيه من الرفض في استنكار البنات لتصرف الأب... بل إنه يضمر نسق التعالي على الأنثى من قبل الذكر وذلك بجعل الذكر فاتح الحوار وسلامه هو انطلاق الحرية للمرأة (نسي السلام على زوجته..)

(مرحبا خليل. تفضل أبوي. الدكان دكانك.. ثم صرخ صبيّ جيب بارد لخليل... وخلال دقيقة أحضر الفتى العماني الأسمر علبة بيبسي لخليل). استخدام لون البشرة يدل على نسق التعددية والطبقية فصاحب اللون الأسود والأسمر هما من يشتغلان المهن الوضيعة، فربط لون البشرة وهي جزء من الجسد بالطبقة الاجتماعية من قبيل تداخل الأبعاد من جهة ومن جهة أخرى كشف مستوى العنصرية كنسق مضمر في النص.

من الملاحظ أيضا أن البعد الجسدي يتحول إلى باعث للضحك والفكاهة في وصفه الشخصية ببرميل الديزل أو علاج المرض حتى يتمكن من الزواج.. (وبعدين بسافر شيراز أعالج الشحمة اللي طالعة في عيني... وهناك بتزوج زواج متعة... يقولون الشيرازيات حلوات وأجسامهن مثل عود الخيزران... ما مثل درام الديزل اللي عندي) الفكاهة والسخرية التي تبين في هذا المقطع من خلال ربط صورة الجسم بالهوية والمواطنة حيث يسخر الكاتب من فكرة أن الفتاة العمانية غير جميلة عكس الفتاة الأجنبية وهنا نسق مضمر يعبر عن احتقار المواطن لعرقه وجنسه وإعلاء العرق الآخر بالإضافة إلى مدح الفتاة الشيرازية بالجمال والجسد الرشيق، عكس زوجته بوصفها ذات جسد يشبه البرميل، وهذا يدل على أن تفجير الضحك في هذا المشهد من خلال السخرية من الجسد وهو ناجم من جلد الذات... وانتقاص لها، أما العيب الخلقي المتمثل في الشحمة التي نبتت في عينه حيث من الصعوبة تخيل شحمة تنبت في العيون ولكن يمكن جعلها سخرية من شكل العين ببيان عيب خلقي صعب تخيله من خلال اللغة الوصفية ولكنه يثير التساؤل والتعجب أيضا.

(أنا بجلس قدام مطعم ألطاف وبراقب باب البنك... قسم بالله إذا شفت النوخذة يدخل لأحش رجوله حش).

تبعث الجملة الساخرة هنا كمية من الاستغراب وذلك بجعل الأرجل عشبا يجز أو نباتا يجز مثل البرسيم وهذه طرافة في ربط الرجل بالحشائش والبرسيم، مكونة في طياتها عدة أمور مستوحاة من التراث الشفهي في اللهجة الدارجة فجملة أحش رجوله واسعة الانتشار في العامية العمانية بل الخليجية أيضا.

وهي دلالة بأن الجسد يمكن أن يتحول لقالب مضحك حينما يقترب الوصف من اللامعقول واللامنطقي والجدير بالإشارة هو انتشار هذا الوصف في اللهجة، مما يعني أن قالب الجسد هو أحد الأشياء التي يمكن أن تبعث الفكاهة والسخرية.

(حين أسعف الحاضرون في مطعم ألطاف خليل إلى المجمع الصحي بدشداشته الممتلئة بالدم من جهة الصدر، تم نقله على الفور إلى مستشفى صحار...) في وصف المكون الخارجي للجسم في الشخصية المحورية للقصة نلاحظ أن القاص يهتم بأدق التفاصيل من وصف الملابس الشخصية والدم الموجود عليها، فمهما كان شكل ووضع الجسم مأساوي نلاحظ حركة الحبكة باتجاه عنصر المفاجأة، حيث تسلسل الأحداث في المستشفى طيلة فترة وجود خليل فيها ومحاولته الخروج من المستشفى لأجل الوصول إلى الشخص المستثمر لأمواله وصولا لحواره مع زوجته، حيث يشكل الجسد المنهك مفاجأة حين عجز عن النهوض وعتاب الزوجة كان أحد مبعوثات الفكاهة والسخرية من خلال الجسد المتعب: (أفاق خليل من الغيبوبة على عتاب زوجته: أنت شو مخبي؟ شو عندك في شناص تريد تروح له؟ إذا أنت متزوج وحدة ثانية ومشتاق لها خبرني وبجيبها لك لحد هنا... بس لا تطلع. ارحم نفسك).

نلاحظ أن العتاب يبنى على وصف البعد الجسمي والعلاقة بين الزوجة المتحدثة المعاتبة والزوجة المتخيلة في كلام ظاهره السماح لرؤية الزوجة الثانية المتخيلة ولكن يبقى الاستهزاء من جسد خليل الضعيف والمريض هو المحرك الأقوى للسخرية من الجسد.

إذن نحن أمام بناء ساخر محركه ومفجره هو البعد الجسدي والعلاقة بينه والمحيط الخارجي.

بالرغم أن جسد المغمى والذي هو في غيبوبة يظل الجسد هو المحرك الأول في علاقة خليل بمن حوله وعلاقته بجعل انبثاق الموقف الساخر من البعد الجسدي وتشكيل جسما يحرك الصدمة تارة والتعاطف تارة أخرى حراكا للشخصية.

أما في سرد قصة (أبو عيون) فنلاحظ أن العنوان هو المنتج الأول للبعد الجسدي والتفصيل يأتي من خلال علاقة الشخوص بشخصية الحشمير فالزوجة تسلط الضوء على العين الحارة التي يتصف بها الحشمير في العمل والحي والحارة حتى في البيت (ويقولوا لقاه الحشمير على العشاء وقال له: أنت وين تعلمت الرمي كذا؟ ... ما قاله شيء زيادة وما طلع الصبح على ذاك الضابط إلا وهو أعمى يقودوه) كما أن الاسم هو الذي يوضح هوية الشخصية وهو يبين كيف تتعالق وتتماهى الأسطورة أو الخوارق التي هي فوق العادة وقدرة البشر مع البعد الجسدي في تجسيد الشخصية تعطي جانبا ساخرا ناقما على الوضع المتصف بالجهل محاولا أن ينتشل المجتمع من البقعة المظلمة إلى بقعة أكثر جمالا وإضاءة، هكذا ينتقم الساخر من الركود والجهل ويطبع على الشخصية بعدا ذا جسد قابل للتأويل ومستفزا للسخرية والضحك، فلقب أبو عيون يحيل إلى القارئ تخيل الأبوة التي تكون لجزء من الجسد وفصل الباقي وهذا يعني أن هذا العضو مميز جدا بخاصية معينة وإن كانت سلبية مثل الحسد.

كما تخفى في النص النسق المضمر من الجهل والحسد ومدى انتشار التباغض بين فئات المجتمع الواحد، أما عنصر المفاجأة المتكون من حدوث عاهة وإصابة من كلام الحشمير في جسد الذين يقابلهم فهي تضيق جانبا من المفارقة التي تثير السخرية والضحك على الموقف السردي. (كل ما يتعور واحد من الأولاد أو ينكسر شي في البيت أو تمرض علينا الشاة أو البقرة أصرخ على الحشمير: قوم بول في الطاسة يالعيان...)

تتجلى الفكاهة بوضوح في صيغة الأمر قوم بول وفي استخدام صيغة المبالغة (العيان) وهو من المبالغة في اللهجة وهذه الألفاظ والتصرفات تعكس ثقافة المجتمع المبنية على الخوف من العين والتنمر على الشخص الذي قد يحمل قدرة فوق العادة وفوق القدرة وتفسيرات المجتمع لهذه الأشياء المؤثرة على البعد الجسدي.

ونلاحظ انبثاق الفكاهة و السخرية من هذه العبارات التي تبعد حفيظة المجتمع وتستهجن ناطقها ولكن بها ينال القاص من العادات البالية المستشرية في المجتمع ويفتك بها.

كما نلاحظ التناقضات في تفسير الحدث بين الشخوص من خلال إضافة تفسيرات منطق الشخصية ومكونها الثقافي ورؤيتها للحادثة.

نلاحظ أن الحشمير قد رد كل الاتهامات التي وجهت إليه بأنه صاحب عين وحسد بمنطق يقبله العقل مدافعا عن عملية التجسيم التي تحدث بين الشخوص المرتبطة ببعضها في البعد الجسدي (فالكثير من أفكار الكاتب ومقاصده ورؤاه ومواقفه من القضايا المتعددة تصورها الشخصيات) وعليه يمكننا القول إن القاص جعل من الشخوص الواردة في «وأخيرا استيقظ الدب» أحد مكونات الفكاهة والسخرية حتى ينال من العادات البالية والأفكار الخاطئة في المجتمع ويسمو بالمجتمع كي يتخلص من كل هذا في لغة ساخرة ممزوجة بالمأساة أحيانا.

الهوامش:

1- يمكنك الرجوع إلى تعريف البعد الجسمي في (بنية الشخصية الروائية، دراسة تطبيقية في رواية من قتل أسعد المروري للحبيب السائح، مذكرة تهرج مقدمة لنيل شهادة الماجستير في اللغة والأدب العربي، إعداد الطالبين علي بن تيشه وأحمد التيجاني ياسي، الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة الشهيد حمة لحضر- الوادي، الموسم الجامعي 2018- 2019، ص26 إلى 30.

2- وأخيرا استيقظ الدب، عبد العزيز الفارسي، دار الانتشار العربي، بيروت لبنان، ط1، ص10.

3- المصدر نفسه، ص11.

4- المصدر نفسه، ص11.

5- المصدر نفسه، ص22.

6- المصدر نفسه ، ص 25

7- المصدر السابق، ص34.

8- بنية الشخصية الروائية، دراسة تطبيقية في رواية من قتل أسعد المروري للحبيب السائح

9- وأخيرا استيقظ الدب ص39

10- تجليات الشخصية في رواية (زمن الشيطنة)، عبد الرحيم حمدان حمدان، مقال منشور في موقع ديوان العرب، 2020.