أعمدة

فنانون بلا فن.. من عبء الدور إلى الفراغ

 
هناك من الفنانين الموهوبين من يستحقون إعجابنا حقًا، ولكن في أعمالهم الفنية فحسب، لا خارجها. فنحن لا نكترث كثيرًا لسماعهم يتحدثون في شيء خارج فنهم، حين يعلقون على قضايا سياسية مثلًا أو حين يتناولون موضوعات اجتماعية تمس حياة الناس، وخاصة عندما يبدأون في الحديث عن نظرياتهم في الحب والزواج والعلاقات فيسهبون في تحليل ثنائية الرجل والمرأة بأسلوب قطعي مفرط في اليقينيات، مفعم بخلاصات الحكمة والتجارب. بل نتمنى في كثير من الأحيان لو أنهم يقتصدون في أحاديثهم خارج الفن حفاظًا على مكانتهم الفنية، قبل أن يفجعونا بمزيد من كوارث الفكر وحماقات القول غير المحسوب.

ولا بدَّ أن نلحظ أننا حين نطلق صفة «فنان» فإن المعنى الشاسع لهذه الكلمة يُختصر في المعنى الشائع الذي كرسته آلة الإعلام العربي طيلة العقود الماضية، هي التي احتكرت الفن في التمثيل والغناء، بحيث أصبحت صفة الفنان تشير أول ما تشير إما إلى ممثل أو مطرب، تمامًا كما حدث مع كرة القدم التي أصبحت الاختصار الأبرز لثقافة الرياضة في عالمنا. وفي الوقت نفسه فإن حقبة الإعلام التلفزيوني، العربية على الأقل، قد أبلت بلاءً ناجحًا في تكريس حضور الفنان كشخصية عامة، ممثلًا كان أم مطربًا، فمن خلال الظهور في المقابلات التلفزيونية وبرامج المسابقات وما شابهه، تمكن الفنان بموهبته الإعلامية من صناعة صورة بديلة له تتجاوز صورته التي تفرضها متطلبات العمل الدرامي أو الموسيقي، صورة موازية أقرب للحقيقة الشخصية، تساعده في تحرير هويته من عبء أدواره المتقمصة في أعماله الفنية، وذلك قبل أن يصبح الفنان نجمًا مرة أخرى ولكن في الواقع الافتراضي الجديد، حيث سيعبّر عن نفسه (مضطرًا أحيانًا) بصفته الفردية المستقلة من خلال ما ينشره على حساباته الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، داخلًا في منافسة شرسة على الأضواء مع مشاهير الرياضة وعارضي/ عارضات الأزياء... إلخ، وربما سيجد نفسه ضالعًا في استعراضات مضحكة مبكية لا تنتمي لطبيعته الفنية ولا دخل لها على الإطلاق بمهامه كمبدع في المجال الذي جاء منه.

فمن الواضح أن الثورة الرقمية التي انفجرت خلال العقدين الأخيرين قد غيّرت مفهوم «النجومية» ووسائل تسلقها إلى الأبد، فزجَّت بالنجوم القدامى الخارجين من إمبراطورية التلفزيون المهجورة إلى عوالم افتراضية جديدة يتخبطون داخلها بعيدًا كل البعد عن الفن.

وما يحدث في أحيان كثيرة أن الحضور الإعلامي لمن نسميه «فنانًا» قد يتفوق على حساب حضوره الفني، والطريف أن يكون الجدل الجماهيري الذي يثار حوله ناجمًا عن تصريح تفوه به هنا أو هناك أو صورة «مثيرة للجدل» شُوهدت على صفحته الشخصية، وبالكاد يأتي الحديث عن أغنيته الأخيرة أو دوره في آخر أفلامه، ما يستدعي تأمل ظاهرة جديدة عنوانها «فنانون بلا فن».

صحيح أن الظهور الإعلامي يحرر الفنان من عقدة الدور ويعيده إلى شخصه ليتحدث باستقلالية تامة، إلا أن الظهور الإعلامي في الوقت نفسه يمثل اختبارًا حقيقيًا لثقافة الفنان خارج ميدانه الفني.

وفي الواقع فإن النتيجة تكون محبطة مع معظمهم، فضيق الأفق والثقافة السطحية الواثقة من نفسها هي ما تحكم النقاشات الإعلامية الدائرة مع السواد الأعظم من الفنانين العرب تحديدًا، إلا استثناءات قليلة تؤكد في تفردها بأنها استثناء لقاعدة «الفنان الجاهل»، مع ملاحظة ضرورية تجعلني أتساءل عن سر اقتران هذا النوع من النجومية بـ«السطحية»، الكلمة المخففة التي استخدمها هنا تفاديًا لكلمة أخرى وهي الجهل.

ما لا يُحتمل في هذا السياق ليست السذاجة والسطحية البريئة التي قد نغفرها لفنان نحبه بلا مشقة، مهما كانت غير متوقعة، ولكن ما لا يحتمل في الحقيقة هو حجم التناقض بين خطابه الفني وخطابه العام الذي يعكس طبيعة تفكيره ومواقفه وانحيازاته، فضلًا عن ثقافته. لك أن تتخيل ممثلة عاشت طيلةَ مسيرتها الفنية وهي تتبنى أدوارًا منحازة للمرأة وقضاياها الاجتماعية، لكنها لا تفوت فرصة تخرج فيها لمقابلة حوارية إلا وتعطي رأيًا ذكوريًا صادمًا في الزواج أو في الإنجاب وتربية الأبناء! وهي في ذلك لا تختلف عن الفنان الذي سافرت أغانيه الثورية عن الحرية والعدالة والنضال في هتافات الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، قبل أن يباغت محبيه، في قلب الاختبار السياسي، فيتبنى مواقف لا تتسق مع القيم الأخلاقية التي تتسلّح بها أغنيته كشعارات. وهذا ما يتركنا في مفترق أمام شخصيتين مزدوجتين، شخصية فنية وشخصية عامة لا تتقاطعان ولا تنسجمان. فما الذي نتوقعه من فن لم ينجح في تغيير الفنان نفسه وصقل قناعته؟!

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني