التصوّف.. حنين أو دُرجة
الثلاثاء / 6 / شوال / 1445 هـ - 19:40 - الثلاثاء 16 أبريل 2024 19:40
التصوّف في الحضارة الإسلاميّة مجالٌ وسيع ورحبٌ يعسرُ حدّه وضبطه، وقد شهد عالم الشباب العربيّ في العشريّة الأخيرة عودة إلى التصوّف بعد انتشاره في صيغ متعدّدة كونيّا، الشباب العربي خاصّة في المهجر صار مهوسا بالنوازع الصوفيّة، وهي نوازع تشفّ عن رغبة في العودة إلى عالم الروحانيّات بعد إيمانٍ طغى بالعالم التقنيّ الماديّ الذي تصدّأ وعفّن الأنفس والأرواح. أدرك الجيل الجديد من الشباب بعد تداخل الأهواء والإساءة إلى صورة الدين في أغلب المحالّ، وتشويه الإسلام تحديدا ونسبة أعمال العنف إليه، أنّ الروح تحتاج صفاء، ولكن كيف يُمكن أن نستخلص عبرا من ذلك وأن يُطوّع العقل العالم هذا الميل إلى طريق الصواب، العقل العالم العارف هو الذي تُلْقى عليه أعباء التدبير والتقدير، ولكن مع الأسف الأسيف فإنّ العقل العربيّ قاصرٌ وعاجز عن التبصّر وعالقٌ باللّوم والنواح، بُكاءً على ما مضى أو على ما بلغه الحالُ من سوء المحال.
شبابنا العربيّ اليوم هو شباب واعد، له وعي يفوق سنواتنا البدائية، وله آليات تعقّل وإدراك ينبغي على جيلنا العاجز المليء بالهزائم والفشل أن يؤمن بها، وأن يؤمن بهم، وأن يُفتّح أمامهم طُرق الإيمان وألاّ يُعطِّل أو يُحقِّر أو يُدجِّن أهواءهم وفكَرَهم واعتقادهم. اللجوء إلى الفكر الصوفيّ، أو الظاهرة التي يُسمّيها بعض المتخصّصين «العودة إلى الصوفيّة» هي ظاهرة أنتروبولوجيّة فكريّة فيها استصفاء للبعد الروحي للدين بعيدا عن تفصيلاته وتمذهباته.
الفكر القادم هو فكرٌ يعمل على التجرّد من التمذهب ورؤية العقيدة من زاوية محدودة، غير أنّ التصوّف هو في حدّ ذاته أيضا منزع مليء بالشوائب، ومتّخذٌ أشكالا قد تخرج عن حدّ صفاء الروح ومعانقة عوالم التهويم المطلق، إلى إتيان طُرق من الشعوذة وانتهاج سلوك داع للنكران أو هي تتحوّل عقائد «مضنون بها على غير أهلها» -على حدّ عبارة الإمام الغزالي- أو علوما لا يَصحّ أن يخوض فيها العامّة (المملوءة بطونهم بالأهواء).
الصوفيّة أيضا عالم مليء بالأهواء والظنون على الرغم من جماله وصفائه، ومن يدخل هذا العالم خلوا من هدايةٍ وعلم وإدراكٍ قد يحيد عن جادّة السبيل ويتوه في طلاسمه ورموزه، «ومن لا شيخ له، فإنّ الشيطان شيخه»، وهنا يأتي دور العالم في هذا الزمان، العالم الذي يجب أن يترك جبّة التفكير والتنكير والرفض والتنظير لعالم ماضٍ انقضى، وأن يفهم حاجات هذا الجيل وأن يُبسِّط له المعارف ويقدّمها له، فعوض مثلا أن نُحذّر الشباب من المنازع الصوفيّة، وأن نُكفّر بعضها وننكر البعض الآخر، نوضّح لهم أن تهذيب السلوك وخلوة الروح والزهّد في ماديّات الحياة أمور مرغوبة مطلوبة، أمّا التجنيح في ما عدا ذلك فأمور لا يُدركها إلاّ من أوتي علما ووعيا وتفصيلا به يُمكن أن يفصل بين اليقين والظلال، وبين الجهل والعلم. وعموما فإنّ هذا النزوع الشبابيّ إلى الاطّلاع على الصوفيّة لا يحتاج إلى علماء أو مرشدين، فهؤلاء الشباب لهم وسائطهم وأدواتهم ومصادرهم، ولن يخوضوا حتما في تفصيلات التصوّف ولا أبوابه الموغلة، المؤديّة إلى الشكّ، لأنّهم يحتاجون إلى قيمة الظاهرة دون عمقها الغائص.
التجربة العربيّة لهؤلاء الشباب حوّلت النزعة الصوفيّة الشعبيّة إلى فنّ، إلى مشاهد فرجويّة، تمّ فيها توظيف التصوّف الطرقي، أو تصوّف الزوايا في الموسيقى والعروض المسرحيّة وتمّ الدمج في أغلب الأحيان بين الموسيقى والمسرحة في عروض تُستَدعى فيها الأذكار والأوراد ويُعاد تهيئتها وتحديثها موسيقيّا ووضعها في مشاهد فرجويّة لاقت القبول الحسن، وقد بدأ هذا التوظيف منذ تسعينيّات القرن الماضي، وتواصل لحد اليوم.
أمّا في الأدب فإنّ التزوّد من الصوفيّة والنهل من منابعها واستعمال عناصرها في الحكاية خاصّة بقي ظلاّ شحيحا، وأثرا خفيفا، بالرغم من أنّ التصوّف الشعبيّ -على علاّته الاجتماعيّة والنفسيّة والحضاريّة- يحوي في مظاهره ومرجعيّاته زادا روائيّا وقصصيّا ما زال لم يُوظَّف على الشكل الأمثل، والتصوّف العالم يفتح أبوابا من التوظيف السردي يُمكن أن تُغني السرد العربي وأن تنقله من حال الفقر الموضوعاتي الذي بدأ يغلب عليه.
لقد أثارت رواية إليف شافاق «قواعد العشق الأربعون» التي تضمّنت في أثنائها قصّة الشاعر الصوفي الفارسي جلال الدين الرومي مع شيخه شمس الدين التبريزي، شغف القراءة لدى طبقة هامّة من جيل الشباب، وأثار التوظيف الذكيّ للقصّة الرسالة، المُضمَّنة، لجلال الدين الرومي إعادة تفكير في قدرة المخازن التراثيّة القصصيّة وإمكان دعوتها واستعمال حمولاتها الدلاليّة والرمزيّة. لقد أجمع النقد على أنّ رواية إليف شافاق أسهمت بقسط وفير في دعوة الناس إلى الصوفيّة وفي استدراجهم إلى عوالمها، وفي تغذية شغفهم للعودة إلى منابعها والاطّلاع على مفاهيمها، على الرغم من أنّ تاريخنا الروائيّ الحديث قد شهد أعمالا تغذّت من الصوفيّة الشعبيّة أو العالمة، لعلّ أجلاها «تجليّات» جمال الغيطاني ودراويش نجيب محفوظ، عوالم من الأحوال ومن الشعبيّات الصوفيّة بدت في ما كتبه الطيب صالح ويحيى حقّي ومحمود المسعدي وإبراهيم الكوني والطاهر وطّار، ولكن هذا التوظيف الفنّي لم يُلاق في التلقّي الشبابيّ حظوة وحسن قبول مثل ما لاقاه كتاب «قواعد العشق الأربعون» الذي هوس جيل الشباب وشدّهم إلى عوالم استحسنوا مظاهرها.
فهل للفكر العربيّ أن يعيد صياغة أسئلته الحضاريّة، وأن يقف على القضايا الفكريّة والحياتيّة الحقيقيّة بعيدا عن التحليل والتحريم، وبعيدا عن التجريم والتخوين، وأن يُفكّر مرّة في تاريخه بشكل مساوق لطبيعة المرحلة الحضاريّة الهشّة التي نكاد فيها نفقد اليقين في قيم بدت للعالم حتميّة وصارخة، وهل نعود إلى الأرضيّة التي بذرها الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغانشتاين رفضا للعلم ولفظا للتقدّم عند عجزهما عن تحقيق آمال الإنسان؟
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي
شبابنا العربيّ اليوم هو شباب واعد، له وعي يفوق سنواتنا البدائية، وله آليات تعقّل وإدراك ينبغي على جيلنا العاجز المليء بالهزائم والفشل أن يؤمن بها، وأن يؤمن بهم، وأن يُفتّح أمامهم طُرق الإيمان وألاّ يُعطِّل أو يُحقِّر أو يُدجِّن أهواءهم وفكَرَهم واعتقادهم. اللجوء إلى الفكر الصوفيّ، أو الظاهرة التي يُسمّيها بعض المتخصّصين «العودة إلى الصوفيّة» هي ظاهرة أنتروبولوجيّة فكريّة فيها استصفاء للبعد الروحي للدين بعيدا عن تفصيلاته وتمذهباته.
الفكر القادم هو فكرٌ يعمل على التجرّد من التمذهب ورؤية العقيدة من زاوية محدودة، غير أنّ التصوّف هو في حدّ ذاته أيضا منزع مليء بالشوائب، ومتّخذٌ أشكالا قد تخرج عن حدّ صفاء الروح ومعانقة عوالم التهويم المطلق، إلى إتيان طُرق من الشعوذة وانتهاج سلوك داع للنكران أو هي تتحوّل عقائد «مضنون بها على غير أهلها» -على حدّ عبارة الإمام الغزالي- أو علوما لا يَصحّ أن يخوض فيها العامّة (المملوءة بطونهم بالأهواء).
الصوفيّة أيضا عالم مليء بالأهواء والظنون على الرغم من جماله وصفائه، ومن يدخل هذا العالم خلوا من هدايةٍ وعلم وإدراكٍ قد يحيد عن جادّة السبيل ويتوه في طلاسمه ورموزه، «ومن لا شيخ له، فإنّ الشيطان شيخه»، وهنا يأتي دور العالم في هذا الزمان، العالم الذي يجب أن يترك جبّة التفكير والتنكير والرفض والتنظير لعالم ماضٍ انقضى، وأن يفهم حاجات هذا الجيل وأن يُبسِّط له المعارف ويقدّمها له، فعوض مثلا أن نُحذّر الشباب من المنازع الصوفيّة، وأن نُكفّر بعضها وننكر البعض الآخر، نوضّح لهم أن تهذيب السلوك وخلوة الروح والزهّد في ماديّات الحياة أمور مرغوبة مطلوبة، أمّا التجنيح في ما عدا ذلك فأمور لا يُدركها إلاّ من أوتي علما ووعيا وتفصيلا به يُمكن أن يفصل بين اليقين والظلال، وبين الجهل والعلم. وعموما فإنّ هذا النزوع الشبابيّ إلى الاطّلاع على الصوفيّة لا يحتاج إلى علماء أو مرشدين، فهؤلاء الشباب لهم وسائطهم وأدواتهم ومصادرهم، ولن يخوضوا حتما في تفصيلات التصوّف ولا أبوابه الموغلة، المؤديّة إلى الشكّ، لأنّهم يحتاجون إلى قيمة الظاهرة دون عمقها الغائص.
التجربة العربيّة لهؤلاء الشباب حوّلت النزعة الصوفيّة الشعبيّة إلى فنّ، إلى مشاهد فرجويّة، تمّ فيها توظيف التصوّف الطرقي، أو تصوّف الزوايا في الموسيقى والعروض المسرحيّة وتمّ الدمج في أغلب الأحيان بين الموسيقى والمسرحة في عروض تُستَدعى فيها الأذكار والأوراد ويُعاد تهيئتها وتحديثها موسيقيّا ووضعها في مشاهد فرجويّة لاقت القبول الحسن، وقد بدأ هذا التوظيف منذ تسعينيّات القرن الماضي، وتواصل لحد اليوم.
أمّا في الأدب فإنّ التزوّد من الصوفيّة والنهل من منابعها واستعمال عناصرها في الحكاية خاصّة بقي ظلاّ شحيحا، وأثرا خفيفا، بالرغم من أنّ التصوّف الشعبيّ -على علاّته الاجتماعيّة والنفسيّة والحضاريّة- يحوي في مظاهره ومرجعيّاته زادا روائيّا وقصصيّا ما زال لم يُوظَّف على الشكل الأمثل، والتصوّف العالم يفتح أبوابا من التوظيف السردي يُمكن أن تُغني السرد العربي وأن تنقله من حال الفقر الموضوعاتي الذي بدأ يغلب عليه.
لقد أثارت رواية إليف شافاق «قواعد العشق الأربعون» التي تضمّنت في أثنائها قصّة الشاعر الصوفي الفارسي جلال الدين الرومي مع شيخه شمس الدين التبريزي، شغف القراءة لدى طبقة هامّة من جيل الشباب، وأثار التوظيف الذكيّ للقصّة الرسالة، المُضمَّنة، لجلال الدين الرومي إعادة تفكير في قدرة المخازن التراثيّة القصصيّة وإمكان دعوتها واستعمال حمولاتها الدلاليّة والرمزيّة. لقد أجمع النقد على أنّ رواية إليف شافاق أسهمت بقسط وفير في دعوة الناس إلى الصوفيّة وفي استدراجهم إلى عوالمها، وفي تغذية شغفهم للعودة إلى منابعها والاطّلاع على مفاهيمها، على الرغم من أنّ تاريخنا الروائيّ الحديث قد شهد أعمالا تغذّت من الصوفيّة الشعبيّة أو العالمة، لعلّ أجلاها «تجليّات» جمال الغيطاني ودراويش نجيب محفوظ، عوالم من الأحوال ومن الشعبيّات الصوفيّة بدت في ما كتبه الطيب صالح ويحيى حقّي ومحمود المسعدي وإبراهيم الكوني والطاهر وطّار، ولكن هذا التوظيف الفنّي لم يُلاق في التلقّي الشبابيّ حظوة وحسن قبول مثل ما لاقاه كتاب «قواعد العشق الأربعون» الذي هوس جيل الشباب وشدّهم إلى عوالم استحسنوا مظاهرها.
فهل للفكر العربيّ أن يعيد صياغة أسئلته الحضاريّة، وأن يقف على القضايا الفكريّة والحياتيّة الحقيقيّة بعيدا عن التحليل والتحريم، وبعيدا عن التجريم والتخوين، وأن يُفكّر مرّة في تاريخه بشكل مساوق لطبيعة المرحلة الحضاريّة الهشّة التي نكاد فيها نفقد اليقين في قيم بدت للعالم حتميّة وصارخة، وهل نعود إلى الأرضيّة التي بذرها الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغانشتاين رفضا للعلم ولفظا للتقدّم عند عجزهما عن تحقيق آمال الإنسان؟
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي