المواطنة والهويّة الثّقافيّة في عالم متغير
الاثنين / 28 / رمضان / 1445 هـ - 22:12 - الاثنين 8 أبريل 2024 22:12
كثر الحديث في الفترة الأخيرة حول المواطنة والهويّة الثّقافيّة في عالم متغير، ورأيتُ بعض البرامج حول هذا في معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته الماضية، وفي أثناء المعرض كان لي لقاء حول هذا في إذاعة سلطنة عمان في برنامج الظّهيرة، وابتداء المواطنة لم تكن سابقا بالصّورة الحاليّة، وكان الإنسان هويّة مرتبطا بالانتماء الأكبر دينيّا أو جغرافيّا أو ثقافيّا، وسياسة كان مرتبطا بالولاء القبليّ، ثمّ تغيّر الحال عند تكوّنت الدّولة القطريّة، فظهر مفهوم المواطنة بالشّكل الإجرائيّ بصورة أكبر، فاعتبر بعضهم المواطنة بالشّكل الإجرائيّ هويّة كبرى، وبعضهم مايز بين المواطنة والهويّة، فالمواطنة مرتبطة بالذّات، والهويّة مرتبطة بالانتماء أيّا كان تشكله، فقد تكون هناك هويّة أكبر وهويّات الهامش، لكن الجميع سواء من حيث المواطنة، أي من حيث الذّات والماهيّة، فالهويّة الإجرائيّة هي الشّيء الجامع تعاقديّا في دولة قطريّة ما، دون تهميش للخصوصيّات الانتمائيّة.
ومن مايز بين المواطنة والهويّة ربط المواطنة بالقيم الكبرى، فظهر ما يسمّى بالقيم الوطنيّة، وهي إمّا قيم ذاتيّة مطلقة، أو ذاتيّة مضافة، أو أخلاقيّة انتمائيّة، فالمطلقة تتمثل في المساواة والعدل وكرامة الذّات والحريّة، والمضافة مثل التّعليم والصّحة والاكتفاء المعيشيّ، ودونهما الأخلاقيات الانتمائيّة المرتبطة بالهويّات كالكرم وإكرام الضّيف، فإذا فهمنا الثّقافة والهويّات والانتماءات من خلال القيم المطلقة تتهذّب وتستقر، أمّا إذا انطلقنا من الهويّة والانتماء ذاته تتصارع وقد تتحارب، خصوصا إذا ضعف المركز.
لهذا حتّى لا نقع في هذا التّصارع والاحتراب تأتي أهميّة الثّقافة ودورها في ترسيخ الوعي الثّقافي، والثّقافة كما يعرّفها تايلور هي الكلّ المركب، والثّقافة كالمواطنة والهويّة مصطلحات إجرائيّة معاصرة ارتبطت بالدّولة القُطريّة، وعليه الثّقافة جامعة حافظة ناقدة لهذه الهويّات غير مفرقة، ومن الثّقافة يأتي دور المثقف الرّاصد، الّذي يجمع بين التّحرّر والانتماء، فلمّا يكون راصدا لابدّ أن يتحرّر أي يقرأ من الأفق الواسع، ولكنّه إجرائيّا أو اجتماعيّا منتسبا لهويّة ما.
وما تقوم به الثّقافة من ترسيخ القيم الوطنيّة في عالم متغيّر ومتنوع ليس مشروعا ميسرا، بل هو مرتبط بتحدّيات عديدة، منها عدم وجود انطلاقة واضحة من القيمة المطلقة ذاتها، وخلطها بالعادات والسّجايا، أو على الأقل عدم الانطلاق من الذّات من حيث القيمة، وتضييقها بالهويّة، فينتج عن هذا الازدواجيّة إجرائيّا في التّطبيق خلاف التّنظير، مثلا لمّا توضع الدّساتير التّعاقديّة باعتبار الهويّات الانتمائيّة أكثر من الهويّات الجامعة وفق الذّات الواحدة، وارتباطها بالمصالحيّة الفئويّة، وتقديم الشّخوص والمصالح الآنيّة على قيم الوطن الكبرى، فيحتاج هذا إلى شيء من المراجعات والنّقد بالنّسبة إلى داخل الدّولة القُطريّة ذاتها، ليكون تدافعا طبيعيّا بعيدا عن التّفكّك والاختلاف.
فإذا كانت الدّولة الوطنيّة أو القُطريّة موحدة في ذاتها قيميّا، مع استقرار في الخصوصيّات والانتماءات، دون تهميش للحقوق الفرديّة أيضا، هذه الدّولة لا تخشى من الانفتاح على العالم الآخر، فالدّولة الوطنيّة أو القطريّة هي صورة مصغرة لهذه العوالم المعقدة، ولا يمكن فصل عالمك عن العالم الآخر، بسب العمل والإعلام والسّياحة والسّينما، والانطلاق من الذّات لا يخيف الانفتاح إذا كانت الذّات قويّة ومستوعبة للآخر استيعابا تهذيبيّا لا إقصائيّا، وعليه الهويّة الوطنيّة إذا جمعت بين سعة الذّات وسننيّة الانفتاح بلا شك بقدر ما تحافظ على انتماءاتها هي تستثمره في الانفتاح الطبيعيّ ثقافيّا وسياحيّا واقتصاديّا.
وعليه الأصل في ثقافة الدّولة القُطريّة أو دولة المواطنة أنّها تتفاعل مع الثّقافات الأخرى، فجميع الثّقافات البشريّة ذات أصل إنسانيّ واحد، وتعدّد الثّقافات جوانب كسبيّة لها ارتباط بالماضي وبالفلسفات القديمة والحديثة، والتّفاعل ينطلق من الجانب التّعارفيّ المبني على القيم الكبرى والمبادئ المشتركة في المجموع الإنسانيّ، والأصل فيه أنّه -كما أسلفتُ - يساهم في الحفاظ على الخصوصيّات الثّقافيّة كانت دينيّة أم مذهبيّة أم اجتماعيّة (عادات وتقاليد)، ويؤدي إلى استثمار هذه الخصوصيّات بما يخدم المجتمعات الإنسانيّة وفق الهويّة الوطنيّة.
ويطرح اليوم سؤال هل الهويّة الوطنيّة قابلة للتّغيير أم يجب الاحتفاظ بها كما هي؟ ومن حيث الأصل لا توجد هويّة ثابتة لأنّها شيء كسبيّ متحرك، وما نعيش فيه من هويّات ليست كهويّات أجدادنا حرفيّا، بل تطوّرت بتطوّر الحياة وأساليبها وتلاقحها مع ثقافات أخرى، وقولنا إنّ الهويّات تحترم ويحافظ عليها، هذا لا يمنع أن تتفاعل إيجابيّا فيما يخدم الذّات الإنسانيّة الواحدة، والدّولة الوطنيّة ذاتها، وهنا يمكن تحقيق التّوازن بين الانتماء الوطنيّ والانتماء الثّقافيّ للفرد في عالم متغير، فالانتماء الثّقافيّ عابر للانتماءات الوطنيّة، وله ارتباط بالفردانيّة، والانتماء الوطني انتماء إجرائي تعاقديّ وفق هويّة مشتركة، والهويّة المشتركة حافظة للفردانيّة ومنطلقة منها، وفي الوقت ذاته لا تهمشّ الانتماءات الهويّاتيّة الأخرى في الدّولة القطريّة، ويتحقّق التّوازن بينهما إذا انطلقنا من القيم الجامعة إلى الخصوصيّات الهويّاتيّة، وكانت مهذبة لا ملغيّة لها.
ولتعزيز الوعي الثّقافيّ والهويّة الوطنيّة في المجتمع لابدّ من خلق وعي جمعي مبنيّ على التّعدّديّة واستيعاب المختلف، وأن يكون مدركا أنّ هويّة الدّولة المركزيّة هويّة جامعة مستوعبة للكل دون تفريق بين أحد، مع ترك التّدافع الطبيعيّ قراءة ونقدا بدون مصادرة أو أبوية مبالغ فيها، وأن يكون الجيل الجديد مستوعبا اللّحظة الزّمنيّة الّتي يعيشها، وعدم اجتراره إلى لحظة أخرى ماضويّة أو بعيدة عن محيطه.
ومن مايز بين المواطنة والهويّة ربط المواطنة بالقيم الكبرى، فظهر ما يسمّى بالقيم الوطنيّة، وهي إمّا قيم ذاتيّة مطلقة، أو ذاتيّة مضافة، أو أخلاقيّة انتمائيّة، فالمطلقة تتمثل في المساواة والعدل وكرامة الذّات والحريّة، والمضافة مثل التّعليم والصّحة والاكتفاء المعيشيّ، ودونهما الأخلاقيات الانتمائيّة المرتبطة بالهويّات كالكرم وإكرام الضّيف، فإذا فهمنا الثّقافة والهويّات والانتماءات من خلال القيم المطلقة تتهذّب وتستقر، أمّا إذا انطلقنا من الهويّة والانتماء ذاته تتصارع وقد تتحارب، خصوصا إذا ضعف المركز.
لهذا حتّى لا نقع في هذا التّصارع والاحتراب تأتي أهميّة الثّقافة ودورها في ترسيخ الوعي الثّقافي، والثّقافة كما يعرّفها تايلور هي الكلّ المركب، والثّقافة كالمواطنة والهويّة مصطلحات إجرائيّة معاصرة ارتبطت بالدّولة القُطريّة، وعليه الثّقافة جامعة حافظة ناقدة لهذه الهويّات غير مفرقة، ومن الثّقافة يأتي دور المثقف الرّاصد، الّذي يجمع بين التّحرّر والانتماء، فلمّا يكون راصدا لابدّ أن يتحرّر أي يقرأ من الأفق الواسع، ولكنّه إجرائيّا أو اجتماعيّا منتسبا لهويّة ما.
وما تقوم به الثّقافة من ترسيخ القيم الوطنيّة في عالم متغيّر ومتنوع ليس مشروعا ميسرا، بل هو مرتبط بتحدّيات عديدة، منها عدم وجود انطلاقة واضحة من القيمة المطلقة ذاتها، وخلطها بالعادات والسّجايا، أو على الأقل عدم الانطلاق من الذّات من حيث القيمة، وتضييقها بالهويّة، فينتج عن هذا الازدواجيّة إجرائيّا في التّطبيق خلاف التّنظير، مثلا لمّا توضع الدّساتير التّعاقديّة باعتبار الهويّات الانتمائيّة أكثر من الهويّات الجامعة وفق الذّات الواحدة، وارتباطها بالمصالحيّة الفئويّة، وتقديم الشّخوص والمصالح الآنيّة على قيم الوطن الكبرى، فيحتاج هذا إلى شيء من المراجعات والنّقد بالنّسبة إلى داخل الدّولة القُطريّة ذاتها، ليكون تدافعا طبيعيّا بعيدا عن التّفكّك والاختلاف.
فإذا كانت الدّولة الوطنيّة أو القُطريّة موحدة في ذاتها قيميّا، مع استقرار في الخصوصيّات والانتماءات، دون تهميش للحقوق الفرديّة أيضا، هذه الدّولة لا تخشى من الانفتاح على العالم الآخر، فالدّولة الوطنيّة أو القطريّة هي صورة مصغرة لهذه العوالم المعقدة، ولا يمكن فصل عالمك عن العالم الآخر، بسب العمل والإعلام والسّياحة والسّينما، والانطلاق من الذّات لا يخيف الانفتاح إذا كانت الذّات قويّة ومستوعبة للآخر استيعابا تهذيبيّا لا إقصائيّا، وعليه الهويّة الوطنيّة إذا جمعت بين سعة الذّات وسننيّة الانفتاح بلا شك بقدر ما تحافظ على انتماءاتها هي تستثمره في الانفتاح الطبيعيّ ثقافيّا وسياحيّا واقتصاديّا.
وعليه الأصل في ثقافة الدّولة القُطريّة أو دولة المواطنة أنّها تتفاعل مع الثّقافات الأخرى، فجميع الثّقافات البشريّة ذات أصل إنسانيّ واحد، وتعدّد الثّقافات جوانب كسبيّة لها ارتباط بالماضي وبالفلسفات القديمة والحديثة، والتّفاعل ينطلق من الجانب التّعارفيّ المبني على القيم الكبرى والمبادئ المشتركة في المجموع الإنسانيّ، والأصل فيه أنّه -كما أسلفتُ - يساهم في الحفاظ على الخصوصيّات الثّقافيّة كانت دينيّة أم مذهبيّة أم اجتماعيّة (عادات وتقاليد)، ويؤدي إلى استثمار هذه الخصوصيّات بما يخدم المجتمعات الإنسانيّة وفق الهويّة الوطنيّة.
ويطرح اليوم سؤال هل الهويّة الوطنيّة قابلة للتّغيير أم يجب الاحتفاظ بها كما هي؟ ومن حيث الأصل لا توجد هويّة ثابتة لأنّها شيء كسبيّ متحرك، وما نعيش فيه من هويّات ليست كهويّات أجدادنا حرفيّا، بل تطوّرت بتطوّر الحياة وأساليبها وتلاقحها مع ثقافات أخرى، وقولنا إنّ الهويّات تحترم ويحافظ عليها، هذا لا يمنع أن تتفاعل إيجابيّا فيما يخدم الذّات الإنسانيّة الواحدة، والدّولة الوطنيّة ذاتها، وهنا يمكن تحقيق التّوازن بين الانتماء الوطنيّ والانتماء الثّقافيّ للفرد في عالم متغير، فالانتماء الثّقافيّ عابر للانتماءات الوطنيّة، وله ارتباط بالفردانيّة، والانتماء الوطني انتماء إجرائي تعاقديّ وفق هويّة مشتركة، والهويّة المشتركة حافظة للفردانيّة ومنطلقة منها، وفي الوقت ذاته لا تهمشّ الانتماءات الهويّاتيّة الأخرى في الدّولة القطريّة، ويتحقّق التّوازن بينهما إذا انطلقنا من القيم الجامعة إلى الخصوصيّات الهويّاتيّة، وكانت مهذبة لا ملغيّة لها.
ولتعزيز الوعي الثّقافيّ والهويّة الوطنيّة في المجتمع لابدّ من خلق وعي جمعي مبنيّ على التّعدّديّة واستيعاب المختلف، وأن يكون مدركا أنّ هويّة الدّولة المركزيّة هويّة جامعة مستوعبة للكل دون تفريق بين أحد، مع ترك التّدافع الطبيعيّ قراءة ونقدا بدون مصادرة أو أبوية مبالغ فيها، وأن يكون الجيل الجديد مستوعبا اللّحظة الزّمنيّة الّتي يعيشها، وعدم اجتراره إلى لحظة أخرى ماضويّة أو بعيدة عن محيطه.