أول الضوء
الثلاثاء / 22 / رمضان / 1445 هـ - 21:00 - الثلاثاء 2 أبريل 2024 21:00
ليس سهلا أن تستدرج الذاكرة على حين غرة لتكتب عن حدث بعيد مررت به ذات يوم، وأصعب ما في تلك الصعوبة الاختيار بين تلك الأحداث ما يعد حدثا فارقا في حياتك أو موقفا له الأثر الذي كان بعده على حياتك حيث أنت الآن عملا وأملا وعلما ومعرفة وحضورا ومكانة.
وإنني أذكر مما أذكره من مواقف الحياة هو أول يوم توجهت فيه إلى المدرسة التي عينت بها معلما لمادة اللغة العربية. كان المعتاد أن نستلم رسالة التعيين التي تسمى رسالة مباشرة عمل موجهة من المديرية العامة للتربية والتعليم للمحافظة إلى مدير المدرسة التي سوف نباشر العمل بها مكتوب فيها تاريخ مباشرة العمل والذي يبدأ عادة مع أول يوم دراسي للطلبة. وقد استلمت تلك الرسالة في وقت مبكر قبل تاريخ مباشرة العمل بعشرة أيام تقريبا، فقلت في نفسي هي فرصة لأذهب إلى المدرسة قبل بداية دوام الطلبة أسلم المدرسة خطاب المديرية وأتعرف على الزملاء في الهيئتين التدريسية والإدارية وعلى مرافق المدرسة المختلفة، فقد كان المعلمون يداومون بأسبوع تقريبا قبل بدء دوام الطلبة.
ذلك الشعور المهيب أن تبدأ حياة جديدة ومع واحدة من أعظم المهن مهنة التعليم التي لها مكانتها الخاصة في مجتمعنا العماني، مع الإدراك التام للمسؤولية التي تتعدى جدران المدرسة وتتجاوز مفهوم الوظيفة المرتبطة بساعات معدودة على مكاتب تغلق بعد الثانية والنصف ليعود إليها أصحابها في صباح اليوم التالي، ذلك الشعور الفائض بالرهبة من لقب تلازمك مسؤوليته سلوكا وثقافة ومعرفة في كل مكان تكون فيه، وكأن عيون الرقيب عليك في كل زاوية من زوايا المجتمع.
أوقفت سيارتي خارج سور المدرسة بعيدا عن سيارات المعلمين التي أخذت المواقف الأقرب إلى بوابة المدرسة واستظل بعضها بالأشجار وارفة الظلال الواقعة بين المدرسة والشارع العام. كان أول فنجان قهوة مع حارس المدرسة الذي بدأ متذمرا من الحال وتأخر عمال النظافة في تنظيف المدرسة، حيث كانت فرصة لي لسؤاله عن مدير المدرسة والمعلمين والمدرسة بصورة عامة، وفي مجرى الحديث حذرني برفق من ضرب الطلاب ومعاقبتهم لأنهم سوف يستهدفون سيارتي خارج المدرسة.
وأنا أعبر الممر من غرفة الحارس إلى غرفة المدير شاكستني أسئلة ما زلت أحمل أثر نتائجها إلى اليوم ومنها هل أخطأت عندما اخترت التعيين في محافظة مسقط وتركت فرصة سانحة بامتياز لأتعين في مدرسة البلد أمام البيت بعيدا عن كل هذا التهديد الذي ألقاه الحارس على مسمعي؟ هل تراني أخطأت الاختيار حين خالفت مشورة بعض الأهل والأصدقاء باختيار التعيين بمدرسة البلد التي نشأت بها وترعرعت؟ كل ذلك كان عابرا بي على قلق يوجهني مع سبق الإصرار والترصد لخوض تجربة العمل بالمدينة حيث الفرص في التأهيل والتدريب لا يمكن أن تقارن بما تحظى به المدارس في القرى البعيدة الوادعة والهادية من ضجيج صراعات التنافس البشري في بيئات العمل.
دخلت مكتب مدير المدرسة الذي لا يقل مساحة عن مساحة الفصل المدرسي مزين ببعض اللوحات الفنية التي أظنها من أعمال الطلاب وعصى غليظة معلقة على الحائط خلف مكتب المدير أشعرتني بالحزم والهيبة بالإضافة إلى هيبة المدير الشخصية وسنين العمر المديدة التي قضاها في سلك التدريس.
سلمت عليه وبادرت بتعريف نفسي وأنني سأنضم إلى فريق العمل بالمدرسة معلما للغة العربية وسلمته خطاب المديرية العامة.
قرأ الخطاب ثم سألني لماذا اخترت مهنة التدريس؟ فكما هو سؤال اعتدناه في مرحلة الإعداد والمقابلات التي سبقت التعين، أجبت مباشرة كالمعتاد أيضا لأني أحب مهنة التعليم. عقب مباشرة وقال: هذه إجابة نسمعها من الستينيات، هل اخترت أن تكون معلما أو تم توزيعك إلى كلية التربية والتعليم؟
هذا السؤال الذي ظل شاغلا ذهني عند الحديث عن تقييم التعليم في سنوات لاحقة لم أستسغه حينها من المدير فأجبته لم آت لأظل معلما طوال حياتي؟ فباغتني بسؤال آخر مستفز كم سنة تود أن تبقى في التدريس فكان جوابي ثلاث سنوات. لم يخف امتعاضه من عدم جديتي وسألني لماذا جئت إلى المدرسة قبل موعد مباشرة العمل المكتوب بالخطاب؟ فقلت لكي أتعرف على المدرسة وأضفت أود رؤية المسرح أريد قيادة المسرح الطلابي.
تغيرت لهجة المدير تجاهي وبدأت النصائح تنهال علي بالاهتمام بالتدريس أولا فهي المهمة الأساسية لي وأن أنشطة المسرح وسواها تأتي لاحقا. ومن قلة المعرفة لدي ومدفوعا بعمر الشباب ومندفعا بحماس البدايات حاولت تغيير وجهة نظره فيما أنا عازم عليه. فبحكمة ذلك العمر المديد الذي قضاه في المدارس أعاد إلي الخطاب وقال عد من حيث جئت ونلتقي في اليوم المشار إليه في الخطاب.
لقد صنع ذلك اليوم لي ذاكرة لا تنسى حينما أتذكر أيام عملي في التربية والتعليم، وخاصة حين أعيد شريط الذكريات ومحطات العبور التي مررت بها طوال خمسة عشر عاما في وزارة التربية والتعليم يزداد إيماني أن ما نحدث به أنفسنا من طموح يتحقق معظمه حين نثابر لأجله، فذلك الحوار كان رؤية ذاتية ورغبة دفينة وإن لم تكن مكتوبة على خطة ورقية أعمل بها وأشتغل عليها. فبعد أربع سنوات في المدرسة نفسها ترقيت لأصبح مشرفا لمادة اللغة العربية بالمحافظة ثم بعد ثلاث سنوات نقلت إلى الوزارة لخوض تجارب وظيفية جديدة إلى أن غادرت الوزارة بعد خمسة عشر عاما للعمل في القطاع الخاص. ممتنا لتلك السنين التي أهلتني لأكون ما أنا عليه اليوم. ممتنا لذلك المدير وجميع زملائي ومن عملت معهم في تلك السنين. والتجارب مستمرة في القطاع الخاص.
وإنني أذكر مما أذكره من مواقف الحياة هو أول يوم توجهت فيه إلى المدرسة التي عينت بها معلما لمادة اللغة العربية. كان المعتاد أن نستلم رسالة التعيين التي تسمى رسالة مباشرة عمل موجهة من المديرية العامة للتربية والتعليم للمحافظة إلى مدير المدرسة التي سوف نباشر العمل بها مكتوب فيها تاريخ مباشرة العمل والذي يبدأ عادة مع أول يوم دراسي للطلبة. وقد استلمت تلك الرسالة في وقت مبكر قبل تاريخ مباشرة العمل بعشرة أيام تقريبا، فقلت في نفسي هي فرصة لأذهب إلى المدرسة قبل بداية دوام الطلبة أسلم المدرسة خطاب المديرية وأتعرف على الزملاء في الهيئتين التدريسية والإدارية وعلى مرافق المدرسة المختلفة، فقد كان المعلمون يداومون بأسبوع تقريبا قبل بدء دوام الطلبة.
ذلك الشعور المهيب أن تبدأ حياة جديدة ومع واحدة من أعظم المهن مهنة التعليم التي لها مكانتها الخاصة في مجتمعنا العماني، مع الإدراك التام للمسؤولية التي تتعدى جدران المدرسة وتتجاوز مفهوم الوظيفة المرتبطة بساعات معدودة على مكاتب تغلق بعد الثانية والنصف ليعود إليها أصحابها في صباح اليوم التالي، ذلك الشعور الفائض بالرهبة من لقب تلازمك مسؤوليته سلوكا وثقافة ومعرفة في كل مكان تكون فيه، وكأن عيون الرقيب عليك في كل زاوية من زوايا المجتمع.
أوقفت سيارتي خارج سور المدرسة بعيدا عن سيارات المعلمين التي أخذت المواقف الأقرب إلى بوابة المدرسة واستظل بعضها بالأشجار وارفة الظلال الواقعة بين المدرسة والشارع العام. كان أول فنجان قهوة مع حارس المدرسة الذي بدأ متذمرا من الحال وتأخر عمال النظافة في تنظيف المدرسة، حيث كانت فرصة لي لسؤاله عن مدير المدرسة والمعلمين والمدرسة بصورة عامة، وفي مجرى الحديث حذرني برفق من ضرب الطلاب ومعاقبتهم لأنهم سوف يستهدفون سيارتي خارج المدرسة.
وأنا أعبر الممر من غرفة الحارس إلى غرفة المدير شاكستني أسئلة ما زلت أحمل أثر نتائجها إلى اليوم ومنها هل أخطأت عندما اخترت التعيين في محافظة مسقط وتركت فرصة سانحة بامتياز لأتعين في مدرسة البلد أمام البيت بعيدا عن كل هذا التهديد الذي ألقاه الحارس على مسمعي؟ هل تراني أخطأت الاختيار حين خالفت مشورة بعض الأهل والأصدقاء باختيار التعيين بمدرسة البلد التي نشأت بها وترعرعت؟ كل ذلك كان عابرا بي على قلق يوجهني مع سبق الإصرار والترصد لخوض تجربة العمل بالمدينة حيث الفرص في التأهيل والتدريب لا يمكن أن تقارن بما تحظى به المدارس في القرى البعيدة الوادعة والهادية من ضجيج صراعات التنافس البشري في بيئات العمل.
دخلت مكتب مدير المدرسة الذي لا يقل مساحة عن مساحة الفصل المدرسي مزين ببعض اللوحات الفنية التي أظنها من أعمال الطلاب وعصى غليظة معلقة على الحائط خلف مكتب المدير أشعرتني بالحزم والهيبة بالإضافة إلى هيبة المدير الشخصية وسنين العمر المديدة التي قضاها في سلك التدريس.
سلمت عليه وبادرت بتعريف نفسي وأنني سأنضم إلى فريق العمل بالمدرسة معلما للغة العربية وسلمته خطاب المديرية العامة.
قرأ الخطاب ثم سألني لماذا اخترت مهنة التدريس؟ فكما هو سؤال اعتدناه في مرحلة الإعداد والمقابلات التي سبقت التعين، أجبت مباشرة كالمعتاد أيضا لأني أحب مهنة التعليم. عقب مباشرة وقال: هذه إجابة نسمعها من الستينيات، هل اخترت أن تكون معلما أو تم توزيعك إلى كلية التربية والتعليم؟
هذا السؤال الذي ظل شاغلا ذهني عند الحديث عن تقييم التعليم في سنوات لاحقة لم أستسغه حينها من المدير فأجبته لم آت لأظل معلما طوال حياتي؟ فباغتني بسؤال آخر مستفز كم سنة تود أن تبقى في التدريس فكان جوابي ثلاث سنوات. لم يخف امتعاضه من عدم جديتي وسألني لماذا جئت إلى المدرسة قبل موعد مباشرة العمل المكتوب بالخطاب؟ فقلت لكي أتعرف على المدرسة وأضفت أود رؤية المسرح أريد قيادة المسرح الطلابي.
تغيرت لهجة المدير تجاهي وبدأت النصائح تنهال علي بالاهتمام بالتدريس أولا فهي المهمة الأساسية لي وأن أنشطة المسرح وسواها تأتي لاحقا. ومن قلة المعرفة لدي ومدفوعا بعمر الشباب ومندفعا بحماس البدايات حاولت تغيير وجهة نظره فيما أنا عازم عليه. فبحكمة ذلك العمر المديد الذي قضاه في المدارس أعاد إلي الخطاب وقال عد من حيث جئت ونلتقي في اليوم المشار إليه في الخطاب.
لقد صنع ذلك اليوم لي ذاكرة لا تنسى حينما أتذكر أيام عملي في التربية والتعليم، وخاصة حين أعيد شريط الذكريات ومحطات العبور التي مررت بها طوال خمسة عشر عاما في وزارة التربية والتعليم يزداد إيماني أن ما نحدث به أنفسنا من طموح يتحقق معظمه حين نثابر لأجله، فذلك الحوار كان رؤية ذاتية ورغبة دفينة وإن لم تكن مكتوبة على خطة ورقية أعمل بها وأشتغل عليها. فبعد أربع سنوات في المدرسة نفسها ترقيت لأصبح مشرفا لمادة اللغة العربية بالمحافظة ثم بعد ثلاث سنوات نقلت إلى الوزارة لخوض تجارب وظيفية جديدة إلى أن غادرت الوزارة بعد خمسة عشر عاما للعمل في القطاع الخاص. ممتنا لتلك السنين التي أهلتني لأكون ما أنا عليه اليوم. ممتنا لذلك المدير وجميع زملائي ومن عملت معهم في تلك السنين. والتجارب مستمرة في القطاع الخاص.