أبو الصوفي.. شاعر البلاط والدولة
السبت / 19 / رمضان / 1445 هـ - 19:38 - السبت 30 مارس 2024 19:38
سعيد بن مسلم بن سالم الجابري المجيزي السمائلي، ولد في ولاية سمائل (الفيحاء) عام 1281هـ، كني بأبي الصوفي لأن له ابن اسمه الصوفي ومن ثمّ غيّره إلى عبد الله، وقيل كني بذلك لأنه كثير التصوف والعبادة، أما لقب المجيزي فلأن آباء الشيخ من بلدة مجز الكبرى التابعة لولاية صحار، ونتيجة لبعض الخلافات التي وقعت بين الجماعة بني جابر حاولوا آباء الشيخ حل تلك الخلافات ولكن بدون فائدة، فرحل آباء الشيخ من تلك المنطقة وتوجهوا إلى سمائل كونها مرجعا أساسيا لقبيلة بني جابر، وقد بقي لقب المجيزي، أما لقب السمائلي فلأن سمائل مكان ولادته، أما لقب المسكتي أطلقته عليه الأسرة المالكة.
تعلم القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة، ثم درس علوم اللغة العربية المختلفة، بالإضافة إلى دراسة أشعار العرب القدامى، التي وسعت مداركه وأذكت من مواهبه فبدأ ينظم الشعر وشجعه على ذلك أساتذته وشيوخه، ثم أصبح مدرسا وأتقن علم الرسم وصار من الكتاب المشهورين.
شد بعدها الرحال إلى مسقط للكسب والرزق فاتخذه السيد بدر بن سيف بن بدر البوسعيدي -أحد رجالات دولة السلطان فيصل بن تركي- كاتبا له وذلك لجودة خطه وبلاغة تعبيره، وترقى بأدبه وحسن خلقه وأصله، وتعاطى الشعر وبرع فيه ونشط ونال منزلة عالية من الأسرة المالكة، وصار محبوبا لديهم، فقد عاصر ثلاثة من حكام الدولة البوسعيدية أولهم السلطان فيصل الذي أصبح كاتبا ونديما له ومن بعده السلطان تيمور بن فيصل وقد زاد في تقربه وإكرامه وصار من المقربين له ومحل ثقته، ثم بعده السلطان سعيد بن تيمور. وقد كان ملازما لهم لا يفارقهم حتى في أسفارهم ورحلاتهم وخاصة إلى ظفار والهند، وأسبغوا عليه من العطايا والهدايا، فجاء أغلب شعره في مدحهم وتسجيل أعمالهم وتدوين مآثرهم ومفاخرهم ووقائعهم وأسفارهم، ودافع عنهم بشعره في وجه كل من يتعرض لهم مهما كانت الأسباب إلى أن توفي بين عامي1370 /1372هـ.
أغلب شعر أبي الصوفي في مديح السلاطين -كما أسلفنا- وما جاء من غزل ووصف إنما هو مقدمة للمدح أو تخلص إليه، ولا غرو فقد جبلت القلوب على من أحسن إليها. وتوجد له قصائد في الرحلات ووصف الطبيعة والرثاء وتخميسات عدة في أمور متفرقة.
ومن أهم القصائد التي قالها الشيخ في مدح السلطان فيصل بن تركي بن سعيد تحت عنوان بواعث الأشواق من لواعج المشتاق على صفحات الأوراق:-
قلب لتذكار الأحبة قد صبا
فكأنه سعف تهاداه الصبا
تدنيه من أرج التواصل نفحة
وتصده ريح الصدود تنكبا
يا أيها الملك الذي بهر الملا
بكمالك الدنيا تعالت منصبا
ومن بعد السلطان فيصل ابنه السلطان تيمور، حيث زاد تقربه وإكرامه وصار كاتبا وسميرا ومحل ثقة السلطان تيمور وكانت كتابات السلطان تيمور لأبي الصوفي بعبارة (أخي وسميري في الأيام الغابرة )، ومما قاله فيه:
تيهي ظفار فقد شُرفت كمثلما
تيمور قد شرفت به الأيام
أصبحت في روض السعادة ترتعي *** والناس في أمن المليك نيام
والعز في مثواكِ أضحى راتعا
وعلى حصونكِ تُنشر الأعلام
أمسيتِ في وجه الممالكِ غرة
وذوُوْكِ في فلكِ السُّعود قيام
فالقِ الزمامَ بكف أروع باسلٍ
فيمينه لك حارسٌ وزمام
قد كنتِ كالرعديد مرتعد القوى
ينتاشكِ الضيؤون والضرغام
حتى أتاك أبو سعيد فاستوت
بأمانه الأوهادُ والآكام
فظباك في أنسِ الكناس أوانسٌ
والطيرُ في وكناتهن نيام
فليهنَ قطرك يا ظفار بمربعٍ
لأبي سعيد طال فيه مقام
ملكٌ أرق من النسيم خلائقا
وَأشدّ خُلقا إذ يكون خصام
لا يحذرنَ من المخاوف جارُه
أبدا وليس أخو الجوارِ يُضَام
أندى من المطرِ الملثّ نداؤه
وَأجل مهما عدَّتْ الأوهام
وأحدّ من نظر العليم ذكاؤُه
فتحار من تخمينه الأفهام
ولمحبة السلطان لأبي الصوفي أمره بجمع ما نظمه من شعر وطبع أول ديوان له عام 1356هـ/1937م بمدينة أوساكا باليابان بمطبعة دار الطباعة الإسلامية العربية، تحت اسم الشعر العماني المسكتي في القرن الرابع عشر للهجرة النبوية، وكتب له مقدمة تحث على نشر العلم وطباعة الكتب ونبذ التعصب والتفرق وازدراء التخلف والجهل. وأطلق عليه السلطان تيمور في مقدمته لديوانه شاعر الأسرة المالكة، مما يدل على عظيم مكانة كان يحتلها هذا الشاعر في البلاط السلطاني على مدى ثلاثة عهود متعاقبة، وقد أتاحت له هذه المنزلة أن يعتمر العمامة السعيدية التي كانت ولا تزال رمزا للأسرة المالكة. كما أتاحت له هذه المنزلة أن يلتقي برجال وقامات كبرى، فقد جمعت أبو الصوفي علاقة صداقة بسليمان باشا بن عبدالله الباروني، وهو العالم الليبي النفوسي الذي عينه الإمام محمد بن عبدالله الخليلي رئيسا لهيئة كبار العلماء والرؤساء، ثم بعد فترة من استقالته من هذا المنصب عينه السلطان سعيد بن تيمور مستشارا عاما لحكومته.
ومما يدل على مكانته عند السلطان سعيد بن تيمور أنه أوكل إليه بمنصب كاتم سر الدولة وأمر السلطان بإعفائه من العشور كلها، ومما قاله قصيدة مؤرخة بالحادي عشر من شوال 1359هـ، يقول في مطلعها مهنئا باجتماع ضم السلطان سعيد بأبيه تيمور:
تبسّم الدهر والأيام والأممُ
وأسفرت بالهنا القاعاتُ والقِممُ
ولاحَ بدرُ الدجى بالسعدِ مقترنا
والأرضُ من بورة الوضاح تحتدمُ
واهتز ركن العلا من شوقه طربا
والدمعُ من أعين الأفراح ينسجمُ
ويقول في مطلع قصيدة أخرى مؤرخة بالثاني عشر من ذي الحجة 1359هـ مهنئا فيها السلطان سعيد بمولوده الجديد قابوس:
بشرت نفسَها المعالي الشموسُ
مذ أتاها رضيعها قابوسُ
ولَّدته فكان صِنواً وبَعلاً
فالمعالي لكل ملكٍ عروسُ
...حضنته قوابل المجد حتى
لم يكن في مهاده تدليسُ
وأتت نحوه الخلافة تسعى
تلثم الكفَّ خاضعا وتبوسُ
أيقنت أنه الكفيلُ عليها
بعدما كان في حشاها يجوسُ
فهو منها وهي منه فَعَمٌّ
ثم خالٌ وبعلها والرئيسُ
فانعمي اليومَ يا عمان بنجلٍ
أنتِ سيف بكفه والخميسُ
وقصائد المدح هذه مع ما تحمله من صدق عاطفة، فإن لها أهمية تتجلى في أمرين: أولهما ما تحتويه هذه المدحيات من مطالع بديعة ووصف جميل، والوصف والطبيعة في شعر أبي الصوفي يحتلان مكانا بارزا في النتاج الفني بوجه عام، ويشيع في ثناياه شيوعا لافتا للنظر. وهو يشمل ـ فيما يشمل ـ الطبيعة الميتة والمتحركة من حيوان وأرض وسماء وبحور وجو، وما إلى ذلك، فإذا أضاف إلى ذلك تصويره لفضائل ممدوحه وخلائقه وأحواله ـ أدرك المتلقي إلى أي مدى يغلب على قصائده الوصف، وفي غلبة جانب الوصف على المديح دليل على حضور ذات الشاعر، الذي حظي بالنصيب الأكبر من هذه القصائد.
أما الأهمية الثانية، فتتجلى في القيمة التاريخية، يقول الدكتور سمير هيكل في حديثه عن قضايا العصر في شعر أبي الصوفي إن «ديوان الشاعر العماني أبي الصوفي جاء كوثيقة تاريخية للعصر الذي عاش فيه الشاعر في كنف السلاطين وذلك بما تحمله قصائده في ثناياها من قضايا العصر، كما شاهدها أبو الصوفي أو عرفها أو شارك فيها، ويمكن تقسيم هذه القضايا إلى: قضايا الحكم الداخلية، وقضايا اجتماعية، وقضايا علمية. ويتفاوت عدد قصائد هذه القضايا المذكورة في ديوان الشاعر، فالملاحظ أن قضايا المناسبات وما يتعلق بها من مديح وثناء وتمجيد للممدوح هي الغالبة على شعره كونه ملتزما بهذه القضايا التي نذر نفسه لتسجيلها في قصائده شأنه في ذلك شأن كل شعراء المديح والمناسبات».
وذلك قصيدة نظمها حينما جلب الهاتف إلى قصر السلطان فيصل في عُمان عام 1328هـ (حوالي 1929 ميلادية)، لأول مرة، فراح يصف الهاتف ويعرض ترقّي الأوروبيين في استنباط العلوم والاختراعات وانحطاط العرب عن درجة أسلافهم، وقال فيها:
من دارة العلم يبدو طالع الحِكَم *
لولاه ما خطت الأقلام بالكلَمِ
قد طار ذو العلم فوق النجم مرتفعاً
وانحط ذو الجهل بالقاعات والتخمِ
لا يمتطي المجدَ بطّالٌ ولا ضجِرٌ
فالمجد بالجِدّ ليس المجد في السأَمِ
من طال بالعلم يوماً طاب مسكنُ
يا مزنة العلم هلاّ رشفة بطمي
ومن ذلك أيضا وعندما نبدأ في تقليب صفحات هذا الديوان العربي المجهول المطبوع في اليابان في تلك الفترة البعيدة، نراه يشرع أولا في مدح السلطان فيصل بن تركي ومتحدثا عن بناء قلعة صور عام 1319هـ:
ما كلُّ من ملك الثراء يجو
كلا ولا كلُّ الرجال تسود
ما كلُّ من طلب السباق بمدرك
شأواً ولا كل البروق تجود
وهكذا يُعد ديوانه سجلاّ تاريخيا لعُمان وحوادثها، فكل قصيدة فيه مؤرَّخة بتاريخها ومناسبتها. فالقسم الأول من الديوان قصائد خلَّفها تيمور بن فيصل ويسجل فيها تحركاته وزياراته الداخلية والخارجية، عدا القصائد الأخرى في الأغراض المختلفة.
ونظرة سريعة إلى المعجم الشعري لأبي الصوفي يتضح منها مدى ارتباطه الوثيق بالموروث اللغوي، وليس هذا بغريب على شاعر يعيش في تلك الفترة، فقد كانت مشدودة الوجدان إلى التراث، بكل ما فيه من أصالة، وبكل ما يحمله للعربي من زاد لا ينفد، وعطاء لا يبلى.
ومع تقدم أبو الصوفي في السن وأصابته بمرض الريح أجرى له الطبيب طومس العملية، ولكن تقدم العمر له أحكامه، فأمر السلطان سعيد بن تيمور اثنين من خدمه ليكونا في خدمة أبي الصوفي، إلى أن وافته المنية ببلدة السيب بمزرعته طوي الزيتون يوم الخميس الثاني من ربيع الأول سنة 1372 للهجرة 1945 ميلادي وقد تم دفنه في مقبرة فزع في نفس البلد.
د. سالم البوسعيدي شاعر وكاتب ومؤلف له أكثر من 70 إصدارا.
تعلم القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة، ثم درس علوم اللغة العربية المختلفة، بالإضافة إلى دراسة أشعار العرب القدامى، التي وسعت مداركه وأذكت من مواهبه فبدأ ينظم الشعر وشجعه على ذلك أساتذته وشيوخه، ثم أصبح مدرسا وأتقن علم الرسم وصار من الكتاب المشهورين.
شد بعدها الرحال إلى مسقط للكسب والرزق فاتخذه السيد بدر بن سيف بن بدر البوسعيدي -أحد رجالات دولة السلطان فيصل بن تركي- كاتبا له وذلك لجودة خطه وبلاغة تعبيره، وترقى بأدبه وحسن خلقه وأصله، وتعاطى الشعر وبرع فيه ونشط ونال منزلة عالية من الأسرة المالكة، وصار محبوبا لديهم، فقد عاصر ثلاثة من حكام الدولة البوسعيدية أولهم السلطان فيصل الذي أصبح كاتبا ونديما له ومن بعده السلطان تيمور بن فيصل وقد زاد في تقربه وإكرامه وصار من المقربين له ومحل ثقته، ثم بعده السلطان سعيد بن تيمور. وقد كان ملازما لهم لا يفارقهم حتى في أسفارهم ورحلاتهم وخاصة إلى ظفار والهند، وأسبغوا عليه من العطايا والهدايا، فجاء أغلب شعره في مدحهم وتسجيل أعمالهم وتدوين مآثرهم ومفاخرهم ووقائعهم وأسفارهم، ودافع عنهم بشعره في وجه كل من يتعرض لهم مهما كانت الأسباب إلى أن توفي بين عامي1370 /1372هـ.
أغلب شعر أبي الصوفي في مديح السلاطين -كما أسلفنا- وما جاء من غزل ووصف إنما هو مقدمة للمدح أو تخلص إليه، ولا غرو فقد جبلت القلوب على من أحسن إليها. وتوجد له قصائد في الرحلات ووصف الطبيعة والرثاء وتخميسات عدة في أمور متفرقة.
ومن أهم القصائد التي قالها الشيخ في مدح السلطان فيصل بن تركي بن سعيد تحت عنوان بواعث الأشواق من لواعج المشتاق على صفحات الأوراق:-
قلب لتذكار الأحبة قد صبا
فكأنه سعف تهاداه الصبا
تدنيه من أرج التواصل نفحة
وتصده ريح الصدود تنكبا
يا أيها الملك الذي بهر الملا
بكمالك الدنيا تعالت منصبا
ومن بعد السلطان فيصل ابنه السلطان تيمور، حيث زاد تقربه وإكرامه وصار كاتبا وسميرا ومحل ثقة السلطان تيمور وكانت كتابات السلطان تيمور لأبي الصوفي بعبارة (أخي وسميري في الأيام الغابرة )، ومما قاله فيه:
تيهي ظفار فقد شُرفت كمثلما
تيمور قد شرفت به الأيام
أصبحت في روض السعادة ترتعي *** والناس في أمن المليك نيام
والعز في مثواكِ أضحى راتعا
وعلى حصونكِ تُنشر الأعلام
أمسيتِ في وجه الممالكِ غرة
وذوُوْكِ في فلكِ السُّعود قيام
فالقِ الزمامَ بكف أروع باسلٍ
فيمينه لك حارسٌ وزمام
قد كنتِ كالرعديد مرتعد القوى
ينتاشكِ الضيؤون والضرغام
حتى أتاك أبو سعيد فاستوت
بأمانه الأوهادُ والآكام
فظباك في أنسِ الكناس أوانسٌ
والطيرُ في وكناتهن نيام
فليهنَ قطرك يا ظفار بمربعٍ
لأبي سعيد طال فيه مقام
ملكٌ أرق من النسيم خلائقا
وَأشدّ خُلقا إذ يكون خصام
لا يحذرنَ من المخاوف جارُه
أبدا وليس أخو الجوارِ يُضَام
أندى من المطرِ الملثّ نداؤه
وَأجل مهما عدَّتْ الأوهام
وأحدّ من نظر العليم ذكاؤُه
فتحار من تخمينه الأفهام
ولمحبة السلطان لأبي الصوفي أمره بجمع ما نظمه من شعر وطبع أول ديوان له عام 1356هـ/1937م بمدينة أوساكا باليابان بمطبعة دار الطباعة الإسلامية العربية، تحت اسم الشعر العماني المسكتي في القرن الرابع عشر للهجرة النبوية، وكتب له مقدمة تحث على نشر العلم وطباعة الكتب ونبذ التعصب والتفرق وازدراء التخلف والجهل. وأطلق عليه السلطان تيمور في مقدمته لديوانه شاعر الأسرة المالكة، مما يدل على عظيم مكانة كان يحتلها هذا الشاعر في البلاط السلطاني على مدى ثلاثة عهود متعاقبة، وقد أتاحت له هذه المنزلة أن يعتمر العمامة السعيدية التي كانت ولا تزال رمزا للأسرة المالكة. كما أتاحت له هذه المنزلة أن يلتقي برجال وقامات كبرى، فقد جمعت أبو الصوفي علاقة صداقة بسليمان باشا بن عبدالله الباروني، وهو العالم الليبي النفوسي الذي عينه الإمام محمد بن عبدالله الخليلي رئيسا لهيئة كبار العلماء والرؤساء، ثم بعد فترة من استقالته من هذا المنصب عينه السلطان سعيد بن تيمور مستشارا عاما لحكومته.
ومما يدل على مكانته عند السلطان سعيد بن تيمور أنه أوكل إليه بمنصب كاتم سر الدولة وأمر السلطان بإعفائه من العشور كلها، ومما قاله قصيدة مؤرخة بالحادي عشر من شوال 1359هـ، يقول في مطلعها مهنئا باجتماع ضم السلطان سعيد بأبيه تيمور:
تبسّم الدهر والأيام والأممُ
وأسفرت بالهنا القاعاتُ والقِممُ
ولاحَ بدرُ الدجى بالسعدِ مقترنا
والأرضُ من بورة الوضاح تحتدمُ
واهتز ركن العلا من شوقه طربا
والدمعُ من أعين الأفراح ينسجمُ
ويقول في مطلع قصيدة أخرى مؤرخة بالثاني عشر من ذي الحجة 1359هـ مهنئا فيها السلطان سعيد بمولوده الجديد قابوس:
بشرت نفسَها المعالي الشموسُ
مذ أتاها رضيعها قابوسُ
ولَّدته فكان صِنواً وبَعلاً
فالمعالي لكل ملكٍ عروسُ
...حضنته قوابل المجد حتى
لم يكن في مهاده تدليسُ
وأتت نحوه الخلافة تسعى
تلثم الكفَّ خاضعا وتبوسُ
أيقنت أنه الكفيلُ عليها
بعدما كان في حشاها يجوسُ
فهو منها وهي منه فَعَمٌّ
ثم خالٌ وبعلها والرئيسُ
فانعمي اليومَ يا عمان بنجلٍ
أنتِ سيف بكفه والخميسُ
وقصائد المدح هذه مع ما تحمله من صدق عاطفة، فإن لها أهمية تتجلى في أمرين: أولهما ما تحتويه هذه المدحيات من مطالع بديعة ووصف جميل، والوصف والطبيعة في شعر أبي الصوفي يحتلان مكانا بارزا في النتاج الفني بوجه عام، ويشيع في ثناياه شيوعا لافتا للنظر. وهو يشمل ـ فيما يشمل ـ الطبيعة الميتة والمتحركة من حيوان وأرض وسماء وبحور وجو، وما إلى ذلك، فإذا أضاف إلى ذلك تصويره لفضائل ممدوحه وخلائقه وأحواله ـ أدرك المتلقي إلى أي مدى يغلب على قصائده الوصف، وفي غلبة جانب الوصف على المديح دليل على حضور ذات الشاعر، الذي حظي بالنصيب الأكبر من هذه القصائد.
أما الأهمية الثانية، فتتجلى في القيمة التاريخية، يقول الدكتور سمير هيكل في حديثه عن قضايا العصر في شعر أبي الصوفي إن «ديوان الشاعر العماني أبي الصوفي جاء كوثيقة تاريخية للعصر الذي عاش فيه الشاعر في كنف السلاطين وذلك بما تحمله قصائده في ثناياها من قضايا العصر، كما شاهدها أبو الصوفي أو عرفها أو شارك فيها، ويمكن تقسيم هذه القضايا إلى: قضايا الحكم الداخلية، وقضايا اجتماعية، وقضايا علمية. ويتفاوت عدد قصائد هذه القضايا المذكورة في ديوان الشاعر، فالملاحظ أن قضايا المناسبات وما يتعلق بها من مديح وثناء وتمجيد للممدوح هي الغالبة على شعره كونه ملتزما بهذه القضايا التي نذر نفسه لتسجيلها في قصائده شأنه في ذلك شأن كل شعراء المديح والمناسبات».
وذلك قصيدة نظمها حينما جلب الهاتف إلى قصر السلطان فيصل في عُمان عام 1328هـ (حوالي 1929 ميلادية)، لأول مرة، فراح يصف الهاتف ويعرض ترقّي الأوروبيين في استنباط العلوم والاختراعات وانحطاط العرب عن درجة أسلافهم، وقال فيها:
من دارة العلم يبدو طالع الحِكَم *
لولاه ما خطت الأقلام بالكلَمِ
قد طار ذو العلم فوق النجم مرتفعاً
وانحط ذو الجهل بالقاعات والتخمِ
لا يمتطي المجدَ بطّالٌ ولا ضجِرٌ
فالمجد بالجِدّ ليس المجد في السأَمِ
من طال بالعلم يوماً طاب مسكنُ
يا مزنة العلم هلاّ رشفة بطمي
ومن ذلك أيضا وعندما نبدأ في تقليب صفحات هذا الديوان العربي المجهول المطبوع في اليابان في تلك الفترة البعيدة، نراه يشرع أولا في مدح السلطان فيصل بن تركي ومتحدثا عن بناء قلعة صور عام 1319هـ:
ما كلُّ من ملك الثراء يجو
كلا ولا كلُّ الرجال تسود
ما كلُّ من طلب السباق بمدرك
شأواً ولا كل البروق تجود
وهكذا يُعد ديوانه سجلاّ تاريخيا لعُمان وحوادثها، فكل قصيدة فيه مؤرَّخة بتاريخها ومناسبتها. فالقسم الأول من الديوان قصائد خلَّفها تيمور بن فيصل ويسجل فيها تحركاته وزياراته الداخلية والخارجية، عدا القصائد الأخرى في الأغراض المختلفة.
ونظرة سريعة إلى المعجم الشعري لأبي الصوفي يتضح منها مدى ارتباطه الوثيق بالموروث اللغوي، وليس هذا بغريب على شاعر يعيش في تلك الفترة، فقد كانت مشدودة الوجدان إلى التراث، بكل ما فيه من أصالة، وبكل ما يحمله للعربي من زاد لا ينفد، وعطاء لا يبلى.
ومع تقدم أبو الصوفي في السن وأصابته بمرض الريح أجرى له الطبيب طومس العملية، ولكن تقدم العمر له أحكامه، فأمر السلطان سعيد بن تيمور اثنين من خدمه ليكونا في خدمة أبي الصوفي، إلى أن وافته المنية ببلدة السيب بمزرعته طوي الزيتون يوم الخميس الثاني من ربيع الأول سنة 1372 للهجرة 1945 ميلادي وقد تم دفنه في مقبرة فزع في نفس البلد.
د. سالم البوسعيدي شاعر وكاتب ومؤلف له أكثر من 70 إصدارا.