في ثلاثينيَّة نزوى: احتفاء بمطلق المكان والزَّمان معًا
الهواري غزالي
الأربعاء / 16 / رمضان / 1445 هـ - 20:28 - الأربعاء 27 مارس 2024 20:28
كنتُ أقود سيَّارتي متَّجها ككلِّ صباح إلى الجامعة، عندما أرسلت لي مديرة تحرير مجلَّة نزوى الأستاذة والرِّوائيَّة هدى حمد صباح الاثنين من تاريخ أربعة ديسمبر لعام 2023 على العاشرة والنِّصف صورةً على برنامج واتساب من جهاز هاتفي، تخبرني عن شيءٍ من أرشيف المجلَّة قد وسعها لشدَّةِ المفاجأة أن ترسله لي.
اعترتني في لحظةٍ خاطفةٍ كالطَّير تلك، وحينٍ بارقٍ كالرَّعد ذاك، دهشةٌ أخَّاذة للمشاعر والأحاسيس والأنفس. فما وجدتُنِي إلا وقد تنحَّيتُ عن الطَّريق، وأوقفت محرِّك السَّيَّارة بعد أن ركنتها جانبًا، وبدأت ألتقط أنفاسي وأنا أتفقَّد الصُّورة على مهلٍ مخلوطٍ بقلق، وأملٍ ممزوجٍ بحزن.
لم أكن أتصوَّرُ يومًا أنَّ رسالةً من ذلك الماضي البعيد ستقطع كلَّ هذا الزَّمن لتعود إليَّ من جديد. كأنَّما لو أنَّها خطاب ملفوف كسيجارةٍ على نفسه وقد أُدخلَ عنق زجاجةٍ قبل أن يُحكموا الإغلاق، ليُلقَى وسط المحيطات، باحثًا، كما تريدُ له الأقدار وتشاءُ له الصُّدَفُ، عن ساحلٍ يرتمي بين أحضانه ارتماءَ شقيٍّ أنهكه ظلمُ الزَّمان.
توسَّعت حدقَةُ عينيَّ لتُفتِّشَ عنِّي في تلك السُّطور، لحظَة كتابَتِها أوَّل مرَّة، وأنا أراسل من خلالها للمرَّة الأولى الأستاذ سيف الرَّحبي ملتمسًا منه نشر قصائدي البضرابينيَّة (نسبةً إلى بضرابين، مسقط رأسي). وما لبثتُ أقرأ الرِّسالة فقرةً فقرةً، وأطالع فيها شأني تلك الأيَّام، إلا ورأيتَني قد عادت بي الرِّسالةُ إلى الأيَّام الخوالي، الأوائل منها والتَّوالي.
في تسعينيات القرن الماضي، كنَّا نجتمعُ بعد كلِّ عصرٍ بمقاهي المشور، بمكانٍ يقع قرب قلعة بني زيَّان التي حكم أصحابُها تلمسان، والتي انتدبت نفسَها عاصمَةً للمغرب الأوسط. كان ذلك السُّور العظيم يحيطنا كلَّ مساء بمناعةٍ حضاريَّة فائقة، ومنعةٍ نفسيَّة رائقة، فنسترخي على الكراسي تحت شجر الدَّلب الأخضر اليانع، وأغصانه الوارفة الظَّليلة، نتقصَّى جغرافيا الخاطر المرتاح، وننأى فيه بأنفسنا المنهكة، فنرتشفُ كؤوس الشَّاي المُعَطَّرةِ بالنَّعناع، ونتقاسمُ حبَّات المْبَسَّسْ (أُكلاتٌ مغاربيَّة تعرض على أطباق العشيَّات)، ثمَّ نتطلَّع إلى كتبٍ تأتي يُمنةً ويُسرَة، لعلَّنا نفرُّ بعقولِنا من تلك المحاضرات الأكاديميَّة بالجامعة، والأطر المعرفيَّة المقنَّنة بفعل التَّقاليد السِّياسيَّة والأعراف.
لم نكن حينها، والكتب ذاتُ الفكر المختلف تفدُ إلينَا، إلَّا في صهيلٍ جامحٍ بالشَّباب، نتقاطع ونختلف، ونتوافقُ ونأتلف، ونناقشُ فكرًا نحسبُهُ أكبر منَّا، وثقافاتٍ نراها أوسع وآدابًا أجلَّ وفنونًا أكثرَ تمكينًا للنَّفس وعلومًا أوفى.
كنَّا نجتمعُ من حدبِ كلِّ تخصُّصٍ وصوب، من القانون، والفلسفة، واللُّغات الأجنبيَّة، والآداب، والتَّاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النَّفس، ومن الفنون، والموسيقى، والسِّينما، لنتناقش في جوٍّ من الحرِّيَّة الذي وفَّرته آنذاك المدن الجزائريَّة، بعيدًا عن القرى التي رزحت تحت وطأة العنفِ، وما آلت إليه الأوضاع من خوفٍ وهلعٍ وتدمير. كنَّا نتعلَّم في نقاشاتنا روح التَّخصُّصات المتعدِّدة، ووسائل التَّعبير المختلفة، نقرأ الشِّعر، ونناقش الفلسفة، ونتفرَّغ للنَّفس، ونتفهَّم المجتمعات، ونتحدَّث عن الحبِّ، والحُزنِ والنِّهايات.
وفي تلك المرحلة بالذَّات، وقعت بين أيدينا مجلَّة نزوى، كما تقعُ تُفَّاحةً أعلى الشَّجرة، فتقَّلبت بينَنا كقطعةٍ معدنيَّة ذهبيَّةٍ قديمةٍ عثَر عليها طفلٌ وهو يتفحَّصُ جرارَ بابل المتبعثرة، أو كجنٍّ مُتَفتِّحِ الخاطرِ يبحثُ، بين المنازلِ المختلفة الألوان، عن هوسٍ جديد.
كذاك الاختلاف الذي كنَّا فيه، توسَّعت المجلَّة بحسب راياتنا التي لم تكن أبدًا واحدة، فماثلَتِ المجلَّة الأنفُس، وتماثلت الأرواح، وامتثلتِ النِّيَّاتُ، وتمثَّلَ العقلُ في أبهى ما يمكن أن يكون عليهِ من صورة، لا يبتغيها إلا من هو على خطى المثال الأفلاطونيّ.
وهل يسَعُنا شيءٌ ونحن في تلك التَّقاطعاتُ إلَّا أن نسكنَ نقطةً واحدة، نقطةَ نزوى التي لا تبرح مكانَها مركزًا في الدِّين والثَّقافة والتَّاريخ؟
كان سيف الرَّحبي، قائدُ الجوقةِ الأوَّل، في هذه السمفونيَّة المدهشة، يجرُّ خيالنا، الواحد تلو الآخر، إلى معبدِ باخوس الوثني، لنقرأ، على نخبِ حرَّاس المتوسِّط وأوليائه الأوفياء، نصَّه الصَّحراويَّ الذي يمجِّدُ فيه عرينَ الأبديَّة. لم نتبيَّن من تلك البيانات الأولى، إن كان رئيسَ تحرير، أم شاعرًا، أم كاتبًا يصادرُ الفضاءات، كأنَّه يجعلها تهيم به حبًّا، فتجثو على رُكبَتيها خالدةً بجمالها اللُّغوي. بل كان هو الآخر، نقطةً مضيئةً على رأس القاطرةِ، يُخلِي سبيلَ السِّكَكِ الحديديَّة، ليتدرَّجَ عليها السَّالكون إلى غاياتهم، والمريدون إلى أقطابِهم، والنَّاجون بأنفسِهِم إلى الخلاصِ الجميل.
اِكتشافٌ قطع على نفسي آنذاك عهدًا بأن يبقى على حاله إلى آخر الحياة، يحفظُ شبابي، ويمنع عن مائهِ الرَّكود، ولا يسوقُ إليه إلا ينابيعَ الجبال العالية.
مرَّت، بعد ذلك، أشهرٌ عديدةٌ، حتَّى طالعتني لأوَّل مرَّة بمزرعة جدِّي النَّائية مجلَّة نزوى في عددها الثَّاني والعشرين، وقد أخبرتني العائلة بوصولها، ارتجفت يداي وهي تمسك بأوَّل نافذةٍ في التَّاريخ، ورُحتُ أقلِّب في صفحاتها باحثًا عن نصِّي الشِّعريّ الذي يحمل عنوان «احتفالُ التَّعَبْ»:
- تَعِبْتُ مِنْ صَدِيحِ قَلْبٍ لاَ يَرِقُّ / مِنْ غُبَارٍ تَشَظَّى فِي الكَلاَمِ المُسْتَحِيلِ / مِنْ عُيُونِ عَاشِقٍ خَاسِرَةٍ
جَفَّتْ عَلَى وِسَادَةٍ تَخُونُهَا كُلَّ مَسَاءٍ / مِنْ خُطْوَةٍ لاَ تَكْبُرُ / وَلاَ تَمُوتُ.
- تَعِبْتُ مِنْ وَجْهِي الغَرِيبِ دَائِمًا / وَمِنْ سُكُوتِي، وَتَفَاهَتِي / وَمِنْ ذُبَابَةٍ تَحُطُّ فِي صَفْحَةِ أَيَّامِي وَلاَ تَطِيرْ/ مِنْ سِتَارِ فَرْحَتِي الذَّي لَمْ تَرْتَدِيهِ شَمْسُ أَسْرَارِي / وَأَنْتِ تَرْتَمِينَ فِي فِرَاشِ حَضْرَتِي / ذَاكِرَةً قَتِيلَةً / وَدَمْعَةً لِكُلِّ أَقْمَارِي.
- تَعِبْتُ مِنْ صَبَاحٍ لاَ يَقُولُ أَشْهَى مِنْ سُكُوتِهِ السَّدِيميِّ / وَمِنْ عُصْفُورَةٍ تَرَاكَمَتْ فِي عُشِّ غَفْوَتِي / وَغَنَّتْ فِي مَقَابِرِ النُّعَاسِ / مِنْ يَقْظَتِي الحُبْلَى خَسَارَاتٍ،/ وَمِنْ فِنْجَانِ بَرْنَامَجِ يَوْمِي / وَجَرِيدَةِ الخَرَابِ/ مِنْ قِطَّةٍ كَسُولَةٍ تَجُرُّ ذَيْلَ حُجْرَتِي وَلاَ تَمُوءُ/ تَتْرُكُ ظُفْرَهَا بِعَتْبَةِ البِسَاط، كَيْ تَعُود / بِعَاشِقٍ مُسَالِمٍ / أَوْ بِفَرِيسَةِ النَّهَارِ.
- تَعِبْتُ مِنْ نَافِذَةٍ تَفْتَرِسُ الحُلْمَ / وَمِنْ سَرِيرِ جُرْحِي مُسْتَبَاحٍ لِجَسَارَةِ الأَلَم / وَبائِعِ الأسْرَارِ / وَضْوْءِ خَافِتٍ يَمُوتُ فِي زِنْدَيْكِ / يَنْحَنِي هُدُوءًا / لِقَبَائِلِ الجَسَدِ / وَحَارِسِ الأَخْبَارِ.
- تَعِبْتُ مِنْ وَرَّاقَةٍ أَكْتُبُهَا كُلَّ مَسَاءْ / مِنْ مَكْتَبٍ مُصَادَرٍ / مِنْ شُعْلَةٍ أُنْثَى تَلُوحُ فِي حَيَاء / مِنْ لَفْظَةٍ أُضِيفُهَا لمَجْلِسِ العَائِلَةِ الفَصْلِيَّةِ / مِنْ قُبْلَةٍ بَارِدَةٍ / تَقْتَاتُ مِنْ سِيجَارَةٍ مُطْفَأَةٍ في مَرْمَدِ انْتِحَارِي.
- تَعِبْتُ مِنْ محْفَظَةِ الأَشْغَالِ أُلْقِيهَا عَلَى فَخْذِ حَبِيبَةٍ حَزِينَةٍ / وَأَدْعُوهَا لحَمَّامٍ خَفِيفٍ / كَيْ يَرُشَّهَا بِرَغْوَةِ الخِيَانَةِ اليَوْمِيَّةِ المُخَادِعُ الذِّي يَبِيتُ في عُيُوني بِزُجَاجَةِ النَّبِيذِ... ثَمَّ أَغْتَالُ خُطَاهُ../ وَأَحْتَسِي عِنْدَ عَشَائِي خُطْبَةَ عِشْقٍ / أُعْلِنُ احْتِفَاءَةً بأَبْلَغِ الأَشْعَارِ.
- تَعِبْتُ مِنْ شَوَارعِ الكَلاَمِ / مِنْ كُلِّ الذِّي كَانَ وَمَا كَانَ / وَمِنْ لَيْلَةِ عُمْرِي / وَضُحَى أَسْفَارِي/ وَمِنْ مَدِينَةِ السَّرَابِ / وَمَا تَبَقَّى مِنْ قُرَى هَذَا النَّهَارِ.
كان هذا النَّصُّ الذي تتبدَّى فيه أتعابُ شابٍّ مرهونٍ بواقعٍ أليمٍ جرَّاء أحداث التِّسعينيات بالجزائر أوَّل إطلالةٍ منِّي على العالم، منحني، حينَها، الإحساسَ بأنَّني كاتبٌ عظيمٌ، ووارثُ الدُّنيا، وشاغلُ النَّاسَ، وقاطعٌ قولَ كلِّ خطيب. وإذا كان هذا الإحساسُ، بذلك العمرِ، ليس سوى وهمَ شبابٍ عابرٍ، فإنَّه بذلك العهد، كان يكفي، لأحيطَ العالم وأقطعَهُ بنَفَسِ مبتهِجٍ واحد.
في ذاك العدد، نشرتُ إلى جانب عبدالرَّحمن منيف، محمود درويش، علي حرب، ألبير قصيري، عبداللَّطيف اللعبي، إبراهيم نصر الله، هاشم صالح، علي المقري، عبداللَّه الحرَّاصي، عبدالله خليفة، وحيد الطَّويلة، خليل الشّيخ، نوري الجرَّاح، خليل النَّعيمي، سلوى النَّعيمي، عبدالله البلوشي، فاطمة الشِّيدي، طالب المعمري، وكثيرين ممَّن توشَّحت بهم ثقافة ذلك الجيل العربيَّة.
كشفت عمانُ، شيئًا فشيئًا، عن وجهها لي، وبدأت تقتربُ كسفينةٍ خالدةٍ إلى روحي، نصوصُها، أسفارُها، كتَّابُها، شعراؤها، عمرانُها وصحراؤها، قبائلُ من الثَّقافات تجيشُ بركبانها على زاويةٍ في المطلقِ البهيج.
أمَّا هذا الشَّاعرُ، فقد تمثَّل لي، وهو يساريُّ المحرِّرين، كمونديلَّا الشُّعراء، مناضلُ الكلمةِ المبدعةِ في رواقِ قوافيها وخوذِ رويِّها. كانت لِيَدِه بغُمدِهَا الطَّويل في النَّفسِ ندَا سماءٍ مسجَّاةٍ فوقَ الأمطار، وممدودةٍ على سريرٍ موثورٍ بجميل الأقدار، وكنت أسائلُ نفسي، أَيُقدَّرُ عليَّ أن يأخذ بيدي سيفُ الرَّحبي، لينشرَ لي، أنا ذلك المنفيُّ في أقاصي التَّاريخ بهذا المكان؟؟ وزادني، بعد هذه الثَّلاثينيَّة الماراطونيَّة، أن رأيتُ اليومَ بمسقط، لأوَّل مرةٍ، في ذلك الاحتفاء، أقراني، ممَّن وُلِدُوا مثلي في هذا الجيلِ النَّزويِّ، فأدركتُ أنَّني لم أكن وحدي، وإنَّما جيلٌ كاملٌ ممَّن وجدوا فيه، الشَّيخَ الباسطَ زَرَابِيهِ للمريدين.
وإذا كان لي، من ذلك، عهدُ الرِّباطِ، أن أنشرَ بنزوى، طالبَ ليسانس وماجستير بتلمسان، ثمَّ طالبَ دبلوم دراساتٍ معمَّقةٍ ودكتوراة ببوردو، ثمَّ أستاذًا باحثًا بباريس ومحاضرًا فيها، فإنَّ أقلَّ ما يُقال، عن هذا الرِّباطِ، أنَّه لم يكن مقدَّسًا فحسب، بل كان أيضًا اتِّحادًا روحيًّا جمع السَّاري بأوَّل نجمةٍ قادتْهُ إلى بيتهِ في المُطْلَقَين: مطلَقِ المكان ومُطلَقِ الزَّمان.
بعد فراغي من قراءةِ الرِّسالة التي أرسلتني إيَّاها الرِّوائيَّة هدى حمد، نظرتُ حيث التَّوقيع، مزرعة بضرابين وتاريخ 19 ديسمبر 1998، فإذا به المكانُ مكانُ مولدي والزَّمان نفسُه زمانُ ذلك. فلمَ يا تُرى، أكتبُ رسالةً عيدَ ميلادي الثَّالث والعشرين ببضرابين، أهُوَ احتفاءٌ بتجدُّدِ عهد أم هو بكاءٌ على ما مضى، أم هي رسالةٌ أرسلُها لنفسي بعد مرور خمسٍ وعشرين سنة من الآن؟
ها إنَّني أدخل الفندقَ الآن منهكًا، بعدما شاركت الأصدقاء النَّدوة الأولى معقِّبًا، لثلاثينيَّة نزوى، مبتهجًا باللِّقاء وحزينًا بعد مضيِّ هذا العمر، أتقاطع مع نفسي على سرير غرفتي، وأعود إلى الوراء، وأتساءلُ مجدَّدًا، ما الذي كنتُ أريد أن أقوله آنذاك وأنا ببضرابين، لنفسي الآن وأنا بمسقط. هل هي أرواحٌ سابقة، وأجسادٌ لاحقة، وبينهما يقف الدَّهرُ ساعةً من الزَّمان؟
اِقترحت علينا وزارة الإعلام في جولةٍ سياحيَّةٍ للخروجِ إلى مدينة نزوى، التي تبعد عن مسقط بمسافةِ ساعتين تقريبا، وبالتَّأكيد، لا أحد يعجز عن ردِّ هذا الاقتراح، فلا تُعدُّ نزوى فقط، حاملة للمعاني، وطويَّةً للذَّوات العارفة، وإنَّما أيضًا تلك التي حملت أحلامَنا في اِسمها، وكتاباتِنا في حروفها، وعُقُولَنا في تاريخِها. كان في سماء بيضةِ الإسلام الزَّرقاء الفاتنة، في شيءٍ من العُشب الذي يفوحُ عطرُه تحت أثر الشَّمس اللَّافحة، في قلعتها المهيبة، في أدراجها الضَّيِّقة، وأبوابها المتحصِّنة بالمَنَعَة والتَّمنُّع، ما ذكَّرني، على حينِ ذلك، بالقيروان، رابعةِ الثَّلاث، وأمِّ قرى الأطلس ببلاد المغرب الكبير. ورحتُ أستذكر في خاطري، بنَ عبداللَّه الصَّنعاني، دفينَ القيروان، هذا المهندسُ المعماريُّ العربيُّ الذي اختطَّ جامع قرطبة وجامع سرقسطة الكبير، قد كان له بالقيروان أن جعلَها مسكنًا يذكِّره كلَّ صباحٍ بالبيضة الأولى من هذه البلاد الواسعة الأرجاء.
وكأنِّ نفسي بين ذاك الزَّمان من عهد شبابِها وهذا، ما هو بين القيروان من عهد الأوائلِ ونزوى. تقاطعٌ بين مدينتينِ على بعد المسافةِ بينهما، يهوِّن عليَّ تقاطعَ نفسي على بعد الزَّمان وأمدِه. فعجبًا من مُدنِ، تتقمَّصُ ذواتَنا، وتتمثَّل بخيالاتِنا، وتتوسَّم من أنفُسِنا ما بها من همَّةِ التَّاريخ وبيان العزيمة وعظمة الماضي وتكليف الإرثِ أصحابَهُ بعدالةٍ تقامُ، والعلمِ أولياءَهُ بقسطٍ مُستَوفى، ثمَّ تصبحُ لنا صورةَ العهد الذي نمضي فيهِ بمجلَّةٍ كتَّابًا وشعراء ومفكِّرين.
- في تعقيبي عن النَّدوة التي جمعت كلًّا من أحمد البرقاوي، وأحمد المديني، وفاطمة الشِّيدي وعبدالرَّحمن المسكري ومنى حبراس:
إنَّ تقييم مجلة نزوى لا سيما بعد مرور ثلاثين عامًا في وقتٍ وجيزٍ لهو أمرٌ صعبٌ جدًّا، نظرًا للزَّخم المعرفي الكبير الذي عرفته هذه المجلَّة وتميَّزت به. ولكن انطلاقًا من مختلف المداخلات، عملت على صياغة تعقيبٍ أحاول أن أبسطهُ أمام ذلك الإطار النَّظري الذي أسَّست له نزوى كمرجعيَّة قبل انطلاقها.
إنَّ القراءة التي قدَّمتُها ملخِّصًا بها تدخُّل زملائي تشير تاريخيًّا وإحصائيًّا إلى أنَّ النَّثر العماني مثَّل صُلب اهتمام مجلَّة نزوى منذ بداياتها الأولى، ممَّا جعلها تُحقِّقُ جزءًا متينًا من حداثة أدبيَّة انتقلت بشكلٍ مقصودٍ وفي نظرةٍ أوسع إلى تحديد المنطلق النَّظري. فالنُّصوص السَّرديَّة العمانيَّة ونقدها هي مرايا متقابلة رُفعت بين طيَّات المجلَّة انطلاقًا من مختلف مقاربات التُّراث السَّردي في صيغة تحديثيَّة مستخدمةً المصطلحات السَّرديَّة الجديدة، وهو ما سمَّاه بتحديث الأصيل وتأصيل الحديث.
وفي قراءةٍ تقف على الضِّفة الأخرى من النَّثر، تمَّت الإشارةُ إلى اهتمام عميقٍ بالتُّراث الشِّعري لدى مجلَّة نزوى، وجعل ذلك على منوال الدِّراسات المنهجيَّة مجالًا خاضعًا للقراءة الحديثة لا سيما فيما له علاقة بمختلف المقاربات التي نجد من بينها المقاربة المقارنة، والمقاربة البينيَّة التي تعتمدُ على فرضيَّة الطَّبيعيات والشِّعر. وعلى الوجه نفسه، وفي قراءة بنيويَّة، فإنَّ نزوى كسَّرت طوق العزلة العميقة عن رقبة المخيال الشِّعري ببناءاته الجديدة كقصيدة النَّثر مثلًا، وفتحت الأبواب لهذا النَّوع من الإبداع الشِّعري.
ولا يدلُّ هذا عن قطيعة مع الشِّعر الكلاسيكي، وإنَّما هو انتقالٌ بالإبداع إلى مرحلة مختلفة حيث سمحت نزوى بكتابة الذَّات المتشكِّلة في مرحلتها الجديدة، وفتحت حقًّا نافذة كبيرةً ليكون بإمكان المثقَّف العربي أن يقول «أنا» بعيدًا عن الآخر وتأثيراته وسلطته العنيفة. ولا يعني ذلك بالأساس أنَّ المجلَّة قامت بإلغاء الآخر، بل جعلت من التَّرجمة مجالا للاعتراف به على نحوٍ واعٍ.
وليس الاعتراف هو القيمة الوحيدة التي حقَّقت نزوى انتقالَها له، وإنَّما انتقلت نزوى أيضًا من المعرفة إلى التَّعريف والتَّعارف والمعروف والعرفان والتَّعرف.
ويتجلَّى هذا الانتقال كموضوع مشترك بين المداخلات في أنَّ المجلَّة قد صاغت إطارها النَّظري نهاية سنوات التِّسعينيات، أي وهي على مشارف نهاية قرنٍ وألفيَّةٍ، وبداية قرنٍ آخر وألفيَّةٍ أخرى. فتكون عن وعيٍ أو لاوعيٍ على رغبة جامحة في الانتقال بالثقافة العمانيَّة زمنيًّا، وثقافيًّا وفكريًّا، وجغرافيًّا من خلال تنقُّلها عبر مختلف أقطار الأرض.
ولا تكمن قيمة الانتقال كمشروعٍ لنزوى في هذا فحسب، وإنَّما في انفتاحها على المجتمع العماني والعربي أيضًا، بما يسع فضاء الإنسانيَّة الأرحب. وهي بذلك، تسهم في تقديم المعرفة للمجتمع لغرض التَّقدُّم به على نحوٍ أرقى وأعمق.
وإذا كان لصيغة الانتقال الميزة التي اجتمع عليها المتدخِّلون، فإنَّ استنتاجي للنَّدوة الأولى يجعلني أربط شخصيَّة المجلَّة روحيًّا بشخصيَّة رئيس تحريرها الأستاذ سيف الرَّحبي، فلقد اصطبغت المجلَّة في تعدّدها وانفتاحها بالتَّعدُّدية نفسها التي يتميَّز بها سيف الرَّحبي. فلقد اجتمعت فيه سيرةُ المتنقِّل عبر الأمصار والأقطار ثمَّ انتقلت به إلى فضاء التَّعقُّل الذي أفضى إلى إنجازٍ مجلَّة بحجمٍ عَالَمٍ كامل، بما يفي ذلك ممَّا قالته العرب: العلم علمُ أقدامٍ وليس علم أقلام.
اعترتني في لحظةٍ خاطفةٍ كالطَّير تلك، وحينٍ بارقٍ كالرَّعد ذاك، دهشةٌ أخَّاذة للمشاعر والأحاسيس والأنفس. فما وجدتُنِي إلا وقد تنحَّيتُ عن الطَّريق، وأوقفت محرِّك السَّيَّارة بعد أن ركنتها جانبًا، وبدأت ألتقط أنفاسي وأنا أتفقَّد الصُّورة على مهلٍ مخلوطٍ بقلق، وأملٍ ممزوجٍ بحزن.
لم أكن أتصوَّرُ يومًا أنَّ رسالةً من ذلك الماضي البعيد ستقطع كلَّ هذا الزَّمن لتعود إليَّ من جديد. كأنَّما لو أنَّها خطاب ملفوف كسيجارةٍ على نفسه وقد أُدخلَ عنق زجاجةٍ قبل أن يُحكموا الإغلاق، ليُلقَى وسط المحيطات، باحثًا، كما تريدُ له الأقدار وتشاءُ له الصُّدَفُ، عن ساحلٍ يرتمي بين أحضانه ارتماءَ شقيٍّ أنهكه ظلمُ الزَّمان.
توسَّعت حدقَةُ عينيَّ لتُفتِّشَ عنِّي في تلك السُّطور، لحظَة كتابَتِها أوَّل مرَّة، وأنا أراسل من خلالها للمرَّة الأولى الأستاذ سيف الرَّحبي ملتمسًا منه نشر قصائدي البضرابينيَّة (نسبةً إلى بضرابين، مسقط رأسي). وما لبثتُ أقرأ الرِّسالة فقرةً فقرةً، وأطالع فيها شأني تلك الأيَّام، إلا ورأيتَني قد عادت بي الرِّسالةُ إلى الأيَّام الخوالي، الأوائل منها والتَّوالي.
في تسعينيات القرن الماضي، كنَّا نجتمعُ بعد كلِّ عصرٍ بمقاهي المشور، بمكانٍ يقع قرب قلعة بني زيَّان التي حكم أصحابُها تلمسان، والتي انتدبت نفسَها عاصمَةً للمغرب الأوسط. كان ذلك السُّور العظيم يحيطنا كلَّ مساء بمناعةٍ حضاريَّة فائقة، ومنعةٍ نفسيَّة رائقة، فنسترخي على الكراسي تحت شجر الدَّلب الأخضر اليانع، وأغصانه الوارفة الظَّليلة، نتقصَّى جغرافيا الخاطر المرتاح، وننأى فيه بأنفسنا المنهكة، فنرتشفُ كؤوس الشَّاي المُعَطَّرةِ بالنَّعناع، ونتقاسمُ حبَّات المْبَسَّسْ (أُكلاتٌ مغاربيَّة تعرض على أطباق العشيَّات)، ثمَّ نتطلَّع إلى كتبٍ تأتي يُمنةً ويُسرَة، لعلَّنا نفرُّ بعقولِنا من تلك المحاضرات الأكاديميَّة بالجامعة، والأطر المعرفيَّة المقنَّنة بفعل التَّقاليد السِّياسيَّة والأعراف.
لم نكن حينها، والكتب ذاتُ الفكر المختلف تفدُ إلينَا، إلَّا في صهيلٍ جامحٍ بالشَّباب، نتقاطع ونختلف، ونتوافقُ ونأتلف، ونناقشُ فكرًا نحسبُهُ أكبر منَّا، وثقافاتٍ نراها أوسع وآدابًا أجلَّ وفنونًا أكثرَ تمكينًا للنَّفس وعلومًا أوفى.
كنَّا نجتمعُ من حدبِ كلِّ تخصُّصٍ وصوب، من القانون، والفلسفة، واللُّغات الأجنبيَّة، والآداب، والتَّاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم النَّفس، ومن الفنون، والموسيقى، والسِّينما، لنتناقش في جوٍّ من الحرِّيَّة الذي وفَّرته آنذاك المدن الجزائريَّة، بعيدًا عن القرى التي رزحت تحت وطأة العنفِ، وما آلت إليه الأوضاع من خوفٍ وهلعٍ وتدمير. كنَّا نتعلَّم في نقاشاتنا روح التَّخصُّصات المتعدِّدة، ووسائل التَّعبير المختلفة، نقرأ الشِّعر، ونناقش الفلسفة، ونتفرَّغ للنَّفس، ونتفهَّم المجتمعات، ونتحدَّث عن الحبِّ، والحُزنِ والنِّهايات.
وفي تلك المرحلة بالذَّات، وقعت بين أيدينا مجلَّة نزوى، كما تقعُ تُفَّاحةً أعلى الشَّجرة، فتقَّلبت بينَنا كقطعةٍ معدنيَّة ذهبيَّةٍ قديمةٍ عثَر عليها طفلٌ وهو يتفحَّصُ جرارَ بابل المتبعثرة، أو كجنٍّ مُتَفتِّحِ الخاطرِ يبحثُ، بين المنازلِ المختلفة الألوان، عن هوسٍ جديد.
كذاك الاختلاف الذي كنَّا فيه، توسَّعت المجلَّة بحسب راياتنا التي لم تكن أبدًا واحدة، فماثلَتِ المجلَّة الأنفُس، وتماثلت الأرواح، وامتثلتِ النِّيَّاتُ، وتمثَّلَ العقلُ في أبهى ما يمكن أن يكون عليهِ من صورة، لا يبتغيها إلا من هو على خطى المثال الأفلاطونيّ.
وهل يسَعُنا شيءٌ ونحن في تلك التَّقاطعاتُ إلَّا أن نسكنَ نقطةً واحدة، نقطةَ نزوى التي لا تبرح مكانَها مركزًا في الدِّين والثَّقافة والتَّاريخ؟
كان سيف الرَّحبي، قائدُ الجوقةِ الأوَّل، في هذه السمفونيَّة المدهشة، يجرُّ خيالنا، الواحد تلو الآخر، إلى معبدِ باخوس الوثني، لنقرأ، على نخبِ حرَّاس المتوسِّط وأوليائه الأوفياء، نصَّه الصَّحراويَّ الذي يمجِّدُ فيه عرينَ الأبديَّة. لم نتبيَّن من تلك البيانات الأولى، إن كان رئيسَ تحرير، أم شاعرًا، أم كاتبًا يصادرُ الفضاءات، كأنَّه يجعلها تهيم به حبًّا، فتجثو على رُكبَتيها خالدةً بجمالها اللُّغوي. بل كان هو الآخر، نقطةً مضيئةً على رأس القاطرةِ، يُخلِي سبيلَ السِّكَكِ الحديديَّة، ليتدرَّجَ عليها السَّالكون إلى غاياتهم، والمريدون إلى أقطابِهم، والنَّاجون بأنفسِهِم إلى الخلاصِ الجميل.
اِكتشافٌ قطع على نفسي آنذاك عهدًا بأن يبقى على حاله إلى آخر الحياة، يحفظُ شبابي، ويمنع عن مائهِ الرَّكود، ولا يسوقُ إليه إلا ينابيعَ الجبال العالية.
مرَّت، بعد ذلك، أشهرٌ عديدةٌ، حتَّى طالعتني لأوَّل مرَّة بمزرعة جدِّي النَّائية مجلَّة نزوى في عددها الثَّاني والعشرين، وقد أخبرتني العائلة بوصولها، ارتجفت يداي وهي تمسك بأوَّل نافذةٍ في التَّاريخ، ورُحتُ أقلِّب في صفحاتها باحثًا عن نصِّي الشِّعريّ الذي يحمل عنوان «احتفالُ التَّعَبْ»:
- تَعِبْتُ مِنْ صَدِيحِ قَلْبٍ لاَ يَرِقُّ / مِنْ غُبَارٍ تَشَظَّى فِي الكَلاَمِ المُسْتَحِيلِ / مِنْ عُيُونِ عَاشِقٍ خَاسِرَةٍ
جَفَّتْ عَلَى وِسَادَةٍ تَخُونُهَا كُلَّ مَسَاءٍ / مِنْ خُطْوَةٍ لاَ تَكْبُرُ / وَلاَ تَمُوتُ.
- تَعِبْتُ مِنْ وَجْهِي الغَرِيبِ دَائِمًا / وَمِنْ سُكُوتِي، وَتَفَاهَتِي / وَمِنْ ذُبَابَةٍ تَحُطُّ فِي صَفْحَةِ أَيَّامِي وَلاَ تَطِيرْ/ مِنْ سِتَارِ فَرْحَتِي الذَّي لَمْ تَرْتَدِيهِ شَمْسُ أَسْرَارِي / وَأَنْتِ تَرْتَمِينَ فِي فِرَاشِ حَضْرَتِي / ذَاكِرَةً قَتِيلَةً / وَدَمْعَةً لِكُلِّ أَقْمَارِي.
- تَعِبْتُ مِنْ صَبَاحٍ لاَ يَقُولُ أَشْهَى مِنْ سُكُوتِهِ السَّدِيميِّ / وَمِنْ عُصْفُورَةٍ تَرَاكَمَتْ فِي عُشِّ غَفْوَتِي / وَغَنَّتْ فِي مَقَابِرِ النُّعَاسِ / مِنْ يَقْظَتِي الحُبْلَى خَسَارَاتٍ،/ وَمِنْ فِنْجَانِ بَرْنَامَجِ يَوْمِي / وَجَرِيدَةِ الخَرَابِ/ مِنْ قِطَّةٍ كَسُولَةٍ تَجُرُّ ذَيْلَ حُجْرَتِي وَلاَ تَمُوءُ/ تَتْرُكُ ظُفْرَهَا بِعَتْبَةِ البِسَاط، كَيْ تَعُود / بِعَاشِقٍ مُسَالِمٍ / أَوْ بِفَرِيسَةِ النَّهَارِ.
- تَعِبْتُ مِنْ نَافِذَةٍ تَفْتَرِسُ الحُلْمَ / وَمِنْ سَرِيرِ جُرْحِي مُسْتَبَاحٍ لِجَسَارَةِ الأَلَم / وَبائِعِ الأسْرَارِ / وَضْوْءِ خَافِتٍ يَمُوتُ فِي زِنْدَيْكِ / يَنْحَنِي هُدُوءًا / لِقَبَائِلِ الجَسَدِ / وَحَارِسِ الأَخْبَارِ.
- تَعِبْتُ مِنْ وَرَّاقَةٍ أَكْتُبُهَا كُلَّ مَسَاءْ / مِنْ مَكْتَبٍ مُصَادَرٍ / مِنْ شُعْلَةٍ أُنْثَى تَلُوحُ فِي حَيَاء / مِنْ لَفْظَةٍ أُضِيفُهَا لمَجْلِسِ العَائِلَةِ الفَصْلِيَّةِ / مِنْ قُبْلَةٍ بَارِدَةٍ / تَقْتَاتُ مِنْ سِيجَارَةٍ مُطْفَأَةٍ في مَرْمَدِ انْتِحَارِي.
- تَعِبْتُ مِنْ محْفَظَةِ الأَشْغَالِ أُلْقِيهَا عَلَى فَخْذِ حَبِيبَةٍ حَزِينَةٍ / وَأَدْعُوهَا لحَمَّامٍ خَفِيفٍ / كَيْ يَرُشَّهَا بِرَغْوَةِ الخِيَانَةِ اليَوْمِيَّةِ المُخَادِعُ الذِّي يَبِيتُ في عُيُوني بِزُجَاجَةِ النَّبِيذِ... ثَمَّ أَغْتَالُ خُطَاهُ../ وَأَحْتَسِي عِنْدَ عَشَائِي خُطْبَةَ عِشْقٍ / أُعْلِنُ احْتِفَاءَةً بأَبْلَغِ الأَشْعَارِ.
- تَعِبْتُ مِنْ شَوَارعِ الكَلاَمِ / مِنْ كُلِّ الذِّي كَانَ وَمَا كَانَ / وَمِنْ لَيْلَةِ عُمْرِي / وَضُحَى أَسْفَارِي/ وَمِنْ مَدِينَةِ السَّرَابِ / وَمَا تَبَقَّى مِنْ قُرَى هَذَا النَّهَارِ.
كان هذا النَّصُّ الذي تتبدَّى فيه أتعابُ شابٍّ مرهونٍ بواقعٍ أليمٍ جرَّاء أحداث التِّسعينيات بالجزائر أوَّل إطلالةٍ منِّي على العالم، منحني، حينَها، الإحساسَ بأنَّني كاتبٌ عظيمٌ، ووارثُ الدُّنيا، وشاغلُ النَّاسَ، وقاطعٌ قولَ كلِّ خطيب. وإذا كان هذا الإحساسُ، بذلك العمرِ، ليس سوى وهمَ شبابٍ عابرٍ، فإنَّه بذلك العهد، كان يكفي، لأحيطَ العالم وأقطعَهُ بنَفَسِ مبتهِجٍ واحد.
في ذاك العدد، نشرتُ إلى جانب عبدالرَّحمن منيف، محمود درويش، علي حرب، ألبير قصيري، عبداللَّطيف اللعبي، إبراهيم نصر الله، هاشم صالح، علي المقري، عبداللَّه الحرَّاصي، عبدالله خليفة، وحيد الطَّويلة، خليل الشّيخ، نوري الجرَّاح، خليل النَّعيمي، سلوى النَّعيمي، عبدالله البلوشي، فاطمة الشِّيدي، طالب المعمري، وكثيرين ممَّن توشَّحت بهم ثقافة ذلك الجيل العربيَّة.
كشفت عمانُ، شيئًا فشيئًا، عن وجهها لي، وبدأت تقتربُ كسفينةٍ خالدةٍ إلى روحي، نصوصُها، أسفارُها، كتَّابُها، شعراؤها، عمرانُها وصحراؤها، قبائلُ من الثَّقافات تجيشُ بركبانها على زاويةٍ في المطلقِ البهيج.
أمَّا هذا الشَّاعرُ، فقد تمثَّل لي، وهو يساريُّ المحرِّرين، كمونديلَّا الشُّعراء، مناضلُ الكلمةِ المبدعةِ في رواقِ قوافيها وخوذِ رويِّها. كانت لِيَدِه بغُمدِهَا الطَّويل في النَّفسِ ندَا سماءٍ مسجَّاةٍ فوقَ الأمطار، وممدودةٍ على سريرٍ موثورٍ بجميل الأقدار، وكنت أسائلُ نفسي، أَيُقدَّرُ عليَّ أن يأخذ بيدي سيفُ الرَّحبي، لينشرَ لي، أنا ذلك المنفيُّ في أقاصي التَّاريخ بهذا المكان؟؟ وزادني، بعد هذه الثَّلاثينيَّة الماراطونيَّة، أن رأيتُ اليومَ بمسقط، لأوَّل مرةٍ، في ذلك الاحتفاء، أقراني، ممَّن وُلِدُوا مثلي في هذا الجيلِ النَّزويِّ، فأدركتُ أنَّني لم أكن وحدي، وإنَّما جيلٌ كاملٌ ممَّن وجدوا فيه، الشَّيخَ الباسطَ زَرَابِيهِ للمريدين.
وإذا كان لي، من ذلك، عهدُ الرِّباطِ، أن أنشرَ بنزوى، طالبَ ليسانس وماجستير بتلمسان، ثمَّ طالبَ دبلوم دراساتٍ معمَّقةٍ ودكتوراة ببوردو، ثمَّ أستاذًا باحثًا بباريس ومحاضرًا فيها، فإنَّ أقلَّ ما يُقال، عن هذا الرِّباطِ، أنَّه لم يكن مقدَّسًا فحسب، بل كان أيضًا اتِّحادًا روحيًّا جمع السَّاري بأوَّل نجمةٍ قادتْهُ إلى بيتهِ في المُطْلَقَين: مطلَقِ المكان ومُطلَقِ الزَّمان.
بعد فراغي من قراءةِ الرِّسالة التي أرسلتني إيَّاها الرِّوائيَّة هدى حمد، نظرتُ حيث التَّوقيع، مزرعة بضرابين وتاريخ 19 ديسمبر 1998، فإذا به المكانُ مكانُ مولدي والزَّمان نفسُه زمانُ ذلك. فلمَ يا تُرى، أكتبُ رسالةً عيدَ ميلادي الثَّالث والعشرين ببضرابين، أهُوَ احتفاءٌ بتجدُّدِ عهد أم هو بكاءٌ على ما مضى، أم هي رسالةٌ أرسلُها لنفسي بعد مرور خمسٍ وعشرين سنة من الآن؟
ها إنَّني أدخل الفندقَ الآن منهكًا، بعدما شاركت الأصدقاء النَّدوة الأولى معقِّبًا، لثلاثينيَّة نزوى، مبتهجًا باللِّقاء وحزينًا بعد مضيِّ هذا العمر، أتقاطع مع نفسي على سرير غرفتي، وأعود إلى الوراء، وأتساءلُ مجدَّدًا، ما الذي كنتُ أريد أن أقوله آنذاك وأنا ببضرابين، لنفسي الآن وأنا بمسقط. هل هي أرواحٌ سابقة، وأجسادٌ لاحقة، وبينهما يقف الدَّهرُ ساعةً من الزَّمان؟
اِقترحت علينا وزارة الإعلام في جولةٍ سياحيَّةٍ للخروجِ إلى مدينة نزوى، التي تبعد عن مسقط بمسافةِ ساعتين تقريبا، وبالتَّأكيد، لا أحد يعجز عن ردِّ هذا الاقتراح، فلا تُعدُّ نزوى فقط، حاملة للمعاني، وطويَّةً للذَّوات العارفة، وإنَّما أيضًا تلك التي حملت أحلامَنا في اِسمها، وكتاباتِنا في حروفها، وعُقُولَنا في تاريخِها. كان في سماء بيضةِ الإسلام الزَّرقاء الفاتنة، في شيءٍ من العُشب الذي يفوحُ عطرُه تحت أثر الشَّمس اللَّافحة، في قلعتها المهيبة، في أدراجها الضَّيِّقة، وأبوابها المتحصِّنة بالمَنَعَة والتَّمنُّع، ما ذكَّرني، على حينِ ذلك، بالقيروان، رابعةِ الثَّلاث، وأمِّ قرى الأطلس ببلاد المغرب الكبير. ورحتُ أستذكر في خاطري، بنَ عبداللَّه الصَّنعاني، دفينَ القيروان، هذا المهندسُ المعماريُّ العربيُّ الذي اختطَّ جامع قرطبة وجامع سرقسطة الكبير، قد كان له بالقيروان أن جعلَها مسكنًا يذكِّره كلَّ صباحٍ بالبيضة الأولى من هذه البلاد الواسعة الأرجاء.
وكأنِّ نفسي بين ذاك الزَّمان من عهد شبابِها وهذا، ما هو بين القيروان من عهد الأوائلِ ونزوى. تقاطعٌ بين مدينتينِ على بعد المسافةِ بينهما، يهوِّن عليَّ تقاطعَ نفسي على بعد الزَّمان وأمدِه. فعجبًا من مُدنِ، تتقمَّصُ ذواتَنا، وتتمثَّل بخيالاتِنا، وتتوسَّم من أنفُسِنا ما بها من همَّةِ التَّاريخ وبيان العزيمة وعظمة الماضي وتكليف الإرثِ أصحابَهُ بعدالةٍ تقامُ، والعلمِ أولياءَهُ بقسطٍ مُستَوفى، ثمَّ تصبحُ لنا صورةَ العهد الذي نمضي فيهِ بمجلَّةٍ كتَّابًا وشعراء ومفكِّرين.
- في تعقيبي عن النَّدوة التي جمعت كلًّا من أحمد البرقاوي، وأحمد المديني، وفاطمة الشِّيدي وعبدالرَّحمن المسكري ومنى حبراس:
إنَّ تقييم مجلة نزوى لا سيما بعد مرور ثلاثين عامًا في وقتٍ وجيزٍ لهو أمرٌ صعبٌ جدًّا، نظرًا للزَّخم المعرفي الكبير الذي عرفته هذه المجلَّة وتميَّزت به. ولكن انطلاقًا من مختلف المداخلات، عملت على صياغة تعقيبٍ أحاول أن أبسطهُ أمام ذلك الإطار النَّظري الذي أسَّست له نزوى كمرجعيَّة قبل انطلاقها.
إنَّ القراءة التي قدَّمتُها ملخِّصًا بها تدخُّل زملائي تشير تاريخيًّا وإحصائيًّا إلى أنَّ النَّثر العماني مثَّل صُلب اهتمام مجلَّة نزوى منذ بداياتها الأولى، ممَّا جعلها تُحقِّقُ جزءًا متينًا من حداثة أدبيَّة انتقلت بشكلٍ مقصودٍ وفي نظرةٍ أوسع إلى تحديد المنطلق النَّظري. فالنُّصوص السَّرديَّة العمانيَّة ونقدها هي مرايا متقابلة رُفعت بين طيَّات المجلَّة انطلاقًا من مختلف مقاربات التُّراث السَّردي في صيغة تحديثيَّة مستخدمةً المصطلحات السَّرديَّة الجديدة، وهو ما سمَّاه بتحديث الأصيل وتأصيل الحديث.
وفي قراءةٍ تقف على الضِّفة الأخرى من النَّثر، تمَّت الإشارةُ إلى اهتمام عميقٍ بالتُّراث الشِّعري لدى مجلَّة نزوى، وجعل ذلك على منوال الدِّراسات المنهجيَّة مجالًا خاضعًا للقراءة الحديثة لا سيما فيما له علاقة بمختلف المقاربات التي نجد من بينها المقاربة المقارنة، والمقاربة البينيَّة التي تعتمدُ على فرضيَّة الطَّبيعيات والشِّعر. وعلى الوجه نفسه، وفي قراءة بنيويَّة، فإنَّ نزوى كسَّرت طوق العزلة العميقة عن رقبة المخيال الشِّعري ببناءاته الجديدة كقصيدة النَّثر مثلًا، وفتحت الأبواب لهذا النَّوع من الإبداع الشِّعري.
ولا يدلُّ هذا عن قطيعة مع الشِّعر الكلاسيكي، وإنَّما هو انتقالٌ بالإبداع إلى مرحلة مختلفة حيث سمحت نزوى بكتابة الذَّات المتشكِّلة في مرحلتها الجديدة، وفتحت حقًّا نافذة كبيرةً ليكون بإمكان المثقَّف العربي أن يقول «أنا» بعيدًا عن الآخر وتأثيراته وسلطته العنيفة. ولا يعني ذلك بالأساس أنَّ المجلَّة قامت بإلغاء الآخر، بل جعلت من التَّرجمة مجالا للاعتراف به على نحوٍ واعٍ.
وليس الاعتراف هو القيمة الوحيدة التي حقَّقت نزوى انتقالَها له، وإنَّما انتقلت نزوى أيضًا من المعرفة إلى التَّعريف والتَّعارف والمعروف والعرفان والتَّعرف.
ويتجلَّى هذا الانتقال كموضوع مشترك بين المداخلات في أنَّ المجلَّة قد صاغت إطارها النَّظري نهاية سنوات التِّسعينيات، أي وهي على مشارف نهاية قرنٍ وألفيَّةٍ، وبداية قرنٍ آخر وألفيَّةٍ أخرى. فتكون عن وعيٍ أو لاوعيٍ على رغبة جامحة في الانتقال بالثقافة العمانيَّة زمنيًّا، وثقافيًّا وفكريًّا، وجغرافيًّا من خلال تنقُّلها عبر مختلف أقطار الأرض.
ولا تكمن قيمة الانتقال كمشروعٍ لنزوى في هذا فحسب، وإنَّما في انفتاحها على المجتمع العماني والعربي أيضًا، بما يسع فضاء الإنسانيَّة الأرحب. وهي بذلك، تسهم في تقديم المعرفة للمجتمع لغرض التَّقدُّم به على نحوٍ أرقى وأعمق.
وإذا كان لصيغة الانتقال الميزة التي اجتمع عليها المتدخِّلون، فإنَّ استنتاجي للنَّدوة الأولى يجعلني أربط شخصيَّة المجلَّة روحيًّا بشخصيَّة رئيس تحريرها الأستاذ سيف الرَّحبي، فلقد اصطبغت المجلَّة في تعدّدها وانفتاحها بالتَّعدُّدية نفسها التي يتميَّز بها سيف الرَّحبي. فلقد اجتمعت فيه سيرةُ المتنقِّل عبر الأمصار والأقطار ثمَّ انتقلت به إلى فضاء التَّعقُّل الذي أفضى إلى إنجازٍ مجلَّة بحجمٍ عَالَمٍ كامل، بما يفي ذلك ممَّا قالته العرب: العلم علمُ أقدامٍ وليس علم أقلام.