أفكار وآراء

القياس الخاطئ للفساد يتيح الإفلات من العقاب

أفاد تقرير اللجنة المعنية بقياس الأداء الاقتصادي لعام 2008 أنه في مجتمع يزداد تركيزًا على الأداء، تشكل المقاييس أهميةً كبيرةً؛ وأن ما نقيسه يؤثر على ما نقوم به. فإذا أخطأنا في القياس، سنخطئ في مساعينا.

وكانت اللجنة ترفض أن يكون الناتج المحلي الإجمالي المقياس الرئيسي للتنمية. وترفض أن يكون الفساد، الذي عادة ما يُقاس -وبصورة مضللة- على أنه مشكلة ذات بعد واحد. إن مؤشرات الفساد العالمية، بما في ذلك مؤشر مدركات الفساد التابع لمنظمة الشفافية الدولية ومؤشر مكافحة الفساد التابع للبنك الدولي، تقيم كل بلد على أساس درجة واحدة. ودائمًا ما تُظهر هذه المقاييس أن الدول الغنية «نظيفة جدًا» في حين أن الدول الفقيرة «فاسدة للغاية». فعلى سبيل المثال، يصنف مؤشر مدركات الفساد لعام 2023 المملكة المتحدة (التي سجلت 71 نقطة) في المرتبة العشرين بين الدول الأقل فسادا في العالم، وهي بذلك أنظف بكثير من الصين (42) والبرازيل (36). ويفسر معظم مستخدمي مؤشر مدركات الفساد، بما في ذلك وسائل الإعلام والشركات والمحللين، هذه الأرقام على أنها معلومات وقائعية. ولكن هل أن البلدان الأكثر ثراءً أقل فسادًا حقًا من البلدان الأشد فقرًا؟ إن المقاييس الأحادية البعد مثل مؤشر مدركات الفساد تحجب حقيقة مفادها أن أنواع الفساد المختلفة نوعيًا لا يمكن اختزالها في درجة واحدة. وتخطئ هذه المقاييس بصورة منهجية في تقييم ما أسميه «فساد الأغنياء»ــ الذي غالبًا ما تُضفى عليه الشرعية، والطابع المؤسسي؛ ويلفه الغموض من الناحية الأخلاقية مقارنة مع «فساد الفقراء». ومن الواضح أن الفساد في البلدان الفقيرة يتخذ أشكالاً غير قانونية وفظيعة، نحو سرقة الأموال العامة وأخذ الرشاوى. وعلى النقيض من ذلك، يعتقد كثيرون في الدول الغنية أن هذه المشكلة قد اختفت لديهم، إلى درجة أن ألينا مونغوي بيبيدي استنتجت في كتابها «In the Quest for Good Governance» أن الاقتصادات المتقدمة امتثلت امتثالًا كاملًا لمبدأ «العالمية الأخلاقية»، الذي بموجبه «يُعامل الجميع بالتساوي». وتُعَد بريطانيا «النموذج المثالي الذي حقق إنجازًا تاريخيًا» في هذا الصدد، تليها «شظايا الإمبراطورية البريطانية التي ينحدر أغلب سكانها من أصول أوروبية». وباختصار، الغرب الغني نظيف. ولكن نظرًا للصعود الراهن للشعبوية في الديمقراطيات المرتفعة الدخل، الذي يعتبر جزءًا كبيرًا منه رد فعل عنيف إزاء المزايا المهمة التي يتمتع بها الأثرياء وأصحاب النفوذ السياسي، فإن «العالمية الأخلاقية» تبدو وهمية أكثر من كونها حقيقيةً. وكشف تقرير لاذع نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في عام 2020، أن نصف عقود حكومة المملكة المتحدة للإمدادات الطبية خلال جائحة كوفيد-19 كانت من نصيب «شركات يديرها أصدقاء وشركاء للسياسيين» عن طريق «إجراءات وضعت خصيصًا للتعامل مع الشخصيات المهمة».

كيف إذن صنف مؤشر مدركات الفساد المملكة المتحدة في المرتبة العشرين بين الدول الأقل فسادًا؟ إن النتيجة لا تعتمد على استطلاعات الرأي التي تجريها منظمة الشفافية الدولية على المستوى المحلي، بل على مجموعة من استطلاعات الرأي المختلفة التي تجريها أطراف ثالثة. وتصدر كل هذه التقارير تقريبًا عن منظمات غربية مثل وحدة الاستخبارات الاقتصادية، وهي غالبًا ما تعتمد إلى حد بعيد على ردود رجال الأعمال الغربيين.

وفضلا على ذلك، فإن صياغة هذه الاستطلاعات غالبًا ما تكون غامضة. فعلى سبيل المثال، يقدم الكتاب السنوي للقدرة التنافسية العالمية، وهو أحد مصادر مؤشر مدركات الفساد، لرجال الأعمال خيارًا ثنائيًا بسيطًا: «الرشوة والفساد: إما أنهما موجودان أو غير موجودين». فلا عجب إذن أن يُظهر مؤشر مدركات الفساد أن الدول الغنية «نظيفة للغاية» وذلك عامًا بعد عام، حتى وإن لم يتفق مواطنوها العاديون مع هذا الرأي. ومع إدراكي لعدم وجود بدائل لهذه المقاييس التقليدية، مع أنها تعرضت لانتقادات عديدة (بما في ذلك من منشئ مؤشر مدركات الفساد)، فقد اختبرتُ مؤشر الفساد المجزأ.

وعلى غرار مؤشر مدركات الفساد، فإن مؤشر الفساد المجزأ هو مقياس للفساد قائم على التصورات، ويعتمد على استطلاعات الخبراء. ومع ذلك، فهو يقسم الفساد إلى أربعة أنواع مختلفة: السرقة البسيطة (الابتزاز الذي يقوم به الموظفون الذين يزاولون مهامهم في الشارع)، والسرقة الكبرى (الاختلاس من جانب السياسيين)، وتقديم الأموال لتسريع الإجراءات (تقديم رشاوى صغيرة للتغلب على العقبات البيروقراطية أو المضايقات)، والحصول على الأموال (رشاوى بمبالغ كبيرة في مقابل الحصول على امتيازات حصرية ومربحة مثل العقود والإعانات).

وفي حين أن الأشكال الثلاثة الأولى من الفساد -تلك المستوطنة في البلدان الفقيرة- تنتهك القانون انتهاكًا صارخًا وتسبب أضرارًا مباشرةً، فإن الوصول إلى الأموال قد يكون غير قانوني (شأنه في ذلك شأن الرشوة) أو يتسم بالشرعية (كما هو الحال مع تمويل الحملات الانتخابية). وقد تشمل الأساليب المتطورة لشراء الامتيازات مؤسسات بأكملها لا يوجد فيها أي فرد فاسد.

فعلى سبيل المثال، يمكن لغسل الأموال، أن يشمل نقل الأموال بسلاسة عبر الحدود عن طريق مؤسسات مالية تحظى باحترام واسع النطاق. وفي الولايات المتحدة، أنفقت البنوك بصورة جماعية المليارات لممارسة الضغوط من أجل فرض قيود تنظيمية متراخية، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الأزمة المالية في عام 2008، ومع ذلك وُجهت أصابع الاتهام إلى مصرفي واحد فقط. ويستخدم مؤشر الفساد المجزأ استبيانًا أصليًا للخبراء لتقييم جميع أنواع الفساد الأربعة. ولتحسين جودة القياس، أستخدمُ سيناريوهات قصيرة منمقة أطلب فيها من المجيبين تقييم مدى انتشار سيناريوهات تمثيلية محددة بدلًا من مستويات الفساد الإجمالية. وأوضحت أدناه النموذج الأولي الخاص بي، الذي يشمل 15 دولة. ويَظهر إجمالي نقاط مؤشر الفساد المجزأ لكل دولة في الأعلى، وقُسم إلى فئات الفساد الأربع، ويمثل المربع الملون النوع الأكثر انتشارًا. والآن يمكننا أن نقارن ليس فقط بين المستويات الإجمالية للفساد المتصور، ولكن أيضًا بين أنواع الفساد وبنيتها عبر البلدان.

إن إحدى المقارنات الواضحة هي بين الولايات المتحدة والصين. فالولايات المتحدة أقل فسادًا من الصين عمومًا، ولكن الفجوة بينهما أضيق فيما يتعلق بالوصول إلى المال، وهو نوع الفساد السائد في كلا البلدين. ومن الجدير بالذكر أن درجة القدرة على الوصول إلى المال في أمريكا أعلى من الدول ذات الدخل المنخفض مثل: تايلاند وغانا. وإذا اعتمدنا فقط على النتائج المجمعة، فسوف نَخلُص إلى أن الولايات المتحدة نظيفة. ولكن بمجرد تجزيء النتائج، يمكننا أن نفسر جاذبية الوعود الشعبوية بـ «تجفيف المستنقعات».

إن أكثر ما يثير الاهتمام هو أن أشكالًا مختلفة من الوصول إلى الأموال تسود في الولايات المتحدة والصين. وفي مقارنة مبنية على سيناريو قصير يصور تلقي الرشوة عن طريق الشبكات الشخصية للساسة، تبدو هيمنة الصين واضحة. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بممارسات «الباب الدوار» والاستيلاء التنظيمي عن طريق ممارسة الضغوط، فإن الولايات المتحدة تحتل الصدارة.

إن سوء قياس الفساد ليس مجرد مسألة فنية. فهو في الأساس يعزز الرسالة الوهمية والمنافقة، التي غالبًا ما تركز على أوروبا، والتي مفادها أن البلدان ذات الدخل المرتفع حققت حالة دائمة من النقاء الأخلاقي. والواقع أن الفساد لم يختف بالضرورة مع ازدياد ثراء البلدان، بل تطور، وأصبح أكثر تعقيدًا وزادت صعوبة إدراكه. وعلينا أن نواصل مكافحة «فساد الفقراء». ولكن عن طريق تجزيء الفساد، تستطيع الديمقراطيات الرأسمالية أيضًا توجيه الاهتمام المطلوب بشدة نحو بعض مشاكلها الأكثر إلحاحًا، بما في ذلك اتساع فجوة التفاوت بين الناس، وتراجع ثقة عامة الناس في الحكومة، وما تسميه مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سامانثا باور بـ«الفساد الحديث» (مثل شبكات التمويل غير المشروعة العابرة للحدود الوطنية). ويتطلب التغلب على هذه التحديات قياسها بدقة، بدلا من التظاهر بعدم وجودها.

يوين يوين أنج أستاذة الاقتصاد السياسي بجامعة جونز هوبكنز، ومؤلفة كتاب «كيف أفلتت الصين من فخ الفقر» و«عصر الصين الذهبي».

خدمة بروجيكت سنديكيت