«بابا جه» وآباء غائبون !
الاحد / 13 / رمضان / 1445 هـ - 19:03 - الاحد 24 مارس 2024 19:03
تعرفتُ على الممثل المُذهل روبن ويليامز من خلال أفلام عديدة، لكن أولها كان الفيلم الكوميدي Mrs.Doubtfire، حيث تتجلى صورة الأب -غير المسؤول والعاطل عن العمل- في صورة الأمّ البديلة. وذلك عندما لم يتمكن من رؤية أبنائه بعد حصول زوجته على حق الحضانة بعد الطلاق.
لكن ما إن تعلن الزوجة عن حاجتها لمربية حتى تتجلى أمامه الفرص السانحة لإعادة استقراء ما كان يفوته في صورة الأب السابق، فالتنكر في زي المربية كان يعني أن يرى أدواره غير المنظورة على نحوٍ مُغاير.
تذكرتُ هذا الفيلم وأنا أشاهدُ المسلسل الكوميدي المصري الجديد برفقة عائلتي «بابا جه»، ربما لأنّنا مجددًا أمام صورة الأب غير المبالي وغير المسؤول، والذي يُلقي بحمل الحياة والتربية على زوجته العاملة، إلا أنّه لا يتنكر هاهنا في ثوب امرأة ليلعب دور الأمّ البديلة، وإنّما يلعب دور الآباء الغائبين في صورته الأصلية. والغياب هنا قد يكون غيابًا واقعيًا بسبب الموت الذي يُخلفُ ابنا يتيما، وقد يكون غيابًا واقعيًا بسبب الانغماس في أعمال وانشغالات لا نهائية تفوتُ عليه -أي الأب- أن يعيش لحظات طفولة أبنائه.
ففي كل يوم يذهب هذا الأب ليلعب دور الآباء الغائبين بالإيجار، عقب أن دشّن هو وصديقه صفحة بعنوان «بابا جه»، ليكسر بذلك القوالب القديمة للأفلام والمسلسلات التي تُرينا الحاجة الضرورية والماسة إلى الأمّ البديلة، دون أن ننشغل من قبل بحاجتنا إلى إيجاد بدلاء لآباء غائبين كما أتصور!
ينجحُ المسلسل في صناعة الضحك، وفي صناعة محتوى عائلي بامتياز، حيث يمكنك أن تجلس مع أبنائك الصغار باطمئنان لا يخدش رهافتهم الأولى وهو أمر بات قليلًا ونادرًا في زحام الخيارات وتنوعها. وإلى جوار الضحك فإن المعنى الموارب يصل بخفة وذكاء مدروسيْن دون أن نشعر.
ولأنّ هذا الأب لا يُمثل حالة مثالية، فهو ذاهب لأداء دور أب مأجور، من أجل المال فحسب في ظل أنّه عاطل عن العمل، فإنّ ذلك الفعل الذي يقوم به بشكل اعتباطي، يُعيد ترتيب أمرين في حياته في وقت واحد، الأول: علاقته بابنته التي لم يُحسن يوما معاملتها والتي تُقاسي الإهمال وعدم الرعاية الكافية بتفاصيل حياتها الصغيرة. والأمر الآخر: يُعيد ترتيب علاقته بماضيه؛ لأنّ هذا الأب العاطل غير المسؤول هو نتاج أب آخر صنعه، فقد جعله يعمل لساعات طويلة في طفولته وحرمه من اللعب، ليبقى واقفًا أمام «حلّة الكشري»!
في الحلقة التي يكون فيها الفنان أحمد أمين ضيفًا، نرى ضدين من الأبناء هما نتاج أولئك الآباء. الابن الذي يخوض صراعات لا نهائية في سبيل إخفاء الأب أو لومه، والابن الآخر الذي يعيش على تذكر أبيه؛ لأنّه عبَّأ كل لحظاته بالذكريات الطيبة.
يتأرجحُ الابنان على الأرجوحة ويتحدثان، كما تتأرجح بنا الحياة فتقدم لنا قصصًا لا نهائية لما تضمره العلاقة السوية أو المشوهة بين الطرفين.
الكوميديا ليست أمرًا هشًا، بل من الصلابة بما يكفي لتُرينا تقلبات مصائر الشخصيات في حدتها وخفوتها، فلم يكن الضوء منصبًا على الآباء الغائبين فحسب، بل على تجليات ذلك في الأبناء الذين ظهروا متوحشين ومتنمرين، أو ضعفاء محتاجين إلى العاطفة، أو مدمنين على المخدرات.. فكل الأطفال الذين كانوا يفتقدون وجود الأب في حياتهم لم يكونوا أسوياء بدرجة أو بأخرى.
التركيز المستمر على دور الأمّ المركزي في العائلة، جعلنا نُقلل من حضور الأب في المتن العام للأدب والفن وبالتالي في الحياة الواقعية، ولذا ينبغي استعادة «الأب» بالقوة الكافية ليعتدل الميزان «فما يقوله الأب لأبنائه لا يسمعه العالم بل تسمعه الأجيال القادمة» فنحن في جزء منا انعكاس صافٍ أو مُشوه لصورة آبائنا الذين نُمجدهم أو الذين نرغب في قتلهم بالمعنى المجازي.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
لكن ما إن تعلن الزوجة عن حاجتها لمربية حتى تتجلى أمامه الفرص السانحة لإعادة استقراء ما كان يفوته في صورة الأب السابق، فالتنكر في زي المربية كان يعني أن يرى أدواره غير المنظورة على نحوٍ مُغاير.
تذكرتُ هذا الفيلم وأنا أشاهدُ المسلسل الكوميدي المصري الجديد برفقة عائلتي «بابا جه»، ربما لأنّنا مجددًا أمام صورة الأب غير المبالي وغير المسؤول، والذي يُلقي بحمل الحياة والتربية على زوجته العاملة، إلا أنّه لا يتنكر هاهنا في ثوب امرأة ليلعب دور الأمّ البديلة، وإنّما يلعب دور الآباء الغائبين في صورته الأصلية. والغياب هنا قد يكون غيابًا واقعيًا بسبب الموت الذي يُخلفُ ابنا يتيما، وقد يكون غيابًا واقعيًا بسبب الانغماس في أعمال وانشغالات لا نهائية تفوتُ عليه -أي الأب- أن يعيش لحظات طفولة أبنائه.
ففي كل يوم يذهب هذا الأب ليلعب دور الآباء الغائبين بالإيجار، عقب أن دشّن هو وصديقه صفحة بعنوان «بابا جه»، ليكسر بذلك القوالب القديمة للأفلام والمسلسلات التي تُرينا الحاجة الضرورية والماسة إلى الأمّ البديلة، دون أن ننشغل من قبل بحاجتنا إلى إيجاد بدلاء لآباء غائبين كما أتصور!
ينجحُ المسلسل في صناعة الضحك، وفي صناعة محتوى عائلي بامتياز، حيث يمكنك أن تجلس مع أبنائك الصغار باطمئنان لا يخدش رهافتهم الأولى وهو أمر بات قليلًا ونادرًا في زحام الخيارات وتنوعها. وإلى جوار الضحك فإن المعنى الموارب يصل بخفة وذكاء مدروسيْن دون أن نشعر.
ولأنّ هذا الأب لا يُمثل حالة مثالية، فهو ذاهب لأداء دور أب مأجور، من أجل المال فحسب في ظل أنّه عاطل عن العمل، فإنّ ذلك الفعل الذي يقوم به بشكل اعتباطي، يُعيد ترتيب أمرين في حياته في وقت واحد، الأول: علاقته بابنته التي لم يُحسن يوما معاملتها والتي تُقاسي الإهمال وعدم الرعاية الكافية بتفاصيل حياتها الصغيرة. والأمر الآخر: يُعيد ترتيب علاقته بماضيه؛ لأنّ هذا الأب العاطل غير المسؤول هو نتاج أب آخر صنعه، فقد جعله يعمل لساعات طويلة في طفولته وحرمه من اللعب، ليبقى واقفًا أمام «حلّة الكشري»!
في الحلقة التي يكون فيها الفنان أحمد أمين ضيفًا، نرى ضدين من الأبناء هما نتاج أولئك الآباء. الابن الذي يخوض صراعات لا نهائية في سبيل إخفاء الأب أو لومه، والابن الآخر الذي يعيش على تذكر أبيه؛ لأنّه عبَّأ كل لحظاته بالذكريات الطيبة.
يتأرجحُ الابنان على الأرجوحة ويتحدثان، كما تتأرجح بنا الحياة فتقدم لنا قصصًا لا نهائية لما تضمره العلاقة السوية أو المشوهة بين الطرفين.
الكوميديا ليست أمرًا هشًا، بل من الصلابة بما يكفي لتُرينا تقلبات مصائر الشخصيات في حدتها وخفوتها، فلم يكن الضوء منصبًا على الآباء الغائبين فحسب، بل على تجليات ذلك في الأبناء الذين ظهروا متوحشين ومتنمرين، أو ضعفاء محتاجين إلى العاطفة، أو مدمنين على المخدرات.. فكل الأطفال الذين كانوا يفتقدون وجود الأب في حياتهم لم يكونوا أسوياء بدرجة أو بأخرى.
التركيز المستمر على دور الأمّ المركزي في العائلة، جعلنا نُقلل من حضور الأب في المتن العام للأدب والفن وبالتالي في الحياة الواقعية، ولذا ينبغي استعادة «الأب» بالقوة الكافية ليعتدل الميزان «فما يقوله الأب لأبنائه لا يسمعه العالم بل تسمعه الأجيال القادمة» فنحن في جزء منا انعكاس صافٍ أو مُشوه لصورة آبائنا الذين نُمجدهم أو الذين نرغب في قتلهم بالمعنى المجازي.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى