روضة الصائم

نصوص تاريخية في كتاب الإيجاز

 
أبو بكر أحمد بن محمد بن خليل السيجاني نسبة إلى بلدة سيجا من أعمال سمائل، فقيه عاش في آخر القرن التاسع وأول القرن العاشر الهجري، وأخذ العلم عن صالح بن وضاح المنحي (ت:875هـ). ترك من الآثار كتاب (الإيجاز) الذي ألفه سنة 914هـ كما جاء في مقدمته. والكتاب من قلائل الكتُب التي أُلِّفت في عصره، وهو أيضًا من كتب الجوابات المشحونة بالنوازل الفقهية التي يجيب عنها الفقهاء كلما طرأت مسألة يواجهها العامة أو الخاصة في شؤون حياتهم. وقد بقيت للكتاب نُسَخ مخطوطة في أكثر من قطعة أقدمها نُسخة تحتفظ بها خزانة وقف بني سيف بنزوى، كُتِبت في القرن العاشر الهجري قريبًا من زمان المؤلف بخط الفقيه عمر بن سعيد بن عبدالله بن معد البهلوي.

وعلى النهج ذاته فيما سبق من مقالات فإننا نضرب صفحًا عن موضوع الفقه ونتجه إلى المادة التاريخية والحضارية في كتب التراث. والكتاب لا يختلف كثيرًا عن المجاميع الفقهية في تلك القرون، لكن قد نجد في هذا ما لا نجد في ذاك، ونُمَثِّل لما في كتاب الإيجاز من نصوص تاريخية بما جاء فيه من إشارات إلى حُكّام بني نبهان في العصر المتأخر، وبأمثلة أخرى من شوارد التاريخ الاجتماعي. فمما جاء عن بني نبهان مسألة عن أبي بكر أحمد بن مفرج جاء في أولها قوله: «وسألت عن السيد الأجل كهلان بن نبهان أن أباه أوصى بوصايا في ماله وصية وهو لم يبلغ والأموال متفرقة مغصوبة وشركاؤه يبيعون ولا يقدر على نهيهم ولا يستمعون له، لا هم ولا الذي يشتري، وهم بوصايا أبيهم غير جاهلين، أتجب عليه الوصية في ماله دونهم أم يُخرج الذي يلزمه من نصيبه؟ وهل تتم هذه الوصية؟ الجواب: أما الوصية فهي تامة، وفي توصية غير البالغ اختلاف، فأما على ما وصفت فلا يلزمه إلا ما ينوبه منها إذا كان على ما ذكرت، والله أعلم»، وتشدُّنا هنا عبارة «السيد الأجل» بلسان الفقيه المجيب، ويقابلها ذكر الأموال المتفرقة «المغصوبة»، وهذا يقودنا إلى أمثلة أخرى في الكتاب قد توحي بطبيعة العلاقة بين الفقهاء وسلاطين أو أمراء بني نبهان نحو قول الفقيه أحمد بن مفرج: «سألني السيد المعظم أبو المنصور المظفر بن سليمان دام عزه» في سؤال وجهه أبو المنصور عن الوسيط في الشفعة، فكان جواب ابن مفرج أن رسول الشفيع أو وكيله يقوم مقامه. ومن الأمثلة كذلك في جواب آخر جاء أوله: «سألني السيد الأجل المجاهد لكل معتدٍ دهمان بن شاذان بن عدي»، ومثله قول الفقيه محمد بن سليمان بن أبي سعيد في أول مسألة: «سألني السيد الأجل الأعز الأفضل المخدوم عدي بن حسام». وفي ذكر بني نبهان أيضًا ورد جواب لعبدالله بن مدّاد وولده محمد في أهل الظاهرة يُفهم منه أنه كانوا يُرِجعون أمورهم وأحكامهم إلى الحاكم النبهاني، وفيه ذكر شيخ البدو وشيخ الحضر وأفعالهم من المظالم، وجاء في السؤال: «واليوم الظاهرة فيها ثقات، مثل ضنك فيها الشيخ راشد بن شكر وولده والشيخ دهمان بن ورد».

وفي أبواب الزكاة والمعاملات والأحوال الشخصية أمثلة عديدة على النقود المتداولة والمستعملة في عمان إبان تلك الحقبة، فمن ذلك قول محمد بن علي بن عبدالباقي تعليقًا على جواب في الصداق: «فهذا بمعاملة أهل نزوى ومن ولاها من القرى كمنح وأدم ونخل وغيرها، فأما درهم بهلا فالسبعة آلاف الصداقية البهلانية عن ألف وخمسمائة هرموزي»، ثم ذكر أنه يتبعها بيع بهلا ووادي السحتن وسوني وعيني ووبل وإزكي ومسافيها وسمائل. والحق أن مثل هذا النص يقتضي دراسة ما فيه من اصطلاحات محلية مثل «درهم بهلا» و«البهلانية»، ثم إن حصر هذه البلدان من عُمان في السياق هل يعني أن ما سواها كان الصرف فيها مختلفًا؟

وثمة مسألة في بيوعات الخيار: «في السكك المختلفة في الرباعية والخماسية والسداسية وبأبي ثمانية إذا باع ماله الخيار بالرباعية والخماسية وأراد الفداء بغير الرباعية والخماسية والسداسية، واحتج أن السلطان صاحب هرموز ضرب الرباعية ثم قلبها خماسية ثم قلبها سداسية، والبائع ماله بألف دينار هرموزي رباعية وألف دينار خماسية كل قطعة خمسة أو كل قطعة أربعة..»، ونرى هنا أن فئات النقود قد تكون سُميت بأسماء محلية، وهي نقود هرموزية أشير في النص إلى ضارها باسم «السلطان صاحب هرموز».

ومن القضايا الاجتماعية مسألة رفعت إلى الفقيه أبي القاسم بن محمد بن سليمان عن الأموال التي خلّفها الأقدمون لبناء سور بهلا المحيط بالمدينة أن تلك الأموال تنقل من وارث إلى وارث، والسؤال عن جواز بيعها، ويُفهَم من السياق أن المقصود بانتقالها بين الورّاث ليس على سبيل التملك بل في القيام بها لمصلحة السور، ومما جاء في الجواب: «إن هذه السنّة الإسلامية ثابتة إلى يوم القيامة لا يغيرها الوارث ولا المشتري وهي بحالها في موضعها لا تُزال ولا توهب ولا تباع، بل على السنّة المتقدمة»، وصحح هذه الفتوى أيضًا أبو الحسن بن محمد بن سليمان.

وفي الكتاب جواب لصالح بن وضاح في فلج القسوات بإزكي: «لأهل إزكي منه سبع وعشرون بادّة ولأهل إزكي ثلاث بود يسقون منهن أموالهم من سدّي، والفاضل يهبطوه إلى أموالهم في إزكي، وعلى هذا مات آباؤهم وأجدادهم» ويفيد النص أن إشكالًا حدث بين أهل إزكي وسدّي لما جاء الخصب وانكسر الفلج واضطر أهل الفلج إلى استحداث (قبيل) فصار تداخل في عبور ماء كل طرف في الساقية أدى إلى خلاف رُفِعت مسألته إلى الفقيه صالح بن وضاح، فكان معنى جوابه أن للفلج سنة ثابتة بصرف النظر عن الأمر العارض، بحيث تبقى الساقية لماء الفلج الأصلي وليس لما يأتي به القبيل من الوادي. وكشأن كثير من الكتب العمانية التي لا تزال مخطوطة، فالكتاب جديرٌ بالتحقيق والنشر، أو باستخلاص مكنوناته ودراستها على أقل تقدير.

محمد بن عامر العيسري: باحث في التراث العماني.