ذهب يوم.. ويأتي آخر
الثلاثاء / 8 / رمضان / 1445 هـ - 19:13 - الثلاثاء 19 مارس 2024 19:13
حين دُعيتُ لكتابة نص عن يوم في حياتي، أول ما خطر ببالي هو كيف يُكتب أصلا عن الأيام؟ أعني أنني أحب قراءة اليوميات، بل أنها تكاد تكون جنسي الأدبي المفضل، وأنا أكتب يومياتي أحيانًا، لكن كتابة مقال بهذا الشكل يختلف عنها في ثلاثة أشياء على الأقل: أولا، يجتث اليوم من القصة الأكبر (التي لا تُكتب نهايتها أبدا). ثانيا: أنها وعلى عكس المقالات (التي تخضع لشروط الإخراج الفني للجريدة أو المجلة التي تُنشر فيها، وخطها التحريري) لا يُحدد طولها، فتطول وتقصر بحسب ثراء أو فقر ذلك اليوم (ليس من حيث الأحداث وحسب بالطبع، ولكن من حيث الأفكار والمشاعر أيضًا)، وللطول دلالاته الخاصة، التي تعكس -على الأقل- مدى تفرغ كاتبها ذلك اليوم، مدى حاجته للتفريغ، مدى صفاء ذهنه أو تكدره. ثالثا: في اليوميات لا تكتب عن اليوم، بل عن كيف تختبره، فبينما يُمكن أن يكون موضوع الكتابة عن يوم: اليوم الأول في المدرسة، لقاء أعز صديق لك، المرة الأولى التي فعلت فيها هذا أو ذاك،.. إلخ. يُمكن أن يكون موضوع اليوميات شيئًا من قبيل: «لقد لمس شيء ما قلبي مجددًا.. لكن الوقت متأخر جدًا الآن، وسأكتب غدًا» (من يوميات وجيه غالي)، وتكون متممة.
يُمكن أن تكتب يومية (أهذا مفرد اليوميات حقًا؟) على النحو الآتي: ذهبتُ مع (م.م) لشرب الكرك من فرع «وقت الشاي» بالمعبيلة، في أسفل العمارة التي يقطنها (ع.ح). انتهت. والآن، أنا لا أحتاج إلى أن أشرح علاقتي لا بـ (م.م) ولا (ع.ح) ولا بالأحرف الأولى من أي اسم أضعه. لأني أكون قد كتبتُ يوم لقائي بـ(م.م) أني التقيت في ذلك اليوم بمن أجد فيه مقومات الصديق أو ما أرجوه في الصديق، وأنني أحدس بأن تعارفنا سيُسفر عن صداقة تمتد عُمرًا. شيء آخر، يكتسب هذا الحدث معناه من مكانه في القصة. فحين يكون (ع.ح) شخصًا نرجو مصادفته، ونحن نتقصد الوقوف على بابه ومراقبته في مغامرة شقية من نوع ما، يتكشف كل ذلك للقارئ دون حاجة لتلقينه الأشياء، أو إيجاد لعبة كتابية تشرح خلفيات الأشخاص والأحداث. ربما لهذا تحديدًا أحب اليوميات، أي خلوها من ألاعيب الكُتّاب المُنفرة (وهذا بالطبع ذوق شخصي).
عدم تيقني من أن مفرد اليوميات هو يومية، يؤكد هذه الفكرة، التي لا أجد وصفًا أفضل لها من القول الشائع (والذي تقف وراءه مدرسة فلسفية لا يُهمنا أن نتذكرها الآن): إنَّ الكل أكبر من مجموع أجزائه، فما بالك بأن يُنتزع هذا اليوم، ويفقد الصلة تماما بأجزاء (الأيام الأخرى) الكل (اليوميات). حسنًا، وإلام توصّلنا حتى الآن؟ إلى أن تجربة كتابة اليوميات، لا تُفيدنا في الكتابة عن «يوم في حياتنا»، إلا بقدر ما تكون إلهامًا لنصٍ لا علاقة له باليوميات كما نعرفها.
خلال جلسة سمر في إحدى ليالي مسقط القليلة والجميلة (والتي يُحتمل أن جمالها يكمن في ندرتها)، صرنا -كعادتنا في آخر الليل- نتبادل قصص الأيام الخوالي (خلت مم؟ وهل كل الأيام الماضية خوالٍ بطبيعتها؟)، أقول أننا تلك الليلة رحنا نتندر بقصصنا الحبيبة. وكنا بعد مرور السنوات، وإعادة قص الحكايات نفسها، نتبادل أدوار القص، أو نُضيف تعليقًا هنا وهناك يُتمم كلام الراوي لسامعها الجديد (وكم نُحب أن يتوفر لنا أي عذر لقصها مجددًا). ليلتها شعرتُ بذلك الشعور الذي نألفه، الذي يأتي مع نهاية فيلم جميل، أعني شعور الشجن المصحوب بلذة. لعل اللذة قادمة من أنك أنهيت شيئًا (وللدوبامين أحكامه الخاصة)، والشجن لأنه كان شيئًا جميلًا، وانتهى. راودني ذلك الشعور؛ لأن القصص أُحكمت صياغتها هذه المرة بشكل خاص، على نحو يُثير ضحكنا كما لم نضحك من قبل (عليها). هل ستكون تلك أحلى مرة نحكيها فيها؟ يا للأسف.
عمومًا ما لم ألاحظه وقتها، لكني أعيه للتو، أن القصص التي سُردت بقيت في ذاكرتنا لأننا كتبنا عنها بشكل ما. وما عداه، أو أكثره، راح دون حِفظ، ولعلنا لا نجد طريقا لاستعادته مهما حاولنا. يا إلهي، كل هذا العمر بأيامه التي لا تُحصى، تذهب دون استحضار. يا جماعة اكتبوا يومياتكم اكتوبها ! ولعلي أكتب عن تلك السهرة تحديدًا في مناسبة قادمة، فقد ذهب يومي في التفكير بكيف يُكتب عن الأيام.
نوف السعيدي كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم
يُمكن أن تكتب يومية (أهذا مفرد اليوميات حقًا؟) على النحو الآتي: ذهبتُ مع (م.م) لشرب الكرك من فرع «وقت الشاي» بالمعبيلة، في أسفل العمارة التي يقطنها (ع.ح). انتهت. والآن، أنا لا أحتاج إلى أن أشرح علاقتي لا بـ (م.م) ولا (ع.ح) ولا بالأحرف الأولى من أي اسم أضعه. لأني أكون قد كتبتُ يوم لقائي بـ(م.م) أني التقيت في ذلك اليوم بمن أجد فيه مقومات الصديق أو ما أرجوه في الصديق، وأنني أحدس بأن تعارفنا سيُسفر عن صداقة تمتد عُمرًا. شيء آخر، يكتسب هذا الحدث معناه من مكانه في القصة. فحين يكون (ع.ح) شخصًا نرجو مصادفته، ونحن نتقصد الوقوف على بابه ومراقبته في مغامرة شقية من نوع ما، يتكشف كل ذلك للقارئ دون حاجة لتلقينه الأشياء، أو إيجاد لعبة كتابية تشرح خلفيات الأشخاص والأحداث. ربما لهذا تحديدًا أحب اليوميات، أي خلوها من ألاعيب الكُتّاب المُنفرة (وهذا بالطبع ذوق شخصي).
عدم تيقني من أن مفرد اليوميات هو يومية، يؤكد هذه الفكرة، التي لا أجد وصفًا أفضل لها من القول الشائع (والذي تقف وراءه مدرسة فلسفية لا يُهمنا أن نتذكرها الآن): إنَّ الكل أكبر من مجموع أجزائه، فما بالك بأن يُنتزع هذا اليوم، ويفقد الصلة تماما بأجزاء (الأيام الأخرى) الكل (اليوميات). حسنًا، وإلام توصّلنا حتى الآن؟ إلى أن تجربة كتابة اليوميات، لا تُفيدنا في الكتابة عن «يوم في حياتنا»، إلا بقدر ما تكون إلهامًا لنصٍ لا علاقة له باليوميات كما نعرفها.
خلال جلسة سمر في إحدى ليالي مسقط القليلة والجميلة (والتي يُحتمل أن جمالها يكمن في ندرتها)، صرنا -كعادتنا في آخر الليل- نتبادل قصص الأيام الخوالي (خلت مم؟ وهل كل الأيام الماضية خوالٍ بطبيعتها؟)، أقول أننا تلك الليلة رحنا نتندر بقصصنا الحبيبة. وكنا بعد مرور السنوات، وإعادة قص الحكايات نفسها، نتبادل أدوار القص، أو نُضيف تعليقًا هنا وهناك يُتمم كلام الراوي لسامعها الجديد (وكم نُحب أن يتوفر لنا أي عذر لقصها مجددًا). ليلتها شعرتُ بذلك الشعور الذي نألفه، الذي يأتي مع نهاية فيلم جميل، أعني شعور الشجن المصحوب بلذة. لعل اللذة قادمة من أنك أنهيت شيئًا (وللدوبامين أحكامه الخاصة)، والشجن لأنه كان شيئًا جميلًا، وانتهى. راودني ذلك الشعور؛ لأن القصص أُحكمت صياغتها هذه المرة بشكل خاص، على نحو يُثير ضحكنا كما لم نضحك من قبل (عليها). هل ستكون تلك أحلى مرة نحكيها فيها؟ يا للأسف.
عمومًا ما لم ألاحظه وقتها، لكني أعيه للتو، أن القصص التي سُردت بقيت في ذاكرتنا لأننا كتبنا عنها بشكل ما. وما عداه، أو أكثره، راح دون حِفظ، ولعلنا لا نجد طريقا لاستعادته مهما حاولنا. يا إلهي، كل هذا العمر بأيامه التي لا تُحصى، تذهب دون استحضار. يا جماعة اكتبوا يومياتكم اكتوبها ! ولعلي أكتب عن تلك السهرة تحديدًا في مناسبة قادمة، فقد ذهب يومي في التفكير بكيف يُكتب عن الأيام.
نوف السعيدي كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم