روضة الصائم

كتاب الدعائم.. فاتحة كتب النظم العلمي

 
اشتهر الفقهاء العمانيون بالنظم العلمي، وهو نظم الفنون العلمية في قالب الشعر، وترجع بدايات النظم العلمي إلى القرن الثالث الهجري، إذ نُقِلت آثار منظومة لأبي جابر محمد بن جعفر الإزكوي، وأبي المؤثر الصلت بن خميس الخروصي، وثمة منظومات لعلماء من القرن الرابع الهجري منها منظومة لمحمد بن روح بن عربي (حي:320هـ)، وأخرى لأبي سعيد محمد بن سعيد الكُدَمي (حي:361هـ)، ولم يقتصر النظم على علوم الشريعة الإسلامية بل نظم العمانيون في اللغة والتاريخ والطب والفلك والكيمياء وغيرها.

غير أن النظم العلمي قد ارتقى إلى التأليف الشامل لأبواب التوحيد والفقه أول مرة بظهور كتاب (الدعائم) لأبي بكر أحمد بن النضر السمائلي (ق5هـ)، ذلك لأن الكتاب جاء مبوبا في منظومات متعددة ببحور شعرية مختلفة بدأت بالاعتقاد ثم الفقه. وقد اشتهر كتاب الدعائم واعتنى به أهل عمان حتى أنه يُعَدُّ من بين أكثر الكتب العمانية من حيث عدد النُّسَخ المخطوطة، كما تغنى العمانيون بمنظوماته وحفظوها وقُرِئت في مجالسهم. ولا يفوتنا أن نشير هنا إلى ما نقله العالم المغربي أبو القاسم البرادي (ت: نحو810هـ) عن أحد أهل عمان في زمانه بأن عدد منظومات كتاب الدعائم واحد وأربعون منظومة، بينما الموجود الآن في الكتاب المتداول ثمان وعشرون. على أن الكتاب قد حظي بعناية واسعة فتعددت شروحه المشرقية والمغربية، ولعل أبرزها شرح محمد بن وصاف النزوي (ق6هـ) المسمى (الحل والإصابة)

وبمنأى عن الجدل الدائر حول زمان ابن النضر ومعاصريه وحقيقة ترجمته التي ظهرت في أول طبعة له في القرن الرابع عشر الهجري، فإن المتأمل في منظومات الدعائم يتلمس نَفَس الشاعر والفقيه في آن واحد، إذ تفتقت شاعرية ابن النظر عن براعة استهلال وجزالة ألفاظ وعبارات في غالب منظومات الكتاب، حتى أنها أُطلِق عليها (منظومات) تارة و(قصائد) تارة أخرى. ولعل بعض منظومات الدعائم حفظ منها بعض العامة الاستهلالات التي يشبه بعضها المقدمات الطللية التي يتغنى فيها الشاعر بالأطلال والدمن، أو يستهل بغزل رمزي، أو بالتوجع والشوق، وفي المقابل استهل ابن النظر في جملة من منظوماته بالوعظ أو بالحكمة مباشرة دون التقديم بأغراض أخرى. ومن أكثر المنظومات ترديدا في مجالس الأدب منظومته الأولى في التوحيد ومطلعها:

تأوبني داء دخيلٌ فلم أَنَمْ وبِتُّ سميرًا للهموم وللهِمَمْ

وما بيَ عشقٌ للذين تحملوا ولا جزع من بينهم لا ولا سقمْ

كما أن من جاء من بعده من الفقهاء استشهدوا كثيرًا بأبيات منظوماته ومنها هذه المنظومة، بل إن بعض أبيات الدعائم يُستَشهد بها كما يُستشهَد بأمثال العرب وشعرهم في الحكمة، ومن بين الشواهد من تلك المنظومة مثلا قوله:

فَلَم يَبْقَ منهم غير نشر حديثهم وما اكتسبوا من فعل مَحْمَدَة وذمّْ

وقد جاءت بعض منظومات الدعائم ببحور شعرية سهلة التناول خفيفة الأوزان كما هو الحال في منظومة الزكاة ووجوبها، ومطلعها:

ما هاجني رسم ولا مربعُ ولا شجاني طَلَلٌ بلقَعُ

ولا حمام الأيكِ راد الضحى على الأفانين إذا يسجعُ

ثم ما لبث أن تخلص إلى الموضوع فقال:

لكن شَجاني زمنٌ فادحٌ وحادث من خطبه أشنعُ

ومن زكاةٍ فرضها واجبٌ على أولي الأموال لِم تُمنعُ

ومع أنه تخلص إلى موضوع الزكاة لكنه صدّره بالوعظ وتذكير جامع المال بأنه سيتركه وبذكر الوعيد الذي جاء في مانع الزكاة، ثم انتهى إلى الموضوع ومسائله، وهكذا الشأن في عدد من المنظومات.

ومن طريف الاستهلال في شعر ابن النضر ما جاء في إحدى منظوماته من مديح لها في عبارات جزلة بديعة من الوافر يقول فيها:

أَتَتْكَ مطيعة غررُ القصيدِ تلوح كأنها سمط الفريدِ

يَهُشُّ السامعون لها إذا ما شداها ماهرٌ حسن النشيدِ

أرعتَ إليَّ سمعك مستفيدًا ولم تَكُ قبل ذاك بمستفيدِ

فخذها سهلةً تلهي وتنفي جوى البُرَحا عن الرجل الحريدِ

وتارة نرى ابن النضر قد استهلّ بعض المنظومات بالوعظ وحده، كما في منظومته من الوافر أيضًا، يقول في أولها:

أَفِقْ قبل التأوُّه والفهاقِ وقبل نشوب روحك في التَّراقِ

وقبل صبيحة ما من مساءٍ لطلعتها عليه ولا فَواقِ

وقبل وداع أهلك بافتراقٍ وشحط لا يؤول إلى تلاقِ

وهكذا جاءت أغلب منظومات كتاب الدعائم ببدائع من المقدمات الشعرية المتعددة الأغراض، وقد تجلّت فيها براعة الاستهلال وحسن التخلص عند ابن النضر، بل إن بعضها يودُّ المطالِع المتذوق لو أنها طالت قبل أن يتخلص الشاعر إلى موضوعه، أو لو أن لابن النضر ديوان شعر آخر غير كتاب الدعائم الذي عُرِف أيضًا بـ«ديوان الدعائم»، ولعل بلاغة شعره جعلت منه ديوانًا كما هو كتاب في الفقه.

محمد بن عامر العيسري / باحث في التراث العماني