عـوامـل تـعـاظـم الـدولة الحـديثـة
الأربعاء / 2 / رمضان / 1445 هـ - 20:51 - الأربعاء 13 مارس 2024 20:51
مـع أن الهنـدسـة السـياسيـة النـظريـة لنـموذج الـدولة الوطـنيـة وضـعت خطـوطـها العريضة، مثـلما وقـع الـتـأصيل الفـكري لها، في فلـسفـة العـقـد الاجـتماعـي، خلال القـرنيـن السابـع عشر والـثـامـن عشر، إلا أن هـذه الـدولة ظلـت تكـتـسب لنفسـها سمـات جـديـدة في سياق الـتـطـور التـاريـخي، وفي سياق تـراكم تجاربها، في الوقـت عيـنـه الذي كانت تـستـفيد فيه من أوضـاع جـديـدة ناشئـة، مـوضـوعيـة وذاتـيـة، مستـدخلة نتائجـها في جملة المـوارد التي تبـني بها نفسـها وتـعـظـم مكـتسباتها. وهذا يعني، ابتـداء، أن التـاريخ -ومنه التـاريخ الخاص بالـدولة- هو مرجع الأخيرة والممـتـح الأساس الذي ظـل عليها أن تـعـب منه مـواد كينـونـتها، أكثـر من أي مرجـع آخـر، بما في ذلك منظـومة الفكـر التي أسست لها من داخـل الفلـسفـة السـياسيـة الحديثـة. ما يـدعونا إلى قـول هذا أن الحقيقـة التي تـفرض نفسـها على كل دارس لتاريـخ هذه الـدولة هي المتمـثـلة في تضافـر عـوامل الداخـل والخارج معا في التـمكين لـتطورها على نحـو تصاعـدي نـوعي، وفي شكل بـدا فيه تضافـرها ذاك وكـأنه فرصـة نـادرة لها كانت تحتـاج إلى الاغـتنـام لئلا تضيـع الـدولة هذه على نفسها إمكانـا تاريخـيـا ومـتـاحـا مـوضـوعيـا صادفـتـه في أول نشـأتـها.
يـهـمنـا، هنـا، أن نـتنـاول -باقـتـضاب- مسائـل ثـلاثـا كان لها كبير أثـر في التـمكيـن لتـطـور نظـام الـدولة الوطـنيـة على نحـو من الانـتظام التـراكمـي، وهي تـتعلق باستـثمار نتائج انتهاء حرب الثـلاثيـن عامـا لانتـزاع الاعتـراف بسيادات الدول؛ وبتصويب بنيـة السـلطـة من طريق استحـداث نظـام لإعادة توزيعـها؛ ثـم تـتعلق بالطـاقة الهائلـة التي تـزودت بها الـدولة الوطـنيـة من نتائج عملـيـات التـوحيد القـومي التي كانت أوروبا مسرحـا لها.
حين انتهت حرب الثـلاثيـن عامـا (1618- 1648) -وهي آخر الحلقات الجحيـميـة من سلسلة الحـروب الـدينـيـة في أوروبا- بانعـقـاد مـؤتمـر صلـح والتـوافـق فيه على ما صار يـعـرف باسم « معاهدة ويستفاليا »، حصلت الدول على أثـمن ما كان أكثـرها يسعى إليه: الاعتـراف بـالسيادة الوطـنيـة لكـل منها. كان ذلك أعظـم الضمانات لديها لإحاطـة نفسها ووجودها بالحماية القانونيـة من المخاطر والتـهديدات المحـدقة؛ بمقـدار ما أتى ذلك يـؤذن -في الوقـت عيـنـه- بكـف طمـوحات الدول الكبـرى في ابتـلاع الأصغـر: كـلا أو جـزءا. ولا مـريـة في أن الـدولة الوطـنيـة أفادت من مبدأ السيادة الوطـنـيـة هذا عظيـم الإفـادة، خاصـة في لحظـة النـشأة؛ حيث حاجتـها إلى استـتباب أمـرها ماسـة وحيـويـة. وهكـذا فالـدولة الوطـنيـة التي بـدت شديدة الحرص على تحقيق السـلم المـدنيـة داخلها، شـرطا لاستقرارها، عثـرت على المناسبة الثـميـنة التي تستحـصل فيها هـدفـا، كان صعب المنـال على الـدولة الواحـدة، هو حيازة حقـها في أمنـها الخارجي (أو الأمن القـومي كما نقول اليوم). لقد أصبح مبـدأ السيادة الوطـنيـة -مثـلما كان ينبـغي أن يكون في نظـريـة الـدولة نفسها- مبـدأ مؤسـسـا لهـذه الـدولة، حتـى أنه من المعسور على وعي، تمـاما، أن يـدرك كـيف يمكـن لدولة أن تكون -حـقـا- دولـة وطنـيـة من دون أن تخـتار لنفسها ما بـه تكون كذلك: السيادة الوطـنيـة التي يستـقـل بها كيانـها ويحفـظ أمنـه.
على مثـال ما كـان الاعتـراف بالسيادة الوطـنيـة للدول توزيـعا لجـغرافـيات النـفوذ الذاتـي بينها، يسمح للواحـدة منها بحـيـز وطـني لممارسـة ذلك النـفوذ السـيادي، كذلك نشأت مع الوقـت حاجـة إلى إعادة توزيـع السـلطـة داخل الـدولة الوطـنيـة وبين مـراكزها الأساس، وشـرع في تحـقيقـها بدرجـات متـفـاوتـة بين الدول. ومع أن أكـثـر دول أوروبا الكـبرى لم تكن قـد أنجـزت فصـلا حقيـقـيا كـامـلا بين السلطـات فيها، حين نـظـر مونـتسكيـو لهذا الفصل في النـصف الأول من القـرن الثـامن عشر؛ ومع أنها درجت طـويلا على نمـط من النـظام السـياسي تـتمـركز السلطـات فيه في نصاب واحد، إلا أنها لم تكن تجـهل مبدأ الفصـل بين السـلط بمقـدار ما كانت القـوى الاجتماعيـة ذات المصلحة في إقـراره غـير قادرة على فـرضه. مع ذلك، نجحت الدول الوطـنيـة الأوروبيـة في أن تقطـع شـوطا في تحقيـق ذلك الفصل بـدا مـديـدا، ولكنـه متـدرج وتـراكمـي، فيما كان على بعض قـليل منها -أهـمـه فرنسا- أن يـفـتح الباب أمام هذا الهـدف من طريـق العنـف (= الثـورة السياسيـة) بعد أن عـز عليه سبيـل التـدرج أو امـتـنع. في الأحـوال جميـعها، ما كان يمكـن لنظـام الـدولة الوطـنيـة أن يترسـخ ويـتـقـدم إلا من طـريق إعماره بمبـدأ الـفـصل بين السلطـات. يكـفي أنه هـو المبـدأ الذي سمح العمـل به وإنفـاذ أحكامـه في الـدولة بفـتح الباب أمام إمكـان قيام النـظام الديـمـقراطـي؛ هذا الذي هـو، من غير جدل أظـهـر مكـتسبات الـدولة الوطـنيـة الحديثة وأعـلاها شـأنا.
مع أهـميـة العامـليـن السابقـيـن الفائـقـة في باب تـزويد الـدولة الوطـنيـة بأسباب قـوتها الداخليـة وشرعيـتها السـياسيـة (= إعـادة تـوزيع السـلطـة على قاعـدة التـمييـز والفصل)، وبأسباب مـنـعـتها واطمئـنانـها إلى أمنـها (= الاعتـراف بالسـيادات الوطنيـة)، يظـل لعامـل التـوحيـد القـومي الأثـر الأعظم في مصير كيـان الـدولة الوطـنيـة إلى التـعاظـم المطـرد. ولم يكـن شرطا أن لا يستـفيـد من عمـليـة التوحيـد إلا كيان الـدولة الأكـبر سـكـانـا وجغرافـيـة مثـل بريطانيـا، وروسيا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، و -خاصـة- أمريكا الشـماليـة، بل ساغ حتى للدول الصـغرى التي من حجـم نيذرلاند، وبلجيكا، وسويسرا أن تضـخ نتائج وحـدتها في تعظيـم قـوتها مـثـل الدول الكـبرى. إن معـنى القـوة، هنـا، يتجـسـد في المـدى الكبيـر من المشروعيـة الذي تـكـتسبه الدولـة داخليـا كلما أصابت حظـها من النجـاح في مغالبة تجـزئتها الكيانيـة، والقضاء عليها نهائـيـا، وتوحيـد الأجـزاء والأشتات مـن إمارات ومقاطعـات ومدن في كـيان قومي واحـد. وإذا كانت الدولة الوطنيـة الحديثة قد فرضت نموذجيـتها السياسيـة في العـالم، فـإن واحـدة من أرفع أنواع مكـتسباتها التي اهـتـدت إلى تحـقيـقها، وبالتالي، إلى تعظيم صورتها بها هي عمليـة الوحـدة القوميـة التي يسـرت عليها برنامج بنائـها النـهضوي والتـنموي لمجتمعها/ مجتمعاتـها، وكـرست في العالـم نموذجيـتـها التي باتت مرجعيـة. وفي وسـع أي منا أن يتخـيـل ما الذي كانت تستطيعه كيانات صغيرة، في ذلك الإبـان، مثـل إمارة فـلورنسا في إيطاليا، أو مملكة پـروسيا في ألمانيا، أو مملكة إنجـلـترا في بريطانيا، أو ولايـة نيوإنـجـلاند في أمريكا الشـماليـة، أو دوقيـة موسكو الكبـرى في روسيا... إلخ، لو لم تنجز تلك البلـدان وحـدتها القـوميـة في نطـاق دول وطنـيـة ذات شـأن واعتـبـار؟!
...على أن هذا المعمار السياسي الهائل، وعل عظيم ما أنجزه من مكتسبات للبلدان التي قام فيها، لم يكن -يـوما- بمنجاة من عملية نقد أعادت فحص الكثير مما تراءى من ثغرات وأعطاب فيه. ولقد فتحـت ورشة نقديـة له، عمليا منذ مطالع القرن التاسع عشر: غب نجاح الثورة الفرنسية.
عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب.
يـهـمنـا، هنـا، أن نـتنـاول -باقـتـضاب- مسائـل ثـلاثـا كان لها كبير أثـر في التـمكيـن لتـطـور نظـام الـدولة الوطـنيـة على نحـو من الانـتظام التـراكمـي، وهي تـتعلق باستـثمار نتائج انتهاء حرب الثـلاثيـن عامـا لانتـزاع الاعتـراف بسيادات الدول؛ وبتصويب بنيـة السـلطـة من طريق استحـداث نظـام لإعادة توزيعـها؛ ثـم تـتعلق بالطـاقة الهائلـة التي تـزودت بها الـدولة الوطـنيـة من نتائج عملـيـات التـوحيد القـومي التي كانت أوروبا مسرحـا لها.
حين انتهت حرب الثـلاثيـن عامـا (1618- 1648) -وهي آخر الحلقات الجحيـميـة من سلسلة الحـروب الـدينـيـة في أوروبا- بانعـقـاد مـؤتمـر صلـح والتـوافـق فيه على ما صار يـعـرف باسم « معاهدة ويستفاليا »، حصلت الدول على أثـمن ما كان أكثـرها يسعى إليه: الاعتـراف بـالسيادة الوطـنيـة لكـل منها. كان ذلك أعظـم الضمانات لديها لإحاطـة نفسها ووجودها بالحماية القانونيـة من المخاطر والتـهديدات المحـدقة؛ بمقـدار ما أتى ذلك يـؤذن -في الوقـت عيـنـه- بكـف طمـوحات الدول الكبـرى في ابتـلاع الأصغـر: كـلا أو جـزءا. ولا مـريـة في أن الـدولة الوطـنيـة أفادت من مبدأ السيادة الوطـنـيـة هذا عظيـم الإفـادة، خاصـة في لحظـة النـشأة؛ حيث حاجتـها إلى استـتباب أمـرها ماسـة وحيـويـة. وهكـذا فالـدولة الوطـنيـة التي بـدت شديدة الحرص على تحقيق السـلم المـدنيـة داخلها، شـرطا لاستقرارها، عثـرت على المناسبة الثـميـنة التي تستحـصل فيها هـدفـا، كان صعب المنـال على الـدولة الواحـدة، هو حيازة حقـها في أمنـها الخارجي (أو الأمن القـومي كما نقول اليوم). لقد أصبح مبـدأ السيادة الوطـنيـة -مثـلما كان ينبـغي أن يكون في نظـريـة الـدولة نفسها- مبـدأ مؤسـسـا لهـذه الـدولة، حتـى أنه من المعسور على وعي، تمـاما، أن يـدرك كـيف يمكـن لدولة أن تكون -حـقـا- دولـة وطنـيـة من دون أن تخـتار لنفسها ما بـه تكون كذلك: السيادة الوطـنيـة التي يستـقـل بها كيانـها ويحفـظ أمنـه.
على مثـال ما كـان الاعتـراف بالسيادة الوطـنيـة للدول توزيـعا لجـغرافـيات النـفوذ الذاتـي بينها، يسمح للواحـدة منها بحـيـز وطـني لممارسـة ذلك النـفوذ السـيادي، كذلك نشأت مع الوقـت حاجـة إلى إعادة توزيـع السـلطـة داخل الـدولة الوطـنيـة وبين مـراكزها الأساس، وشـرع في تحـقيقـها بدرجـات متـفـاوتـة بين الدول. ومع أن أكـثـر دول أوروبا الكـبرى لم تكن قـد أنجـزت فصـلا حقيـقـيا كـامـلا بين السلطـات فيها، حين نـظـر مونـتسكيـو لهذا الفصل في النـصف الأول من القـرن الثـامن عشر؛ ومع أنها درجت طـويلا على نمـط من النـظام السـياسي تـتمـركز السلطـات فيه في نصاب واحد، إلا أنها لم تكن تجـهل مبدأ الفصـل بين السـلط بمقـدار ما كانت القـوى الاجتماعيـة ذات المصلحة في إقـراره غـير قادرة على فـرضه. مع ذلك، نجحت الدول الوطـنيـة الأوروبيـة في أن تقطـع شـوطا في تحقيـق ذلك الفصل بـدا مـديـدا، ولكنـه متـدرج وتـراكمـي، فيما كان على بعض قـليل منها -أهـمـه فرنسا- أن يـفـتح الباب أمام هذا الهـدف من طريـق العنـف (= الثـورة السياسيـة) بعد أن عـز عليه سبيـل التـدرج أو امـتـنع. في الأحـوال جميـعها، ما كان يمكـن لنظـام الـدولة الوطـنيـة أن يترسـخ ويـتـقـدم إلا من طـريق إعماره بمبـدأ الـفـصل بين السلطـات. يكـفي أنه هـو المبـدأ الذي سمح العمـل به وإنفـاذ أحكامـه في الـدولة بفـتح الباب أمام إمكـان قيام النـظام الديـمـقراطـي؛ هذا الذي هـو، من غير جدل أظـهـر مكـتسبات الـدولة الوطـنيـة الحديثة وأعـلاها شـأنا.
مع أهـميـة العامـليـن السابقـيـن الفائـقـة في باب تـزويد الـدولة الوطـنيـة بأسباب قـوتها الداخليـة وشرعيـتها السـياسيـة (= إعـادة تـوزيع السـلطـة على قاعـدة التـمييـز والفصل)، وبأسباب مـنـعـتها واطمئـنانـها إلى أمنـها (= الاعتـراف بالسـيادات الوطنيـة)، يظـل لعامـل التـوحيـد القـومي الأثـر الأعظم في مصير كيـان الـدولة الوطـنيـة إلى التـعاظـم المطـرد. ولم يكـن شرطا أن لا يستـفيـد من عمـليـة التوحيـد إلا كيان الـدولة الأكـبر سـكـانـا وجغرافـيـة مثـل بريطانيـا، وروسيا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، و -خاصـة- أمريكا الشـماليـة، بل ساغ حتى للدول الصـغرى التي من حجـم نيذرلاند، وبلجيكا، وسويسرا أن تضـخ نتائج وحـدتها في تعظيـم قـوتها مـثـل الدول الكـبرى. إن معـنى القـوة، هنـا، يتجـسـد في المـدى الكبيـر من المشروعيـة الذي تـكـتسبه الدولـة داخليـا كلما أصابت حظـها من النجـاح في مغالبة تجـزئتها الكيانيـة، والقضاء عليها نهائـيـا، وتوحيـد الأجـزاء والأشتات مـن إمارات ومقاطعـات ومدن في كـيان قومي واحـد. وإذا كانت الدولة الوطنيـة الحديثة قد فرضت نموذجيـتها السياسيـة في العـالم، فـإن واحـدة من أرفع أنواع مكـتسباتها التي اهـتـدت إلى تحـقيـقها، وبالتالي، إلى تعظيم صورتها بها هي عمليـة الوحـدة القوميـة التي يسـرت عليها برنامج بنائـها النـهضوي والتـنموي لمجتمعها/ مجتمعاتـها، وكـرست في العالـم نموذجيـتـها التي باتت مرجعيـة. وفي وسـع أي منا أن يتخـيـل ما الذي كانت تستطيعه كيانات صغيرة، في ذلك الإبـان، مثـل إمارة فـلورنسا في إيطاليا، أو مملكة پـروسيا في ألمانيا، أو مملكة إنجـلـترا في بريطانيا، أو ولايـة نيوإنـجـلاند في أمريكا الشـماليـة، أو دوقيـة موسكو الكبـرى في روسيا... إلخ، لو لم تنجز تلك البلـدان وحـدتها القـوميـة في نطـاق دول وطنـيـة ذات شـأن واعتـبـار؟!
...على أن هذا المعمار السياسي الهائل، وعل عظيم ما أنجزه من مكتسبات للبلدان التي قام فيها، لم يكن -يـوما- بمنجاة من عملية نقد أعادت فحص الكثير مما تراءى من ثغرات وأعطاب فيه. ولقد فتحـت ورشة نقديـة له، عمليا منذ مطالع القرن التاسع عشر: غب نجاح الثورة الفرنسية.
عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب.