يدُ الطبيب.. يدُ الكتابة
الاحد / 21 / شعبان / 1445 هـ - 19:28 - الاحد 3 مارس 2024 19:28
شعرتُ بتضاؤل كلماتي وبهشاشة الكتابة وعبثيتها، عندما شاهدتُ الطبيب العُماني أيمن السالمي يمضي حاملا روحه بين يديه، شاقا عتمة الحرب، غير مُكترث بصروف الأيام القادمة، في مكانٍ تجزه مناجل الموت والجوع كل دقيقة وثانية. شعرتُ كما يقول إلياس خوري في كتابه: «النكبة المستمرة» الصادر عن دار الآداب، «كأنّ الكلمات تملأ الفراغ بالفراغ».
كم أغبط السالمي في خياره الإنساني، في أن يهب المستضعفين قشة النجاة الأخيرة، ولذا كنتُ في أعماقي أتساءلُ بحسرة: أي عمل يمكن أن يُضاهي أو يُداني رفعة ما يفعله هو وغيره من الأطباء؟
وبقدر ما شعرتُ أنّ الكتابة ذات تأثير هامشي إزاء من يتعامل بشكل دقيق مع جراح الناس وأوجاعهم بالمعنى الحرفي وليس المجازي، إلا أنّي وفي استعادتي لأحاديثي الأخيرة مع دور النشر في معرض مسقط الدولي للكتاب، التقطتُ تلك الإشارات المتعلقة بالإقبال على شراء الكتب التي تتعلق بالقضية. قالت لي الصديقة الناشرة رنا إدريس: «القُراء منذ 7 أكتوبر لا يقبلون إلا على كل ما يتعلق بفلسطين»، وكأنّ ذلك الخزي العربي العميق والمُعذب هو من يحملهم على تقديم تلك المؤازرة الصغيرة والتضامن عبر فعل القراءة.
مما يدل على أنّ فعل الكتابة يُرهب العدو بقدر ما يفعل الصمود والتشبث بالأرض، وإلا فلماذا تترك وسائل الإعلام الإسرائيلية أشغالها الكثيرة، كما فعلت صحيفة «هآرتس» لتقدم تقريرا حول رواية الأسير باسم خندقجي «قناع بلون السماء»، التي ترشّحت مؤخرا «للقائمة القصيرة في جائزة الرواية العربية (البوكر)، حيثُ وصفته الصحيفة بالإرهابي الفلسطيني المتورّط في قتل الإسرائيليين.. وقد سبق وأن كتبتُ من قبل عن التشويه الذي طال رواية عدنية شبلي «تفصيل ثانوي»، وعن تراجع معرض فرانكفورت عن الاحتفال بها. ماذا أيضا عن القتل العمد للصحفيين الذين يمنحوننا قصّة مُغايرة لسرديتهم المُلفقة! كل هذا يؤكد لنا قدر الرعب الذي تفعله الكلمات التي تُعري زيفهم، فالكلمات تفعل ما يفعله الرصاص أو الحجر أو يد طبيب تخيط الجراح.
وليس بعيدا عن هذه الاستعادات، أتذكرُ السؤال الذي تلقيته من أحد المستعربين أيام معرض مسقط الدولي للكتاب أيضا، عندما قرأ روايتي: «لا يذكرون في مجاز» فسألني عن الحرية التي ننشدها في السرد وفي الواقع. بدا الأمر وكأننا نعيشُ في هوتنا السحيقة المنفصلة عن العالم، ولا أدري لماذا أجبته بذلك النحو من الصلافة: لو أنّك سألتني قبل أحداث 7 أكتوبر لكنتُ أجبتُ إجابة مُغايرة، ولكن الصورة «المثال» للحريات بذلك المعنى المتسامي في أذهاننا تمّ سحقها وتفتيتها في وعينا العام، فالحرية التي تكيل بمكيالين وتنظر لنا من مناظيرها المتعالية تهاوت إلى الحضيض، وتناقضت أيّما تناقض في نظرتها للإنسان «بين براهمة ومنبوذين» على حد تعبير الكاتب الكيني علي المزروعي.
يخبرنا إلياس خوري بأنّ الروائي الإسرائيلي «يزهار» قدّم شخصية الفلسطيني صامتا أو شبحا وقد ساد من بعده هذا الأنموذج في الأدب الإسرائيلي. ولعلي أجد الكتابة إعادة لسان مقطوع لجسد مُهشم. محاولة مستمرة لتوضيح سوء الفهم الذي جرى استخدامه كأداة للسيطرة كما وصفه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق. فالضحية التي أكرهت على الصمت، يمكن للكتابة أن تمنحها صوتا.
يتحدث خوري عن كلمة «نكبة» التي صاغها المؤرخ قسطنطين زريق، وكانت عصية على الترجمة فدخلت في نسيج اللغات، ألا يعني ذلك أنّ الكتابة سردية مُضادة للغة المحو، لا سيما في وقت تضاءلت فيه الحدود، وبات التلاعب بالمعنى يزج بوجهه القبيح في كل لحظة!
بينما أنجز هذه الكلمات كان الطبيب أيمن السالمي يقطع مُضطرا يد طفلة من غزة تبلغ من العمر ثلاث سنوات ليبقيها على قيد الحياة، أخذ العجز وقلة الحيلة يُعبئان قلبي، لكنني قلتُ في نفسي: يمكن للكتابة أيضا أن تقف جوار الأيدي التي تُطعم وتداوي وتُعلم وتخبز، فهي تُخبر العالم دوما بالقصّة المستبعدة.
كم أغبط السالمي في خياره الإنساني، في أن يهب المستضعفين قشة النجاة الأخيرة، ولذا كنتُ في أعماقي أتساءلُ بحسرة: أي عمل يمكن أن يُضاهي أو يُداني رفعة ما يفعله هو وغيره من الأطباء؟
وبقدر ما شعرتُ أنّ الكتابة ذات تأثير هامشي إزاء من يتعامل بشكل دقيق مع جراح الناس وأوجاعهم بالمعنى الحرفي وليس المجازي، إلا أنّي وفي استعادتي لأحاديثي الأخيرة مع دور النشر في معرض مسقط الدولي للكتاب، التقطتُ تلك الإشارات المتعلقة بالإقبال على شراء الكتب التي تتعلق بالقضية. قالت لي الصديقة الناشرة رنا إدريس: «القُراء منذ 7 أكتوبر لا يقبلون إلا على كل ما يتعلق بفلسطين»، وكأنّ ذلك الخزي العربي العميق والمُعذب هو من يحملهم على تقديم تلك المؤازرة الصغيرة والتضامن عبر فعل القراءة.
مما يدل على أنّ فعل الكتابة يُرهب العدو بقدر ما يفعل الصمود والتشبث بالأرض، وإلا فلماذا تترك وسائل الإعلام الإسرائيلية أشغالها الكثيرة، كما فعلت صحيفة «هآرتس» لتقدم تقريرا حول رواية الأسير باسم خندقجي «قناع بلون السماء»، التي ترشّحت مؤخرا «للقائمة القصيرة في جائزة الرواية العربية (البوكر)، حيثُ وصفته الصحيفة بالإرهابي الفلسطيني المتورّط في قتل الإسرائيليين.. وقد سبق وأن كتبتُ من قبل عن التشويه الذي طال رواية عدنية شبلي «تفصيل ثانوي»، وعن تراجع معرض فرانكفورت عن الاحتفال بها. ماذا أيضا عن القتل العمد للصحفيين الذين يمنحوننا قصّة مُغايرة لسرديتهم المُلفقة! كل هذا يؤكد لنا قدر الرعب الذي تفعله الكلمات التي تُعري زيفهم، فالكلمات تفعل ما يفعله الرصاص أو الحجر أو يد طبيب تخيط الجراح.
وليس بعيدا عن هذه الاستعادات، أتذكرُ السؤال الذي تلقيته من أحد المستعربين أيام معرض مسقط الدولي للكتاب أيضا، عندما قرأ روايتي: «لا يذكرون في مجاز» فسألني عن الحرية التي ننشدها في السرد وفي الواقع. بدا الأمر وكأننا نعيشُ في هوتنا السحيقة المنفصلة عن العالم، ولا أدري لماذا أجبته بذلك النحو من الصلافة: لو أنّك سألتني قبل أحداث 7 أكتوبر لكنتُ أجبتُ إجابة مُغايرة، ولكن الصورة «المثال» للحريات بذلك المعنى المتسامي في أذهاننا تمّ سحقها وتفتيتها في وعينا العام، فالحرية التي تكيل بمكيالين وتنظر لنا من مناظيرها المتعالية تهاوت إلى الحضيض، وتناقضت أيّما تناقض في نظرتها للإنسان «بين براهمة ومنبوذين» على حد تعبير الكاتب الكيني علي المزروعي.
يخبرنا إلياس خوري بأنّ الروائي الإسرائيلي «يزهار» قدّم شخصية الفلسطيني صامتا أو شبحا وقد ساد من بعده هذا الأنموذج في الأدب الإسرائيلي. ولعلي أجد الكتابة إعادة لسان مقطوع لجسد مُهشم. محاولة مستمرة لتوضيح سوء الفهم الذي جرى استخدامه كأداة للسيطرة كما وصفه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق. فالضحية التي أكرهت على الصمت، يمكن للكتابة أن تمنحها صوتا.
يتحدث خوري عن كلمة «نكبة» التي صاغها المؤرخ قسطنطين زريق، وكانت عصية على الترجمة فدخلت في نسيج اللغات، ألا يعني ذلك أنّ الكتابة سردية مُضادة للغة المحو، لا سيما في وقت تضاءلت فيه الحدود، وبات التلاعب بالمعنى يزج بوجهه القبيح في كل لحظة!
بينما أنجز هذه الكلمات كان الطبيب أيمن السالمي يقطع مُضطرا يد طفلة من غزة تبلغ من العمر ثلاث سنوات ليبقيها على قيد الحياة، أخذ العجز وقلة الحيلة يُعبئان قلبي، لكنني قلتُ في نفسي: يمكن للكتابة أيضا أن تقف جوار الأيدي التي تُطعم وتداوي وتُعلم وتخبز، فهي تُخبر العالم دوما بالقصّة المستبعدة.