في عـلمويـة بعض الفكـر العربي
الأربعاء / 17 / شعبان / 1445 هـ - 21:57 - الأربعاء 28 فبراير 2024 21:57
ربما كان مفهوما أن تـنشـأ الفكرة العلـمويـة وتفـشو في البيئات الثـقافـيـة والاجتماعيـة التي تسود فيها العلـوم والروح العلـميـة في التـفكير؛ وهذه عادة ما تكون البيئـات السائـدة في المجتمعات التي تـنـتج العلوم وتـنشر قـيمها في الجامعات ومؤسسات التـربية والتـكـوين، بل في الحقـل الثـقافي والمجتمع عموما. لذلك ما كان مستغـربا أن تزدهـر العـلمويـة في البيئات الفكرية والفلسفيـة والجامعية في بلدان بعينها مثـل بريطانيا وفرنسا، في القـرن التاسع عشر، ومثل الولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين؛ فلقد كانت هذه البلدان -وما برحت حتى اليوم- من مراكـز إنتاج المعرفة العلميـة الأكثر تقـدمـا في العالم، ومن المجتمعات التي دخلت قـيم العلم في تشكيل رؤاها ومعارفها ومؤسساتها. الداعي إلى الاستغراب، حـقـا، أن تجد مثل هذه الفكرة (العلمويـة) موطئ قدم لها في بيئات اجتماعيـة وثقافيـة غير منتجة للعلم، ولا تملك من أدوات ذلك وشروطه الحد الأدنى، حتى لا نقول إنها مجتمعات برانيـة عن بيئة العلم. والأغـرب أن تكون الفكرة العلمويـة قد دخلت النسيج الفكري والجامعي في بعض البلدان -غير المنتجة للعـلم- في زمـن سابـق يعود إلى ما قبل سبعين عاما؛ أي في وقـت كانت فيه الثـقافة العلميـة فيها محدودة جـدا، ومؤسساتها -من جامعات ومعاهـد- قليلة جـدا وأعداد المنتسبين إليها هزيل جـدا. تلك، مثلا، هي حال مصـر والثـقافة في مصـر مع الدعـوة العلمويـة، بين سنوات الأربعيـنـيـات والتـسعيـنـيـات من القرن العشرين الماضي، ولدى واحد من أكبر رموزها واللاهجـين بها من الفلاسفة العـرب: زكي نجيب محمود.
نعم، ليس من شـك في أن هـذه الحقبـة هي أخصب الحقـب الثـقافيـة والفكـرية في مصـر وبعض البلاد العربيـة؛ ولا من شـك في أن الإنتـاج الفـكـري في مصر، في ذلك الإبـان، كـان الأبـكـر -ضمن الإنتاج الفـكري الإجمالي العربي- في استـقبال القـيم المعرفيـة الحديثة وتوطيـنـها فيه، وفي ترسيخ مبادئ العقـل والعقلانيـة في التـفكـير والتأليف؛ كما أنـه لا مـريـة في أن الإنتاج الفـكري والفلسفي لزكي نجيب محمود يشغـل مكانة متميـزة في التـأليف الفلسفي العربي تبررها ثقـافـة الرجـل الفلسفيـة الرفيعة، ومعرفـتـه الدقيقة بالمدارس الفلسفيـة الأوروبيـة، عمـوما، والإنجـليزيـة على نحـو خاص. هذا كله مما نبتـدهـه ونحن نتحـدث في فلسفة زكي نجيب محمود في تلك الحقبة من المـد الفكري في مصر؛ الحقبة التي كان فيها محمود من مؤسسي الدرس الفلسفي في الفكـر العربي المعاصر ومن رواده الأعلام. لكن هـذا التـقـدير شـيء ومسلـكه العلـموي في التـفكير والكتابة شيء آخـر...
قد يقال إن حالة زكي نجيب محمود -العائـد من جامعة لندن في العام 1947 متـوجا بشهادة الدكتوراة منها ومسكونا بفلسفـة وضعية على النمـط الإنجـليزي- تشبه حالة غيره من المفكرين العرب الذين تـلمـذوا لمدارس الفكر الفلسفي في الغرب، وانتحـلوا لأنفسهم مذاهب بعينها من الفلسفة واقـتدوا برموزها المؤسسين ورددوا أفكارهم. وهذا صحيح لا مـرية فيه؛ تشهد على ذلك، مثلا، ديكارتـية طه حسين، ووجوديـة عبدالرحمن بدوي، وشخصانيـة محمـد عزيز الحبابي ورنيه حبشي، وتاريـخانـيـة عبدالله العـروي، وماديـة سمير أمين التاريـخيـة، وفينومينولوجيـة حسن حنفي... إلخ. مع ذلك، تختـلف علمويـة زكي نجيب محمود من هذا الوجـه: من حيث هي عـلمـويـة من غيـر عـلـم منـتـشـر يسـندها ويـسوغـها، فيما الأبعاد الفلسفيـة الأخرى، المومأ إليها، والمؤثـرة في فلاسفة العرب المعاصرين (أسئلة الذات والعقل والوجود والإنسان...)، ليست خارجة -تـماما- عن دوائـر التفكـير العربي المألوفة، بل كثيرا ما صادفـنا التعبير عنها في مجالات من الثـقـافة العربية أخرى غيـر الفلسفـة.
حالة زكي نجيب محمود مع العـلـم والمعرفة العلميـة غير حال أساتـذته الذين تأثـرهـم في التـفكير والتـعبير (برتراند رسل، جورج مور، رودولف كارناپ...)، فكتب عن بعضهم (برتراند رسل) وترجـم كتب بعضهم (برتراند رسل، جون ديوي). هم يدافعـون عن الروح العلمي في ثقافات تشـبعت بقيم العلم، ومجتمعات تـغـلـغـلت في حياتها تلك القيم وصارت جزءا من نسيج منظومتها الاجتماعيـة، أما هو فيدافع عنه في غـيابـه لا في حضوره، فيتولـد من ذلك أن الأيديولوجي الثـاوي في العـلمويـة -من حيث هي نزعة فلسفيـة- يصبح مضاعـفا عنده: يتجلى في العلمويـة من حيث هي كذلك، كما يتجلى في دعـوة تتـردد في الفراغ الممتـد! هو، في حالته تلك، أشبـه ما يكون بالمشغـوف بالتـقـنيـة Technophile في نـمـذجـة عبدالله العروي لتيارات الأيديولوجيا العربيـة الثلاث؛ فلقد كانت سيرة سلامة موسى مع التـقـنيـة ولـهجـه بها، الذي ما انقـطع، نموذجا مـاثـل في المفارقـة دعـوة محمود إلى محاكاة العلـم والمسير في التـفكير وفي الأحكام على مطـماره: كـانا مـعـا بمعنـى ما، دعـوة أيـديولوجيـة تنتمي إلى منطق اليـنبـغـيـات لا دعـوة علميـة تستقيـم مع السائـد والمألوف في بيئـات العلم، أو في المجتمعات التي تحتـل فيها تلك البيئـات مساحة ثـقافـيـة معـتـبـرة.
لا يعنينا من أمر هذه العلمويـة، عمومـا، وعند زكي نجيب محمود خصوصا، إلا مضمونها الأيديولوجي الذي تـفصح عنه بما هي فلسفة؛ إذ هـو يكشف عن تلك المقدرة التي للأيـديولوجيا على التـنكـر في صـور أخـرى غير صورتها الأصل. آي ذلك ما يـطبع القـول العلمـوي من غـلـو في الأحكام؛ ليس في تقديس العلـم، فقـط، والتعالي بمكانته إلى حدود المطلق، بل في القـدح في الأيـديـولوجيا والفلسفة وسائر أنماط التـفكـير الأخرى! وهل ثمـة من مفارقة أصرخ من أن تـتكـرس نزعـة فلسفيـة -هي العلـمويـة- لذم الفلسفة والحـط من مـعارفـهـا والتـشكـيـك فـيها؟!
نعم، ليس من شـك في أن هـذه الحقبـة هي أخصب الحقـب الثـقافيـة والفكـرية في مصـر وبعض البلاد العربيـة؛ ولا من شـك في أن الإنتـاج الفـكـري في مصر، في ذلك الإبـان، كـان الأبـكـر -ضمن الإنتاج الفـكري الإجمالي العربي- في استـقبال القـيم المعرفيـة الحديثة وتوطيـنـها فيه، وفي ترسيخ مبادئ العقـل والعقلانيـة في التـفكـير والتأليف؛ كما أنـه لا مـريـة في أن الإنتاج الفـكري والفلسفي لزكي نجيب محمود يشغـل مكانة متميـزة في التـأليف الفلسفي العربي تبررها ثقـافـة الرجـل الفلسفيـة الرفيعة، ومعرفـتـه الدقيقة بالمدارس الفلسفيـة الأوروبيـة، عمـوما، والإنجـليزيـة على نحـو خاص. هذا كله مما نبتـدهـه ونحن نتحـدث في فلسفة زكي نجيب محمود في تلك الحقبة من المـد الفكري في مصر؛ الحقبة التي كان فيها محمود من مؤسسي الدرس الفلسفي في الفكـر العربي المعاصر ومن رواده الأعلام. لكن هـذا التـقـدير شـيء ومسلـكه العلـموي في التـفكير والكتابة شيء آخـر...
قد يقال إن حالة زكي نجيب محمود -العائـد من جامعة لندن في العام 1947 متـوجا بشهادة الدكتوراة منها ومسكونا بفلسفـة وضعية على النمـط الإنجـليزي- تشبه حالة غيره من المفكرين العرب الذين تـلمـذوا لمدارس الفكر الفلسفي في الغرب، وانتحـلوا لأنفسهم مذاهب بعينها من الفلسفة واقـتدوا برموزها المؤسسين ورددوا أفكارهم. وهذا صحيح لا مـرية فيه؛ تشهد على ذلك، مثلا، ديكارتـية طه حسين، ووجوديـة عبدالرحمن بدوي، وشخصانيـة محمـد عزيز الحبابي ورنيه حبشي، وتاريـخانـيـة عبدالله العـروي، وماديـة سمير أمين التاريـخيـة، وفينومينولوجيـة حسن حنفي... إلخ. مع ذلك، تختـلف علمويـة زكي نجيب محمود من هذا الوجـه: من حيث هي عـلمـويـة من غيـر عـلـم منـتـشـر يسـندها ويـسوغـها، فيما الأبعاد الفلسفيـة الأخرى، المومأ إليها، والمؤثـرة في فلاسفة العرب المعاصرين (أسئلة الذات والعقل والوجود والإنسان...)، ليست خارجة -تـماما- عن دوائـر التفكـير العربي المألوفة، بل كثيرا ما صادفـنا التعبير عنها في مجالات من الثـقـافة العربية أخرى غيـر الفلسفـة.
حالة زكي نجيب محمود مع العـلـم والمعرفة العلميـة غير حال أساتـذته الذين تأثـرهـم في التـفكير والتـعبير (برتراند رسل، جورج مور، رودولف كارناپ...)، فكتب عن بعضهم (برتراند رسل) وترجـم كتب بعضهم (برتراند رسل، جون ديوي). هم يدافعـون عن الروح العلمي في ثقافات تشـبعت بقيم العلم، ومجتمعات تـغـلـغـلت في حياتها تلك القيم وصارت جزءا من نسيج منظومتها الاجتماعيـة، أما هو فيدافع عنه في غـيابـه لا في حضوره، فيتولـد من ذلك أن الأيديولوجي الثـاوي في العـلمويـة -من حيث هي نزعة فلسفيـة- يصبح مضاعـفا عنده: يتجلى في العلمويـة من حيث هي كذلك، كما يتجلى في دعـوة تتـردد في الفراغ الممتـد! هو، في حالته تلك، أشبـه ما يكون بالمشغـوف بالتـقـنيـة Technophile في نـمـذجـة عبدالله العروي لتيارات الأيديولوجيا العربيـة الثلاث؛ فلقد كانت سيرة سلامة موسى مع التـقـنيـة ولـهجـه بها، الذي ما انقـطع، نموذجا مـاثـل في المفارقـة دعـوة محمود إلى محاكاة العلـم والمسير في التـفكير وفي الأحكام على مطـماره: كـانا مـعـا بمعنـى ما، دعـوة أيـديولوجيـة تنتمي إلى منطق اليـنبـغـيـات لا دعـوة علميـة تستقيـم مع السائـد والمألوف في بيئـات العلم، أو في المجتمعات التي تحتـل فيها تلك البيئـات مساحة ثـقافـيـة معـتـبـرة.
لا يعنينا من أمر هذه العلمويـة، عمومـا، وعند زكي نجيب محمود خصوصا، إلا مضمونها الأيديولوجي الذي تـفصح عنه بما هي فلسفة؛ إذ هـو يكشف عن تلك المقدرة التي للأيـديولوجيا على التـنكـر في صـور أخـرى غير صورتها الأصل. آي ذلك ما يـطبع القـول العلمـوي من غـلـو في الأحكام؛ ليس في تقديس العلـم، فقـط، والتعالي بمكانته إلى حدود المطلق، بل في القـدح في الأيـديـولوجيا والفلسفة وسائر أنماط التـفكـير الأخرى! وهل ثمـة من مفارقة أصرخ من أن تـتكـرس نزعـة فلسفيـة -هي العلـمويـة- لذم الفلسفة والحـط من مـعارفـهـا والتـشكـيـك فـيها؟!