نزوى صانعة الأجيال الثقافية العمانية الجديدة قراءة في الدور الثقافي لمجلة نزوى عمانيًا
الأربعاء / 17 / شعبان / 1445 هـ - 11:15 - الأربعاء 28 فبراير 2024 11:15
مثلما هو الشعر عند العرب القدماء صناعة، فإن الصحافة عند المحْدثين الجدد صناعة أيضا.. وأية صناعة!...صناعة عمادها الجودة والإتقان والاستمرارية، وعناصرها: المحرر، والمجلة، والخطاب، ونزوى التي نحتفي بمرور ثلاثين عامًا على صدورها نموذج فخري ذهبي لهذه الصناعة، بل هي فخر الصناعة الثقافية العمانية ذاتها، يتجلى ذلك في تأثيرها الفارق في التنمية الثقافية العمانية وصناعة الأجيال الجديدة، خاصة أنها مارست الفعل الثقافي بحرفية وحرية وإتقان، فلم تغادر خططها وأعدادها «بناء الثقافة الجديدة لكل المأخوذين بهاجس الكتابة وأرق الحلم والإبداع في كافة صنوف المعرفة»... إنها مشروع وطني من مشاريع وطننا العماني العملاقة.. مشروع قاد زمامه المثقف العماني الطليعي، والشاعر المجدد، وحملة التفكير الأكاديمي المنهجي، وأصحاب الحساسية الشعرية، وكتاب الدراسات المعمقة، ومبدعو الفن التشكيلي، والسينمائي، والفوتوغرافي، والموسيقي، وغير ذلك.
كما أنها أرستْ دعائم الثقافة العمانية ووضعتْ على عاتقها مهمة تصديرها للثقافة العربية والعالمية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى بعيدًا عن الأيديولوجيات والشعارات الجوفاء والأفكار الهدامة، ويمكن بيان ذلك فيما أحدثته من أدوار محورية في أجيال الثقافة العمانية على امتداد صدورها الموفق بدءا من تاريخ 18 من نوفمبر1994م حتى اليوم بعدد قارب سبعة عشر ومائة عدد صدرت دون انقطاع رغم الظروف التي أحاطتْ بها وعصفتْ بها إبان المحنة المرضية التي مرت بها الدنيا وما صاحبها من تداعيات على كافة المستويات السياسية والاقتصادية؛ ويعود ذلك إلى عدة عوامل أهمها المصداقية والرغبة في الحضور، وتحقيق الأهداف والتطلعات السامية الرامية إلى خدمة الثقافة والوطن، وقد دعمتْ ذلك الجهة الصادرة منها ممثلة في وزارة الإعلام الموقرة، والهمة العالية لرئيس التحرير ومعه طاقم التحرير الذين عملوا بجد لإخراج أعدادها بأثواب قشيبة وألبسة زاهية بعيدا عن التصنع والتكلف والمباهاة والبهرجة الإعلامية الجوفاء.
نزوى اليوم.. وهي في مقامها هذا، تقف في طليعة المجلات العربية التي اتخذت الإصلاح طريقا، والتنوير منهجا، والتجديد رسالة، وحق لها هذه الصدارة، فما من بلد قصدناه إلا ويسألنا مثقفوه عنها، إنها -حقا- رسالة عمان إلى العالم، رسالة يمكن تبيان محتواها، وإيضاح فحواها عبر الأركان والعناصر السابقة على النحو الآتي:
فالمجلة كما تعرفها الأدبيات التي أرختْ لها، هي مجلة فصلية ثقافية متخصصة ذات هوية عمانية بحتة يتناسب اسمها واسم المدينة المعروفة الضاربة جذورها في التاريخ العريق، وقد جسدتْ نزوى المجلة الثقافة العمانية في شكلها قبل أبوابها وفصولها ومباحثها، فكانت صور أغلفتها دالة عليها في خصوصية واضحة المعالم، لا تبارح ذلك التاريخ المجيد، فهي كالمدينة أصالة، وكتفاصيلها تاريخا وكتفاصيلها هندسة وإبداعا، وقد قدمتْ الشعر والشعراء، والقصة والقصاصين، والرواية والروائيين، وكتاب المسرح والفنانين بنسب رقمية تتراوح بين 25 -30% في كل عدد، كما كانت فيها فصول للحوارات والمتابعات والدراسات النقدية، وأخص بالذكر منها ما كتبناه وكتبه زملاؤنا أساتذة جامعة السلطان قابوس منذ التأسيس حتى اليوم؛ فقد رعتنا مذ كنا طلبة للدراسات العليا بتقديم أطروحاتنا وأبحاثنا، ونشرتها تباعا في أعدادها مراهنة بذلك علينا، وعلى إنتاجنا البحثي والنقدي ومؤكدة على كونها مجلة تدعو إلى فتح منافذ التفكير مشرعة للكاتب العماني بغية اطلاعه على الانفتاح في مختلف التيارات والاتجاهات والمذاهب الأدبية وتقديمه للقارئ العربي الذي لطالما جهل به وتجاهله عنوة، أو بغير عنوة، فلم يلتفت إليه في أدبياته وصحفه ومجلاته المرموقة مستظلا بعقد هيمنة المراكز على الأطراف.
والمحرر، هو ذلك الشاعر الكبير سعادة سيف الرحبي الذي ملأت شهرته الآفاق، فشغل به النقاد والدارسون، في ظاهرة نوعية إبداعية بالغة الأهمية في عصرنا الحديث، ولست هنا في مقام الحديث عن شخصيته الشعرية العالية بقدر ما أشير إلى أن حضوره المبكر في منابر الصحافة العربية أتاح له تكوين خبرة صحفية ثقافية واعية ومستنيرة استثمرها في نزوى، فجعلها نبراسًا يستظل به في تجربته وهو يحرر نزوى، وقد وجدت له اشتغالات صحفية مبكرة وإبداعات شعرية ونصوصًا قصصية منشورة في الصحافة العربية البيروتية والقاهرية والخليجية، ومن أطرفها كتاباته القصصية والشعرية في مجلة «الأزمنة العربية»، ومجلة «كلمات» البحرينية، و«الكرمل» وغيرها، وهي مرجعيات مبكرة لا تجعل منه فقط شاعرا مبدعا سما بالشعر سموا، وإنما فيما ارتقى به إلى ميدان الصحافة فهي وعاؤه الحافظ ومكمنه المكين، وهو سليلها الأصيل بلا منازع وغير منْبت عنها، وقدراته في هذا الجانب قدرات باهرة، يعمل فيها بوعي ويمارس فعله بصمت وإدراك وبصيرة وتوأده وفق استراتيجيات محْكمة استفادت منها نزوى، فعرف بها وعرفت به حقا.
لعب سعادة سيف الرحبي دورًا محوريًا في ثقافتنا العمانية عبر مجلة نزوى، فما من افتتاحية كتبها إلا ويدعو إلى الاهتمام بها، ومنحها المقام الأرفع، والأولوية القصوى تقديرا لها وعرفانا بجوهرها، ومعرفة بمكانتها، فطرق أدق خصوصياتها ووظف ثيماتها وأفكارها، واستخدم مفرداتها ومكوناتها تناصات فنية في شعره ونثره، ولم يقتصر على ذلك بل قدمها للقارئ العربي بفخر واعتزاز متكئا على النص النابض بالحركة والحياة، كما أنه عمد إلى اتخاذ مفرداتها لتكون عناوين لنصوصه ومجموعاته الشعرية منحوتة من صم الجبال العمانية وموظفة في سياق فني عالي الجودة والإتقان، وقد التقت إلى ذلك كل من درسه فوجده إنتاجا يمتح من بيئة عمانية خصبة معطاءة مثمرة يؤتى أكلها كل حين.
أما الخطاب، أعني به خطاب نزوى، فهو خطاب نخبوي طليعي عالي القيمة، رفيع المستوى، تعضده رؤى التجريب والحداثة، دون نسيان لأسس وثوابت ما أصله التراث العربي من قواعد اللغة والأسلوب والعبارة والموضوع، ودون عبث، أو هدم أو مساس بالقيم الثقافية الأصول ومقدرات الهوية وهما عنصران مهمان تتميز بهما نزوى ولا يمكن تغافلهما أو التسامح فيهما، فخطاب نزوى رصين عميق يرنو إلى الجديد النابع من القديم الأصيل تراثا وحضارة، وهو ركن حضاري اتكأت عليه نزوى إذ لا تجد فيها إلا النصوص العمانية المستوحاة من التراث معالجة بأرقى مناهج النقد وتأويلاته، أو قلْ مقدمة بها؛ لذا وجدنا الأجيال العمانية فيها تتوارد وتتوالى، فيختلط التقليديون بالمحدثين وشعارها الخطاب الهادف، والإبداع المتكأ على مرجعيات التاريخ الأصيلة، فهي لا تنشر الإنتاج لقدمه أو حداثته ولا يهمها الشكل ولا المضمون في حد ذاتهما بقدر ما يهمها التأصيل والانغراس في تربة الثقافة العربية؛ ليكون خطابها خطابا عمانيا يقرأه العربي ولا يجد فيه خروجا عن ثوابته وقواعده المنصوص عليها، وقد أشارت إلى ذلك مرارا مقدمات رئيس التحرير وافتتاحياته، ومن بينها؛ افتتاحيته الضافية في العدد 46 حين قال: «لم تغب الثقافة العمانية عن هاجس المجلة وشجنها وهمها، هي التي انطلقت أساسا من أفقها بطموح التأسيس عمانيا والمساهمة الفاعلة عربيا».
أذنت نزوى لكل أشكال الخطابات العمانية الجديدة الجادة واحتضنتها، واتخذتها ميدانا رحبا لاختبار الأفكار والأساليب برؤية تنحو منحى الانفتاح والمغايرة والخروج من ثبات المعرفة وسائدها، واكتشاف الإبداع الناضج واضعة نصْب عينيها معايير القيمة والأهمية والتأثير، وفي هذا المقام خرج من عباءة نزوى كتّاب ومبدعون عمانيون وصلوا بمستوياتهم إلى الفوز بجوائز (البوكر) العالمية في القصة والرواية، وإلى منصات التتويج في المسابقات العربية الكبيرة محتلين المراكز الأولى فيها.
ولم تتوقف نزوى على نشر إنتاج الجيل الجديد المحْدث منهم، بل أوقدت شرارة التوهج للإبداع التقليدي لدى العمالقة الكبار، فأوجدت بين صفحاتها مختارات شعرية تقليدية موزونة مقفاة لشاعر البيان ابن شيخان، ولأفقه الشعراء أبي مسلم البهلاني، وللمحقق سعيد بن خلفان الخليلي، ولشاعر الاستنهاض أبي سلام الكندي، ولأمير البيان عبدالله الخليلي، ولعبدالله الطائي ولغيرهم.
كما عقدتْ بابا قارا لمختارات وإضاءات من الشعر العماني في انتقائية محكمة المعايير قدمت من على صفحاتها في أكثر من عشرة أعداد متواصلة.
وفي مجال القصة والروائية انفردت نزوى بإبداعات تنشر لأول مرة تشكل فارقا تاريخيا للأدب العماني شأن: رواية «الأحلام» الموقعة التي نحسبها عمانية، ونصوصا كتبها قصاصون من مثل: جوخة الحارثية، ومحمود الرحبي، وزهران القاسمي، وغالية آل سعيد، ومحمد العريمي، ويحيى سلام المنذري، وإبراهيم سعيد، وخالد العزري وغيرهم.
وفي مجال التاريخ العماني العام نثرت نزوى عناوين مميزة ربما لم تلق عناية من قبل من مثل: إمارة بني مكْرم، ودولة بني وجيه في عمان، ومملكة هرمز وقلهات ومكانتهما في التاريخ العماني، والعلاقة بين الأئمة والعلماء، وتطورات الدولة العمانية، والتاريخ البحري العماني، وتاريخ المدن شأن نزوى مدينة العلم والعلماء، والتاريخ البحري العماني، وعمان والتواصل الحضاري مع الأمم الأخرى، وعمان والعلاقات الجواذرية، والتاريخ العماني القديم ممثلا في الأبجديات والوسائل التعبيرية المنحوتة في الصخور العمانية.
كما اعتنت بالتاريخ العماني في الشرق الإفريقي فأفردت له عناوين من مثل: الصحافة العمانية في شرق إفريقيا ورحلات سلاطين زنجبار إلى المملكة المتحدة، ومذكرات الأميرة سالمة بنت سعيد بن سلطان، ومن الفرضاني: يوميات رحلة إلى زنجبار وممباسا ودار السلام.
وفي مجال أدب الرحلات: نشرت نزوى مقالات ودراسات ونصوص تنتمي إلى هذا الحقل، ويكاد أكثرها حضورا تلك المتصلة بما كتبه المستشرقون وترجمه العمانيون على نحو ما نجد في عناوين من مثل: «عمان في عيون الرحالة البريطانيون»، و«يوميات الرحالة «ثيسجر»، و«عين وجناح» لمحمد الحارثي، ورحلة في مخطوط الدر المنظوم في ذكر محاسن الأمصار والرسوم.
وفي المجال الثقافي والاجتماعي فقد خصصت صفحاتها أبحاثا مفصلة تتعلق بالمعمار والقلاع والحصون والأفلاج والمساجد، وتعد هذه البحوث من أهم ما كتب عنها في الثقافة العمانية.
ولم يفت نزوى التاريخ السياسي لعمان فنشرت فيها دراسات تتصل بتطورات الدولة العمانية، والعلاقة بين الأئمة والعلماء، والعلاقات الدولية لعمان الحديثة.
ولم تنس نزوى التاريخ الطبيعي لعمان فنشرت دراسات أنثروبولوجية تتصل بالطبيعة العمانية مثل: «النباتات، وبيئة السلاحف في رأس الجنز، وصيد الوعل في الفن الصخري، وعمان الواحة الذاهبة».
وفي مجال الشخصيات العمانية نشرت فصلا من سيرة الرائدة التعليمية فاطمة بنت سالم المعمرية، وسيرة الفنان التشكيلي محمد البرواني وريادته للفن المعاصر بزنجبار.
وفي مجال الدراسات النقدية والأدبية، أحاطت نزوى التجربة الأدبية بفرعيها الشعري والقصصي بعدد قارب 84 دراسة فتحت فيها بصيرة الناقد والمعالج لهذه التجربة وقضاياها واتجاهاتها الفنية، فجاءت فيها عناوين اعتنت بـ «الأمالي العمانية» و«بالنبهاني شاعر التنوع» و«أبي مسلم البهلاني شاعر عمان المتميز»، و«هلال السيابي شاعر من عمان»، و«عبدالله الريامي الشاعر الغريق» وهوية الكتابة الأنثوية في عمان، و«محمد القرمطي والبحث عن نص»، و«الوجه الدلالي للإيقاع في تجربة سماء عيسى»، وجدلية الحضور والغياب في القصة القصيرة العمانية، وجدلية الوهمي والحقيقي في رواية المعلم عبدالرزاق، وخليط التأملات والذكريات في مجموعة «جارة الوادي» لطيبة الكندية، وتحليلات فنية لمجموعة «تبكي الأرض يضحك زحل» لعبد العزيز الفارسي. ومجموعة «هل» لناصر البدري..
ويضاف إلى ذلك اعتناء نزوى بالنقد الفكري، فقدمت في عددها 109 دراسة معمقة للنقد الديني في عمان كتبها الدكتور زكريا المحرمي، وهي من أهم الدراسات العمانية، إضافة إلى مواضيع أخرى تتصل بعمان والديمقراطية الإسلامية، ومدخل التاريخ الأفكار في عمان،و«نظم السلوك في حضرة ملك الملوك» للشيخ جاعد بن خميس الخروصي.
وفي مجال الترجمة، اعتنت نزوى بالإبداعات المترجمة من ذوي الاختصاص في الشأن العماني فكانت فيها نصوص مترجمة حول «رحلة المستشرقين والرحالة إلى الديار العمانية شأن رحلة ويلفريد ثيسجر في جنوب الجزيرة العربية، وصور عمان في رحلة الأميرة ماريا دولاس إلى مسقط»
وفي مجال الحوارات والمتابعات والملفات الثقافية، اعتنت نزوى بالإرث الثقافي لشخصيات الوطن، فحاورت شخصيات لصيقة بالواقع الثقافي عبر مسيرة طويلة صحبها إنتاج ثقافي مؤصل من مثل: الشيخ عبدالله الخليلي، وأستاذنا أحمد الفلاحي والشيخ أحمد بن سعود السيابي، وهلال العامري ولم تقتصر حواراتها على ذلك بل عمدت إلى عقد حوارات مع جيل من كتابها استشرفت عمق إنتاجهم في بادرة غير مسبوقة، فعقدت حوارا معنا، وآخر مع الدكتور المحروقي، وثالثا مع الروائي زهران القاسمي، ومع حسين العبري، ومع الباحث خالد العزري، ومع المسرحي مالك المسلماني، ومع الكاتبة آمنة ربيع، ومع المترجم أحمد المعيني، كما عقدت ملفا للروائية جوخة الحارثية قبل أن تفوز بجائزة البوكر العالمية.
وفي لفتة وفاء وتذكر، عقدت ملفات ثقافية متكاملة لأدباء عمانيين رحلوا عن دنيانا وكانت لهم بصمتهم الثقافية الواضحة شأن: الأديب عبدالله الطائي، والشاعر مبارك العامري، والقاصّ عبدالعزيز الفارسي وعلي هلال المعمري، وأحمد الزبيدي ولم تقتصر على أولئك الأدباء المعروفين بل عمدت في عددها 93 إلى تخصيص ملف بالقصة القصيرة الجديدة، وآخر بالقصيدة الجديدة، والنقد الأدبي، وحول الأطباء الأدباء، وحول الترجمة في عمان، وحول مساءلة البحث النقدي شارك فيه عدد من الشعراء والقاصين والنقاد من جيل الشباب رغبة منها في تشجيع الإبداعات الشابة ووضعها في صلب المشروع الثقافي الجديد لنزوى.
وبجانب ذلك كله اعتنت نزوى بالمناسبات المئوية للشعراء والمبدعين العمانيين فقد خصصت العدد 105 للشاعر البهلاني وتناولته في أكثر من دراسة، وقدمت ملفا آخر موسعا عن الستالي شاعر النباهنة شاركنا فيه بدراسة عن تجربته وديوانه.
*****
من هذه العناصر والأركان الثلاثة التي قامت علية نزوى أعني (المحرر، والمجلة، والخطاب، يبرز دور نزوى الثقافي في صناعة الأجيال الجديدة، وهي أجيال عمانية ينتمي بعضها إلى عصر النهضة العمانية وآخرون عاشوا ما قبل هذه النهضة، يمكن تصنيفهم زمنيا في مراحل وفق عقود نزوى الثلاثة، وذلك على النحو التالي:
أولا: جيل العقد الأول (1994 – 2004)، ويمكن أن نطلق عليه جيل الجامعة، وفيه قرابة ثلاثين عددا، وأغلب كتّابه العمانيين ينتمون إلى جامعة السلطان قابوس وطلبة الدراسات العليا في الجامعات العربية والكليات الخاصة، وتبلغ نسبة الكتاب المنتمين إلى هذا الجيل قرابة 30% من مجموع كتّاب نزوى العمانيين.
ويضاف إلى هذا الجيل كتاب عرب عملوا في المؤسسات العلمية العمانية وأسهموا بفاعلية في الكتابة عن عمان ومنهم على سبيل التمثيل لا الحصر: الدكتور وليد خالص وأحمد درويش ومحمد لطفي اليوسفي وخليل الشيخ.
ثانيا: جيل العقد الثاني (2004 – 2014)، وهو جيل التشكل، وفيه أغلب المبدعين الذين نشروا في نزوى لم يصدروا إنتاجهم بعد في كتب ومجموعات ودواوين، وكانت نزوى وعاء التجريب والاختمار، والخطوة الأولى لهم في عالم النشر، ولعبت دورا تحفيزيا لهم ودافعا لارتياد هذا الأفق الثقافي، وفيه تبلغ نسبة حضورهم قرابة 50% تقريبا.
ويضاف إلى هذا العدد مثقفون عرب اضطلعوا بنقد الإبداع العماني شأن خضير و وشوقي بدر وفيصل دراج، وعبدالرحمن بن زيدان، وفتحي عبدالله.
ثالثا: جيل العقد الثالث من عمر نزوى (2014 - 2024)، وهو ما يمكن أن نسميه جيل التبلور وأغلب كتابه من الأسماء التي لقي إنتاجها إقبالا ورواجا عربيا وعالميا ويحسب لنزوى أنها صنعته ورعته وقدمته للثقافة العربية والعالمية وربما كانت سببا في ذيوع صيته وشهرته، وتبلغ نسبة من يتموضع في هذا الجيل 20% من كتاب نزوى العمانيين.
إذن فدور نزوى الثقافي عمانيا وفق هذا التقسيم يتبلور في الخصائص التالية:
- أنها فتحت أعين الثقافة العمانية بعد سبات، فسطع عبر صفحاتها جديد الخطاب، في الفن والإبداع والتفكير البحثي، كما أنها واكبت فتوحات المنجز العلمي الأكاديمي في البلاد لأقانيم مجهولة لولاها لما عرفتْ في الوسط الثقافي الجمعي، وأهم من ذلك أنها أوجدت مناخا وحاضنة أمينة لكتاب الحداثة الشعرية والقصصية وفنون شتى في الكتابة، وبالتالي خرج من عباءتها -اليوم- كتاب ومبدعون عالميون عرفوا بعُمان في المحافل العالمية.
- أنها رعتْ الأجيال الثقافية العمانية وكبرت فيها، ويكفي أن ندلل بالحجم الكمي لكتابها من جيل الشباب، وقد أحصينا عددهم في ثلاثين عددا فقط فوجدناهم 84 كاتبا ومبدعا تفاوتت كتاباتهم بين القصة والرواية والنصوص الجديدة والدراسات النقدية والسير الذاتية وأدب الرحلات.
- أنها جسدت خطاب النخبة المثقفة والمتخصصة، أو قلْ الخطاب الصحافي العلمي الحرفي الرصين الذي يتوق إليه القارئ وينشده دون مواربة وهذه خاصية التفت إليها أكثر من قرأها وعرف صفحاتها، وتعايش مع أعدادها عدد بعد عدد.
- أنها شاركت في الاحتفاء بالمناسبات الوطنية المؤثرة، فقدمت في أول أعدادها ملحقا منفصلا بمناسبة اليوبيل الفضي تناولت فيه مكونات ثقافة سلطنة عمان والركائز الخمس في بناء عُمان الحديثة، وأطلت على مكونات سلطنة عمان بدءا من دور المرأة في التنمية والتعليم النظامي، ومرورا بالفنون الغنائية، والطبيعة العمانية، وانتهاء بالتراث المعماري ومفرداته المختلفة.
وعندما اختيرت مسقط عاصمة للثقافة عام 2006م، خصصت نزوى العدد السادس والأربعين للكتابة والإبداع في سلطنة عمان، ونشرت مواضيع خاصة تبرز المشهد الثقافي العماني من مثل: أسواق عُمان القديمة، والرحالة الأجانب لعُمان في القرون الخمسة الأخيرة، وعُمان في الشعر الإنجليزي، وجيل التسعينات الشعري في عُمان، وحول القصة القصيرة في عُمان، وحول المشهد السردي في عُمان، وحول الثقافة العمانية قاطبة وحول اللهجات العمانية، وحول المخطوطات.
والملفت في هذين العددين التناول العلمي، وعدم الانزلاق في الخطاب الاحتفائي المعهود الذي تفرضه المناسبات، وعليه تلقّى القارئ العربي صورة عُمان الحديثة في كافة الإبداعات صور بانورامية شاملة التفاصيل، شملت الأسواق الأدبية القديمة في عُمان وجيل التسعينات الشعري العماني والقصة القصيرة في عُمان والمشهد السردي في عُمان وواقع المخطوط العماني والعلاقات التجارية، والمؤثرات الحضارية بين عُمان والدولة العثمانية.
- أنها ربطت عُمان بالعالم ثقافيا، في منحى لم يكن يتوافر من قبل في أية مجلة عمانية صادرة، ويعود ذلك لاستمرارية وصولها، وجودة توزيعها في العواصم العربية وربما الأوروبية.
- أنها اقتربت من النخب الثقافة العمانية، فجمعت شعراء قدماء ومحدثين، ولم تسع في أي من أعدادها إلى النشر لمن هو هامشي وضحل، وضعيف المستوى الفني، أو المبتذل موضوعيا، كما أنها لم تمارس فعل الإقصاء أو المهادنة أو الترهل أو التزييف.. لقد كان لسان حالها نزيها ونقيا وعذبا يصدر منه العلم والمعرفة والمنهج والأدب الراقي الجديد والرؤية المستنيرة والواعية المكتملة أبعادها.
- أنها عملت على غربلة الواقع العماني وبيان مفاصله، واختيار النقي منه، ثم السماح بنشره، وربما الكتابة عن ظواهره واتجاهاته الفكرية ومعيار أصالته وصلته بالواقع والقارئ معا.
- أنها اعتمدت موقف المثقف وعلاقته بالسلطة فلم يبارح خطابها اللحظات الفارقة في الشارع العربي ومنه العماني رغم أنها مجلة رسمية إلا أنها تبنت الرؤية الإصلاحية للمثقف فواكب خطابها الاعتصامات المطالبة بالإصلاح عام 2011 واستفتح عددها الـ66 بمقالين اتخذ الأول عنوانا صريحا نصه: «الاحتجاج والإصلاح المطلوب في عُمان»، بينما اتخذ الثاني «الروح الجديدة والزمن في عُمان» عنوانا، وهذا وحده يكفي للتدليل لمشاركتها في الإصلاح السياسي وبرؤية واعية غير مناصرة العبث بمقدرات وقيم الدولة وفق ميراثها الخالد.
-أنها أوجدت أرشيفا عمانيا موثقا للإنتاج الأدبي والثقافي العماني، فمن بحث عن قصيدة لشاعر جديد، أو قصة لقاص، أو دراسة لباحث يجدها فيها منشورة ورقيا وإلكترونيا، وهو أرشيف وطني يساعد المختصين في الشأن الثقافي معرفة الإبداعات والكتابات الوطنية والاستفادة منها في خطط التنمية الثقافية.
أنها ابتعدت عن الاحتفاء بالتجارب وإطلاق المسميات والألقاب المجانية على كتابها، فلا يوجد فيها مصطلحات «الأديب الكبير» ولا «الكاتب البارع» ولا الباحث القدير وغيرها من الصفات التي رانت عليها بعض وسائل البث الثقافي الإعلامي، وصدرتها بكثافة دون وعي.
لم تقتصر نزوى ضمن اهتمامها بالثقافة الوطنية على الأقلام العمانية، بل عمدت إلى نشر دراسات لكتاب ومؤرخين ونقاد عرب تناولوا فروع هذه الثقافة، ففيها نقرأ دراسة عن المعارضات الشعرية في عمان للدكتور أيمن ميدان، ودراسات أخرى كتبها أساتذة الجامعة أمثال الدكتور أحمد يوسف، ومحمد زروق، ووليد خالص وأحمد درويش وغيرهم.
- أنها نافذة عربية أطل منها المثقف العربي على الأدب والثقافة العمانية، وبفعلها قدم الناقد العربي رؤيته للإبداع العماني في التفاتة غير مسبوقة، ولم تقتصر على مقالاتها المنشورة في أبوابها وفصولها وإنما عضدته بكتاب دوري يصدر معها في كل عدد، وقد وصلت أعداده (61) كتابا، وفيه نقرأ عناوين منتقاة، تنطلق من مرجعيات الثقافة العمانية وثوابتها.
أخيرا..
أختم كلمتي بالشهادات الذهبية التي رصعها الكتاب العرب المرموقين لنزوى مبينين دورها في خدمة الثقافة العربية ومنها العمانية، فنزوى كما وصفها الروائي يوسف القعيد «ليست مجرد مجلة، بل هي حلم وطنْ، وهي الفرح القادم من سلطنة عمان».
ونزوى في شهادة الناقد الجزائري عبد الملك مرتاض: «أول سفير لعُمان في البلدان العربية مشرقها ومغربها».
وفي رسالة الروائية غادة السمان «نزوى هدية سلطنة عمان لأبناء الضاد، وهي مجلة استطاعت أن تجمع الأصالة والمعاصرة، وأن تبتدع واحة تعارف فكرية وارفة الظلال في حالة صيرورة دائمة الديناميكية والتجدد والانفتاح» وما هي إلا كذلك.
الدكتور محسن بن حمود الكندي مستشار البحث العلمي في الجامعة الألمانية بمسقط
كما أنها أرستْ دعائم الثقافة العمانية ووضعتْ على عاتقها مهمة تصديرها للثقافة العربية والعالمية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى بعيدًا عن الأيديولوجيات والشعارات الجوفاء والأفكار الهدامة، ويمكن بيان ذلك فيما أحدثته من أدوار محورية في أجيال الثقافة العمانية على امتداد صدورها الموفق بدءا من تاريخ 18 من نوفمبر1994م حتى اليوم بعدد قارب سبعة عشر ومائة عدد صدرت دون انقطاع رغم الظروف التي أحاطتْ بها وعصفتْ بها إبان المحنة المرضية التي مرت بها الدنيا وما صاحبها من تداعيات على كافة المستويات السياسية والاقتصادية؛ ويعود ذلك إلى عدة عوامل أهمها المصداقية والرغبة في الحضور، وتحقيق الأهداف والتطلعات السامية الرامية إلى خدمة الثقافة والوطن، وقد دعمتْ ذلك الجهة الصادرة منها ممثلة في وزارة الإعلام الموقرة، والهمة العالية لرئيس التحرير ومعه طاقم التحرير الذين عملوا بجد لإخراج أعدادها بأثواب قشيبة وألبسة زاهية بعيدا عن التصنع والتكلف والمباهاة والبهرجة الإعلامية الجوفاء.
نزوى اليوم.. وهي في مقامها هذا، تقف في طليعة المجلات العربية التي اتخذت الإصلاح طريقا، والتنوير منهجا، والتجديد رسالة، وحق لها هذه الصدارة، فما من بلد قصدناه إلا ويسألنا مثقفوه عنها، إنها -حقا- رسالة عمان إلى العالم، رسالة يمكن تبيان محتواها، وإيضاح فحواها عبر الأركان والعناصر السابقة على النحو الآتي:
فالمجلة كما تعرفها الأدبيات التي أرختْ لها، هي مجلة فصلية ثقافية متخصصة ذات هوية عمانية بحتة يتناسب اسمها واسم المدينة المعروفة الضاربة جذورها في التاريخ العريق، وقد جسدتْ نزوى المجلة الثقافة العمانية في شكلها قبل أبوابها وفصولها ومباحثها، فكانت صور أغلفتها دالة عليها في خصوصية واضحة المعالم، لا تبارح ذلك التاريخ المجيد، فهي كالمدينة أصالة، وكتفاصيلها تاريخا وكتفاصيلها هندسة وإبداعا، وقد قدمتْ الشعر والشعراء، والقصة والقصاصين، والرواية والروائيين، وكتاب المسرح والفنانين بنسب رقمية تتراوح بين 25 -30% في كل عدد، كما كانت فيها فصول للحوارات والمتابعات والدراسات النقدية، وأخص بالذكر منها ما كتبناه وكتبه زملاؤنا أساتذة جامعة السلطان قابوس منذ التأسيس حتى اليوم؛ فقد رعتنا مذ كنا طلبة للدراسات العليا بتقديم أطروحاتنا وأبحاثنا، ونشرتها تباعا في أعدادها مراهنة بذلك علينا، وعلى إنتاجنا البحثي والنقدي ومؤكدة على كونها مجلة تدعو إلى فتح منافذ التفكير مشرعة للكاتب العماني بغية اطلاعه على الانفتاح في مختلف التيارات والاتجاهات والمذاهب الأدبية وتقديمه للقارئ العربي الذي لطالما جهل به وتجاهله عنوة، أو بغير عنوة، فلم يلتفت إليه في أدبياته وصحفه ومجلاته المرموقة مستظلا بعقد هيمنة المراكز على الأطراف.
والمحرر، هو ذلك الشاعر الكبير سعادة سيف الرحبي الذي ملأت شهرته الآفاق، فشغل به النقاد والدارسون، في ظاهرة نوعية إبداعية بالغة الأهمية في عصرنا الحديث، ولست هنا في مقام الحديث عن شخصيته الشعرية العالية بقدر ما أشير إلى أن حضوره المبكر في منابر الصحافة العربية أتاح له تكوين خبرة صحفية ثقافية واعية ومستنيرة استثمرها في نزوى، فجعلها نبراسًا يستظل به في تجربته وهو يحرر نزوى، وقد وجدت له اشتغالات صحفية مبكرة وإبداعات شعرية ونصوصًا قصصية منشورة في الصحافة العربية البيروتية والقاهرية والخليجية، ومن أطرفها كتاباته القصصية والشعرية في مجلة «الأزمنة العربية»، ومجلة «كلمات» البحرينية، و«الكرمل» وغيرها، وهي مرجعيات مبكرة لا تجعل منه فقط شاعرا مبدعا سما بالشعر سموا، وإنما فيما ارتقى به إلى ميدان الصحافة فهي وعاؤه الحافظ ومكمنه المكين، وهو سليلها الأصيل بلا منازع وغير منْبت عنها، وقدراته في هذا الجانب قدرات باهرة، يعمل فيها بوعي ويمارس فعله بصمت وإدراك وبصيرة وتوأده وفق استراتيجيات محْكمة استفادت منها نزوى، فعرف بها وعرفت به حقا.
لعب سعادة سيف الرحبي دورًا محوريًا في ثقافتنا العمانية عبر مجلة نزوى، فما من افتتاحية كتبها إلا ويدعو إلى الاهتمام بها، ومنحها المقام الأرفع، والأولوية القصوى تقديرا لها وعرفانا بجوهرها، ومعرفة بمكانتها، فطرق أدق خصوصياتها ووظف ثيماتها وأفكارها، واستخدم مفرداتها ومكوناتها تناصات فنية في شعره ونثره، ولم يقتصر على ذلك بل قدمها للقارئ العربي بفخر واعتزاز متكئا على النص النابض بالحركة والحياة، كما أنه عمد إلى اتخاذ مفرداتها لتكون عناوين لنصوصه ومجموعاته الشعرية منحوتة من صم الجبال العمانية وموظفة في سياق فني عالي الجودة والإتقان، وقد التقت إلى ذلك كل من درسه فوجده إنتاجا يمتح من بيئة عمانية خصبة معطاءة مثمرة يؤتى أكلها كل حين.
أما الخطاب، أعني به خطاب نزوى، فهو خطاب نخبوي طليعي عالي القيمة، رفيع المستوى، تعضده رؤى التجريب والحداثة، دون نسيان لأسس وثوابت ما أصله التراث العربي من قواعد اللغة والأسلوب والعبارة والموضوع، ودون عبث، أو هدم أو مساس بالقيم الثقافية الأصول ومقدرات الهوية وهما عنصران مهمان تتميز بهما نزوى ولا يمكن تغافلهما أو التسامح فيهما، فخطاب نزوى رصين عميق يرنو إلى الجديد النابع من القديم الأصيل تراثا وحضارة، وهو ركن حضاري اتكأت عليه نزوى إذ لا تجد فيها إلا النصوص العمانية المستوحاة من التراث معالجة بأرقى مناهج النقد وتأويلاته، أو قلْ مقدمة بها؛ لذا وجدنا الأجيال العمانية فيها تتوارد وتتوالى، فيختلط التقليديون بالمحدثين وشعارها الخطاب الهادف، والإبداع المتكأ على مرجعيات التاريخ الأصيلة، فهي لا تنشر الإنتاج لقدمه أو حداثته ولا يهمها الشكل ولا المضمون في حد ذاتهما بقدر ما يهمها التأصيل والانغراس في تربة الثقافة العربية؛ ليكون خطابها خطابا عمانيا يقرأه العربي ولا يجد فيه خروجا عن ثوابته وقواعده المنصوص عليها، وقد أشارت إلى ذلك مرارا مقدمات رئيس التحرير وافتتاحياته، ومن بينها؛ افتتاحيته الضافية في العدد 46 حين قال: «لم تغب الثقافة العمانية عن هاجس المجلة وشجنها وهمها، هي التي انطلقت أساسا من أفقها بطموح التأسيس عمانيا والمساهمة الفاعلة عربيا».
أذنت نزوى لكل أشكال الخطابات العمانية الجديدة الجادة واحتضنتها، واتخذتها ميدانا رحبا لاختبار الأفكار والأساليب برؤية تنحو منحى الانفتاح والمغايرة والخروج من ثبات المعرفة وسائدها، واكتشاف الإبداع الناضج واضعة نصْب عينيها معايير القيمة والأهمية والتأثير، وفي هذا المقام خرج من عباءة نزوى كتّاب ومبدعون عمانيون وصلوا بمستوياتهم إلى الفوز بجوائز (البوكر) العالمية في القصة والرواية، وإلى منصات التتويج في المسابقات العربية الكبيرة محتلين المراكز الأولى فيها.
ولم تتوقف نزوى على نشر إنتاج الجيل الجديد المحْدث منهم، بل أوقدت شرارة التوهج للإبداع التقليدي لدى العمالقة الكبار، فأوجدت بين صفحاتها مختارات شعرية تقليدية موزونة مقفاة لشاعر البيان ابن شيخان، ولأفقه الشعراء أبي مسلم البهلاني، وللمحقق سعيد بن خلفان الخليلي، ولشاعر الاستنهاض أبي سلام الكندي، ولأمير البيان عبدالله الخليلي، ولعبدالله الطائي ولغيرهم.
كما عقدتْ بابا قارا لمختارات وإضاءات من الشعر العماني في انتقائية محكمة المعايير قدمت من على صفحاتها في أكثر من عشرة أعداد متواصلة.
وفي مجال القصة والروائية انفردت نزوى بإبداعات تنشر لأول مرة تشكل فارقا تاريخيا للأدب العماني شأن: رواية «الأحلام» الموقعة التي نحسبها عمانية، ونصوصا كتبها قصاصون من مثل: جوخة الحارثية، ومحمود الرحبي، وزهران القاسمي، وغالية آل سعيد، ومحمد العريمي، ويحيى سلام المنذري، وإبراهيم سعيد، وخالد العزري وغيرهم.
وفي مجال التاريخ العماني العام نثرت نزوى عناوين مميزة ربما لم تلق عناية من قبل من مثل: إمارة بني مكْرم، ودولة بني وجيه في عمان، ومملكة هرمز وقلهات ومكانتهما في التاريخ العماني، والعلاقة بين الأئمة والعلماء، وتطورات الدولة العمانية، والتاريخ البحري العماني، وتاريخ المدن شأن نزوى مدينة العلم والعلماء، والتاريخ البحري العماني، وعمان والتواصل الحضاري مع الأمم الأخرى، وعمان والعلاقات الجواذرية، والتاريخ العماني القديم ممثلا في الأبجديات والوسائل التعبيرية المنحوتة في الصخور العمانية.
كما اعتنت بالتاريخ العماني في الشرق الإفريقي فأفردت له عناوين من مثل: الصحافة العمانية في شرق إفريقيا ورحلات سلاطين زنجبار إلى المملكة المتحدة، ومذكرات الأميرة سالمة بنت سعيد بن سلطان، ومن الفرضاني: يوميات رحلة إلى زنجبار وممباسا ودار السلام.
وفي مجال أدب الرحلات: نشرت نزوى مقالات ودراسات ونصوص تنتمي إلى هذا الحقل، ويكاد أكثرها حضورا تلك المتصلة بما كتبه المستشرقون وترجمه العمانيون على نحو ما نجد في عناوين من مثل: «عمان في عيون الرحالة البريطانيون»، و«يوميات الرحالة «ثيسجر»، و«عين وجناح» لمحمد الحارثي، ورحلة في مخطوط الدر المنظوم في ذكر محاسن الأمصار والرسوم.
وفي المجال الثقافي والاجتماعي فقد خصصت صفحاتها أبحاثا مفصلة تتعلق بالمعمار والقلاع والحصون والأفلاج والمساجد، وتعد هذه البحوث من أهم ما كتب عنها في الثقافة العمانية.
ولم يفت نزوى التاريخ السياسي لعمان فنشرت فيها دراسات تتصل بتطورات الدولة العمانية، والعلاقة بين الأئمة والعلماء، والعلاقات الدولية لعمان الحديثة.
ولم تنس نزوى التاريخ الطبيعي لعمان فنشرت دراسات أنثروبولوجية تتصل بالطبيعة العمانية مثل: «النباتات، وبيئة السلاحف في رأس الجنز، وصيد الوعل في الفن الصخري، وعمان الواحة الذاهبة».
وفي مجال الشخصيات العمانية نشرت فصلا من سيرة الرائدة التعليمية فاطمة بنت سالم المعمرية، وسيرة الفنان التشكيلي محمد البرواني وريادته للفن المعاصر بزنجبار.
وفي مجال الدراسات النقدية والأدبية، أحاطت نزوى التجربة الأدبية بفرعيها الشعري والقصصي بعدد قارب 84 دراسة فتحت فيها بصيرة الناقد والمعالج لهذه التجربة وقضاياها واتجاهاتها الفنية، فجاءت فيها عناوين اعتنت بـ «الأمالي العمانية» و«بالنبهاني شاعر التنوع» و«أبي مسلم البهلاني شاعر عمان المتميز»، و«هلال السيابي شاعر من عمان»، و«عبدالله الريامي الشاعر الغريق» وهوية الكتابة الأنثوية في عمان، و«محمد القرمطي والبحث عن نص»، و«الوجه الدلالي للإيقاع في تجربة سماء عيسى»، وجدلية الحضور والغياب في القصة القصيرة العمانية، وجدلية الوهمي والحقيقي في رواية المعلم عبدالرزاق، وخليط التأملات والذكريات في مجموعة «جارة الوادي» لطيبة الكندية، وتحليلات فنية لمجموعة «تبكي الأرض يضحك زحل» لعبد العزيز الفارسي. ومجموعة «هل» لناصر البدري..
ويضاف إلى ذلك اعتناء نزوى بالنقد الفكري، فقدمت في عددها 109 دراسة معمقة للنقد الديني في عمان كتبها الدكتور زكريا المحرمي، وهي من أهم الدراسات العمانية، إضافة إلى مواضيع أخرى تتصل بعمان والديمقراطية الإسلامية، ومدخل التاريخ الأفكار في عمان،و«نظم السلوك في حضرة ملك الملوك» للشيخ جاعد بن خميس الخروصي.
وفي مجال الترجمة، اعتنت نزوى بالإبداعات المترجمة من ذوي الاختصاص في الشأن العماني فكانت فيها نصوص مترجمة حول «رحلة المستشرقين والرحالة إلى الديار العمانية شأن رحلة ويلفريد ثيسجر في جنوب الجزيرة العربية، وصور عمان في رحلة الأميرة ماريا دولاس إلى مسقط»
وفي مجال الحوارات والمتابعات والملفات الثقافية، اعتنت نزوى بالإرث الثقافي لشخصيات الوطن، فحاورت شخصيات لصيقة بالواقع الثقافي عبر مسيرة طويلة صحبها إنتاج ثقافي مؤصل من مثل: الشيخ عبدالله الخليلي، وأستاذنا أحمد الفلاحي والشيخ أحمد بن سعود السيابي، وهلال العامري ولم تقتصر حواراتها على ذلك بل عمدت إلى عقد حوارات مع جيل من كتابها استشرفت عمق إنتاجهم في بادرة غير مسبوقة، فعقدت حوارا معنا، وآخر مع الدكتور المحروقي، وثالثا مع الروائي زهران القاسمي، ومع حسين العبري، ومع الباحث خالد العزري، ومع المسرحي مالك المسلماني، ومع الكاتبة آمنة ربيع، ومع المترجم أحمد المعيني، كما عقدت ملفا للروائية جوخة الحارثية قبل أن تفوز بجائزة البوكر العالمية.
وفي لفتة وفاء وتذكر، عقدت ملفات ثقافية متكاملة لأدباء عمانيين رحلوا عن دنيانا وكانت لهم بصمتهم الثقافية الواضحة شأن: الأديب عبدالله الطائي، والشاعر مبارك العامري، والقاصّ عبدالعزيز الفارسي وعلي هلال المعمري، وأحمد الزبيدي ولم تقتصر على أولئك الأدباء المعروفين بل عمدت في عددها 93 إلى تخصيص ملف بالقصة القصيرة الجديدة، وآخر بالقصيدة الجديدة، والنقد الأدبي، وحول الأطباء الأدباء، وحول الترجمة في عمان، وحول مساءلة البحث النقدي شارك فيه عدد من الشعراء والقاصين والنقاد من جيل الشباب رغبة منها في تشجيع الإبداعات الشابة ووضعها في صلب المشروع الثقافي الجديد لنزوى.
وبجانب ذلك كله اعتنت نزوى بالمناسبات المئوية للشعراء والمبدعين العمانيين فقد خصصت العدد 105 للشاعر البهلاني وتناولته في أكثر من دراسة، وقدمت ملفا آخر موسعا عن الستالي شاعر النباهنة شاركنا فيه بدراسة عن تجربته وديوانه.
*****
من هذه العناصر والأركان الثلاثة التي قامت علية نزوى أعني (المحرر، والمجلة، والخطاب، يبرز دور نزوى الثقافي في صناعة الأجيال الجديدة، وهي أجيال عمانية ينتمي بعضها إلى عصر النهضة العمانية وآخرون عاشوا ما قبل هذه النهضة، يمكن تصنيفهم زمنيا في مراحل وفق عقود نزوى الثلاثة، وذلك على النحو التالي:
أولا: جيل العقد الأول (1994 – 2004)، ويمكن أن نطلق عليه جيل الجامعة، وفيه قرابة ثلاثين عددا، وأغلب كتّابه العمانيين ينتمون إلى جامعة السلطان قابوس وطلبة الدراسات العليا في الجامعات العربية والكليات الخاصة، وتبلغ نسبة الكتاب المنتمين إلى هذا الجيل قرابة 30% من مجموع كتّاب نزوى العمانيين.
ويضاف إلى هذا الجيل كتاب عرب عملوا في المؤسسات العلمية العمانية وأسهموا بفاعلية في الكتابة عن عمان ومنهم على سبيل التمثيل لا الحصر: الدكتور وليد خالص وأحمد درويش ومحمد لطفي اليوسفي وخليل الشيخ.
ثانيا: جيل العقد الثاني (2004 – 2014)، وهو جيل التشكل، وفيه أغلب المبدعين الذين نشروا في نزوى لم يصدروا إنتاجهم بعد في كتب ومجموعات ودواوين، وكانت نزوى وعاء التجريب والاختمار، والخطوة الأولى لهم في عالم النشر، ولعبت دورا تحفيزيا لهم ودافعا لارتياد هذا الأفق الثقافي، وفيه تبلغ نسبة حضورهم قرابة 50% تقريبا.
ويضاف إلى هذا العدد مثقفون عرب اضطلعوا بنقد الإبداع العماني شأن خضير و وشوقي بدر وفيصل دراج، وعبدالرحمن بن زيدان، وفتحي عبدالله.
ثالثا: جيل العقد الثالث من عمر نزوى (2014 - 2024)، وهو ما يمكن أن نسميه جيل التبلور وأغلب كتابه من الأسماء التي لقي إنتاجها إقبالا ورواجا عربيا وعالميا ويحسب لنزوى أنها صنعته ورعته وقدمته للثقافة العربية والعالمية وربما كانت سببا في ذيوع صيته وشهرته، وتبلغ نسبة من يتموضع في هذا الجيل 20% من كتاب نزوى العمانيين.
إذن فدور نزوى الثقافي عمانيا وفق هذا التقسيم يتبلور في الخصائص التالية:
- أنها فتحت أعين الثقافة العمانية بعد سبات، فسطع عبر صفحاتها جديد الخطاب، في الفن والإبداع والتفكير البحثي، كما أنها واكبت فتوحات المنجز العلمي الأكاديمي في البلاد لأقانيم مجهولة لولاها لما عرفتْ في الوسط الثقافي الجمعي، وأهم من ذلك أنها أوجدت مناخا وحاضنة أمينة لكتاب الحداثة الشعرية والقصصية وفنون شتى في الكتابة، وبالتالي خرج من عباءتها -اليوم- كتاب ومبدعون عالميون عرفوا بعُمان في المحافل العالمية.
- أنها رعتْ الأجيال الثقافية العمانية وكبرت فيها، ويكفي أن ندلل بالحجم الكمي لكتابها من جيل الشباب، وقد أحصينا عددهم في ثلاثين عددا فقط فوجدناهم 84 كاتبا ومبدعا تفاوتت كتاباتهم بين القصة والرواية والنصوص الجديدة والدراسات النقدية والسير الذاتية وأدب الرحلات.
- أنها جسدت خطاب النخبة المثقفة والمتخصصة، أو قلْ الخطاب الصحافي العلمي الحرفي الرصين الذي يتوق إليه القارئ وينشده دون مواربة وهذه خاصية التفت إليها أكثر من قرأها وعرف صفحاتها، وتعايش مع أعدادها عدد بعد عدد.
- أنها شاركت في الاحتفاء بالمناسبات الوطنية المؤثرة، فقدمت في أول أعدادها ملحقا منفصلا بمناسبة اليوبيل الفضي تناولت فيه مكونات ثقافة سلطنة عمان والركائز الخمس في بناء عُمان الحديثة، وأطلت على مكونات سلطنة عمان بدءا من دور المرأة في التنمية والتعليم النظامي، ومرورا بالفنون الغنائية، والطبيعة العمانية، وانتهاء بالتراث المعماري ومفرداته المختلفة.
وعندما اختيرت مسقط عاصمة للثقافة عام 2006م، خصصت نزوى العدد السادس والأربعين للكتابة والإبداع في سلطنة عمان، ونشرت مواضيع خاصة تبرز المشهد الثقافي العماني من مثل: أسواق عُمان القديمة، والرحالة الأجانب لعُمان في القرون الخمسة الأخيرة، وعُمان في الشعر الإنجليزي، وجيل التسعينات الشعري في عُمان، وحول القصة القصيرة في عُمان، وحول المشهد السردي في عُمان، وحول الثقافة العمانية قاطبة وحول اللهجات العمانية، وحول المخطوطات.
والملفت في هذين العددين التناول العلمي، وعدم الانزلاق في الخطاب الاحتفائي المعهود الذي تفرضه المناسبات، وعليه تلقّى القارئ العربي صورة عُمان الحديثة في كافة الإبداعات صور بانورامية شاملة التفاصيل، شملت الأسواق الأدبية القديمة في عُمان وجيل التسعينات الشعري العماني والقصة القصيرة في عُمان والمشهد السردي في عُمان وواقع المخطوط العماني والعلاقات التجارية، والمؤثرات الحضارية بين عُمان والدولة العثمانية.
- أنها ربطت عُمان بالعالم ثقافيا، في منحى لم يكن يتوافر من قبل في أية مجلة عمانية صادرة، ويعود ذلك لاستمرارية وصولها، وجودة توزيعها في العواصم العربية وربما الأوروبية.
- أنها اقتربت من النخب الثقافة العمانية، فجمعت شعراء قدماء ومحدثين، ولم تسع في أي من أعدادها إلى النشر لمن هو هامشي وضحل، وضعيف المستوى الفني، أو المبتذل موضوعيا، كما أنها لم تمارس فعل الإقصاء أو المهادنة أو الترهل أو التزييف.. لقد كان لسان حالها نزيها ونقيا وعذبا يصدر منه العلم والمعرفة والمنهج والأدب الراقي الجديد والرؤية المستنيرة والواعية المكتملة أبعادها.
- أنها عملت على غربلة الواقع العماني وبيان مفاصله، واختيار النقي منه، ثم السماح بنشره، وربما الكتابة عن ظواهره واتجاهاته الفكرية ومعيار أصالته وصلته بالواقع والقارئ معا.
- أنها اعتمدت موقف المثقف وعلاقته بالسلطة فلم يبارح خطابها اللحظات الفارقة في الشارع العربي ومنه العماني رغم أنها مجلة رسمية إلا أنها تبنت الرؤية الإصلاحية للمثقف فواكب خطابها الاعتصامات المطالبة بالإصلاح عام 2011 واستفتح عددها الـ66 بمقالين اتخذ الأول عنوانا صريحا نصه: «الاحتجاج والإصلاح المطلوب في عُمان»، بينما اتخذ الثاني «الروح الجديدة والزمن في عُمان» عنوانا، وهذا وحده يكفي للتدليل لمشاركتها في الإصلاح السياسي وبرؤية واعية غير مناصرة العبث بمقدرات وقيم الدولة وفق ميراثها الخالد.
-أنها أوجدت أرشيفا عمانيا موثقا للإنتاج الأدبي والثقافي العماني، فمن بحث عن قصيدة لشاعر جديد، أو قصة لقاص، أو دراسة لباحث يجدها فيها منشورة ورقيا وإلكترونيا، وهو أرشيف وطني يساعد المختصين في الشأن الثقافي معرفة الإبداعات والكتابات الوطنية والاستفادة منها في خطط التنمية الثقافية.
أنها ابتعدت عن الاحتفاء بالتجارب وإطلاق المسميات والألقاب المجانية على كتابها، فلا يوجد فيها مصطلحات «الأديب الكبير» ولا «الكاتب البارع» ولا الباحث القدير وغيرها من الصفات التي رانت عليها بعض وسائل البث الثقافي الإعلامي، وصدرتها بكثافة دون وعي.
لم تقتصر نزوى ضمن اهتمامها بالثقافة الوطنية على الأقلام العمانية، بل عمدت إلى نشر دراسات لكتاب ومؤرخين ونقاد عرب تناولوا فروع هذه الثقافة، ففيها نقرأ دراسة عن المعارضات الشعرية في عمان للدكتور أيمن ميدان، ودراسات أخرى كتبها أساتذة الجامعة أمثال الدكتور أحمد يوسف، ومحمد زروق، ووليد خالص وأحمد درويش وغيرهم.
- أنها نافذة عربية أطل منها المثقف العربي على الأدب والثقافة العمانية، وبفعلها قدم الناقد العربي رؤيته للإبداع العماني في التفاتة غير مسبوقة، ولم تقتصر على مقالاتها المنشورة في أبوابها وفصولها وإنما عضدته بكتاب دوري يصدر معها في كل عدد، وقد وصلت أعداده (61) كتابا، وفيه نقرأ عناوين منتقاة، تنطلق من مرجعيات الثقافة العمانية وثوابتها.
أخيرا..
أختم كلمتي بالشهادات الذهبية التي رصعها الكتاب العرب المرموقين لنزوى مبينين دورها في خدمة الثقافة العربية ومنها العمانية، فنزوى كما وصفها الروائي يوسف القعيد «ليست مجرد مجلة، بل هي حلم وطنْ، وهي الفرح القادم من سلطنة عمان».
ونزوى في شهادة الناقد الجزائري عبد الملك مرتاض: «أول سفير لعُمان في البلدان العربية مشرقها ومغربها».
وفي رسالة الروائية غادة السمان «نزوى هدية سلطنة عمان لأبناء الضاد، وهي مجلة استطاعت أن تجمع الأصالة والمعاصرة، وأن تبتدع واحة تعارف فكرية وارفة الظلال في حالة صيرورة دائمة الديناميكية والتجدد والانفتاح» وما هي إلا كذلك.
الدكتور محسن بن حمود الكندي مستشار البحث العلمي في الجامعة الألمانية بمسقط