عمان العلمي

من يسكن أمعاءك؟!

 
ترجمة: أحمد الكلباني -

جميعنا مصابون بالعفن، ولو بشكل جزئي! وهذا الأمر صحيح حرفيًا، فأجسامنا أصبحت موطنًا لعدد كبير جدًا من الفطريات، وهي موزعة على جلدنا وفي أفواهنا وفي أحشائنا كذلك، وأصبحت الفطريات متكيفة مع أجسامنا بشكل جيد، بل أصبح بعضها لا يستطيع العيش خارج جسم الإنسان، ورغم ذلك لا نعرف سوى القليل جدًا عن هذا «الميكروبيوم» وما يمكن أن يفعله في أجسادنا.

نعلم جيدًا أن الفطريات موجودة، وقد قمنا بقراءة حمضها النووي، ولكننا في الماضي لم تكن لدينا المعلومات الكافية ما إذا كانت تلك الفطريات مفيدة لأجسادنا، أم أنها وصلت إلينا من خلال التقاطها بعوامل خارجية أو انتقلت عن طريق عدوى، ولكن العلماء اليوم أصبحوا مهتمين جدًا بدراسة البكتيريا الموجودة في الأمعاء، وهذا ما دفعهم أيضا للبحث جيدا حول الفطريات لكشف الأسرار التي تحملها.

وما تم اكتشافه فعلا من قبل الباحثين أن الفطريات الموجودة في أجسامنا من الممكن جدًا أن يكون لها تأثير كبير علينا وعلى صحتنا، وهذا الأمر يزيد من احتمالية إمكانية التلاعب بها لتعزيز قدرتنا على مقاومة بعض الأمراض.

وإنه من المفرح أنَّ تلك الجهود البحثية لم تبدأ من الصفر، فالبداية كانت بعلم الباحثين أن الفطريات الموجودة في أجسامنا، وهي أقل تنوعا من البكتيريا، وذلك بمعدل أقل بحوالي 10 مرات، وفق ما قالت «ليندسي كالان» من جامعة «ماكماستر» في أونتاريو بكندا، ويعلم الباحثون أيضا أن الفطريات تظهر بشكل مستمر، ومثلا، يشكل نوع الخميرة المسمى بـ«مالاسيزيا» أغلب أنواع الفطريات الموجودة على جلودنا كما تقول «ليندسي كالان».

خلال الفترة القريبة الماضية، لم يكن لدينا معرفة كبيرة بمدى اختلاف أنواع الفطريات التي تعيش في أجسامنا، أما اليوم فالأدلة الجديدة تؤكد مدى الاختلاف بينها إلى حد كبير، وبشكل خاص حينما نتقدم في السن مع احتمالية تعرضنا لأمراض معينة.

في العام الماضي، قام الباحثون بدراسة عينات من فطريات الأمعاء أُخِذَت من 3363 شخصًا من 3 قارات مختلفة، وتمكنت الدراسة من تقسيم العينات إلى أربع مجموعات، ارتبطت مجموعات معينة ارتباطًا قويًا بالعمر، فعلى سبيل المثال، تركزت فطريات تدعى «المبيضات» عند كبار السن، بمعنى أنهم الأكثر عرضة لها، وارتبط ذلك عندهم بزيادة احتمالية إصابتهم بعدد من الأمراض المرتبطة بضعف الحاجز المعوي، مثل بعض أنواع السرطانات وأمراض الأمعاء والسكري، وفي هذا الجانب أشار الباحث «محمود غنوم» من جامعة «كيس ويسترن ريزيرف» في أوهايو إلى وجود ست مجموعات من هذه الفطريات المعوية، وذلك في كتابه «توتال جيت بالانس».

وتقول «ليندسي كالان»: إن جميع أنواع الفطريات في أجسامنا من الممكن أن تكون «مسببة للمرض»، وهذا يحيلنا إلى نتيجة مفادها أن جميع تلك الفطريات تنتقل بالعدوى، ولكن بشكل أساسي يكون تأثيرها معتمدًا على درجة ضعف الإنسان، وتقول: «الفطريات قد تكون مزعجة لشخص ما، بينما تكون قاتلة لشخص آخر».

ومن الأمثلة الأكثر إثارة، مثال الخميرة المعروفة بـ«كانديدا أوريس» والتي تم اكتشافها في اليابان أول مرة عام 2009، ومنذ اكتشافها انتشرت إلى درجة التهديد بالخطر، وكانت المناطق الأكثر انتشارًا فيها هي مواقع الرعاية الصحية، فقد تم اكتشاف العديد من الممرضين بأنهم يعانون بعد مدة من ضعف المناعة، وهذه الفطريات مقاومة لعدد كبير من العلاجات، وهو الأمر الذي ساعد على اكتشاف أسباب زيادة معدلات الوفيات للأشخاص المصابين بنسبة تتراوح بين 30 إلى 60 بالمائة، وتقول «ليندسي كالان» إن معدل انتقال هذه الفطريات بالعدوى منخفض جدًا، ولكن لا يزال الأمر خطيرًا للغاية إذا تعرض الإنسان للإصابة بهذه العدوى».

كما توصل الباحثون إلى أدلة تؤكد أن فطريات الأمعاء يمكن أن تؤدي إلى تفاقم وإطالة مدة الالتهابات الفيروسية، ومثال ذلك فايروس «كوفيد-19» الذي انتشر في الفترة الأخيرة، ووجد الباحثون الذين يقودهم «إليان إلييف» من جامعة «كورنيل» في نيويورك أن الأشخاص الذين أصيبوا بمضاعفات حادة نتيجة «كوفيد-19» كانوا أيضا يحملون في أمعائهم معدلات أكبر من «المبيضات البيضاء»، وأدى ذلك إلى تكسر كريات الدم البيضاء، والتي تلعب دورًا كبيرًا في الاستجابة المناعية، كما أنها تجعل التعافي من الأمراض أمرا صعبا عند وجودها بنسبة كبيرة، ولا يزال أمر اكتشاف توقيع الجهاز المناعي ممكنا بعد مرور عام، ويؤكد «إليان إلييف»: «أن هناك ارتباطًا بمرض كوفيد طويل المدة مع الفطريات، ولكن ليس بشكل مباشر، ولا يمكننا أن نقول إن الفطريات تسبب كوفيد طويل الأمد، هناك ارتباط لم نفهمه إلى الآن».

ووفقًا لذلك كله، فإننا كباحثين نعمل على تعميق فهمنا لكيفية تأثير الفطريات في الأمعاء على حالات متعددة، وعلى سبيل المثال، فقد وجد فريق «محمود غنوم» البحثي أن هناك تفاعلات بين البكتيريا والفطريات الموجودة في الأمعاء يمكن أن تلعب دورًا في مرض «كرون»، فعندما تعيش البكتيريا بجانب فطريات حميدة مثل فطر «كانديدا تروبيكاليس» يحدث ما يشبه تكوينات خيوطية تقوم تلك التكوينات بإطلاق إنزيمات تمتص العناصر الغذائية، يقول الباحث «محمود غنوم»: «توصلنا إلى أن الإنزيمات تلك تسبب ما يشبه الثقوب في بطانة الأمعاء»، وهذا شبيه لما توصل إليه فريق «إليان إلييف» كذلك في عام 2022 من أن بعضا من سلالات بكتيريا «سي ألباينكاس» التي تسكن في الأمعاء هي السبب في إحداث مرض التهاب الأمعاء «كرون».

تقوم الباحثة «ليندسي كالان» كذلك بدراسة تأثير تفاعل البكتيريا مع الفطريات على الجلد، إذ تقوم بدراسة الجروح المزمنة، مثل جروح القدم السكرية التي تلتئم بشكل بطيء جدا، ووجد فريقها البحثي أن «المبيضات البيضاء» في أشباه هذه الجروح يمكن أن يتم تحفيزها فتنتج خيوطا عن طريق بكتيريا تسمى بـ«سايتوباكتير فروندي» ما يؤدي إلى مضاعفات خطيرة في تلك الجروح وزيادة احتمالية التهابها.

وكذلك هنالك بشكل مبدئي روابط بين وجود الفطريات في الأمعاء والإصابة بالسرطان، حيث أشار فريق «محمود غنوم» في عام 2017 إلى أن المصابين بنوع معين من سرطان اللسان لديهم تنوع غير طبيعي من الميكروبات في فَمِهِم، وهذا التنوع غير موجود لدى عدد كبير من الأشخاص غير المصابين بسرطان اللسان ممن أجريت عليهم الدراسة، ولكن فريقه البحثي لم يتوصل إلى تلك الآلية التي تتكون فيها هذه المجتمعات الميكروبية وما إذا كانت هي المسببة للسرطان، ويقول «محمود غنوم»: «تلك نماذج من دراسات ارتباط السرطان بالفطريات، فالكثير منها لا يزال مرتبطا فعلا».

إننا نتوصل إلى نتيجة، هي أن ذلك «الميكروبيوم» يبدو أنه لا يسبب لنا سوى المشاكل، ورغم ذلك فإنه من الوارد أن تكون الفطريات مفيدة لنا، وربما لفترة محدودة، مثلا تساعد خميرة «ساكشاروميسس بولاردي» في الحماية من الإسهال المرتبط بالمضادات الحيوية، وكذلك يمكن لخميرة الخبز «التي تضاف لصناعة الخبز» المرتبطة بما يسمى «إس سيريفايسيا» أن تسيطر على مرض «القلاع المهبلي» من خلال تثبيط بكتيريا «سي ألباينكاس».

من المؤكد أن هناك الكثير من الفوائد، لكننا لم نُعِر الفطريات الجسدية اهتمامنا الكبير، كما تقول «ليندسي كالان»: «لقد انصب التركيز بشكل كبير على ما تسببه الفطريات من أمراض، وكيف تسهم في الإصابة بأمراض جديدة».

ولكننا اليوم يمكن أن نستنتج أنه بالإمكان توظيف الفطريات لصالحنا من خلال التلاعب بها، فيمكننا تشكيل تركيبة من الفطريات ونزرعها في الأمعاء من خلال نظام غذائي خاص، والمعروف أن النظام الغذائي المرتبط بالكميات العالية من الكربوهيدرات مرتبط بزيادة أنواع «المبيضات»، في الوقت الحالي لا يمكننا أن نوصي بهذا النظام الغذائي، ولكن نظرًا لتأثير الميكروبيوم علينا، فإنه من المرجح أن نرى توصيات بهذا النظام الغذائي مع مزيد من الأبحاث حوله التي ستتم بوقت قريب بالتأكيد.

خدمة تربيون عن مجلة «New Scientist»