أعمدة

أسئلة الرواية

الرواية الخليجية «4»

 
سؤال التأصيل من أوهن الأسئلة في إثارة مسألة الرواية الخليجيّة، ذلك أنّ معالم هذه الرواية تتشكّل بطريقة سريعة، وكثافة الإنتاج الروائيّ يُعسّر متابعتها، وتبيّن خطوطها العريضة، ومع الأسف فإنّ مسالك نقد الرواية الخليجيّة هي مسالك متداخلة وتفتقر إلى أرضيّة معرفيّة صلبة يُمكن أن تُشكّل مرجعا، فنحن نحتاج إلى أسئلة حقيقيّة لا يُمكن طرحُها إلاّ إن توفّرت دراسات أكاديميّة جادّة، لا يسوسُها المدح ولا التحقير، وإنّما إعمال النظر التاريخيّ في وصْل الرواية الخليجيّة بمقامات إنتاجها وببُناها الفنيّة. السؤال الذي ينبغي أن يُوضَع أوّلا أمام المؤسّسات الثقافيّة والأكاديميّة هو أثر التحوّلات الاجتماعيّة والثقافيّة في صناعة الرواية الخليجيّة، وهو سُؤالٌ لا يُفْرِدُ الرواية الخليجيّة وإنّما يضعها في السياق العامّ لإنتاج الأدب عامّة، ويُدرجُها ضمن الحالة العاديّة لتكوّن الظواهر الفنيّة. فالرواية الخليجيّة أمام رهانات متعدّدة، وأمام قضايا يُمكن أن تُهجّن وجودها، ويُمكن أن تُعْلي من شأنها.

الملاحظة الأولى التي وجب أن نُبْديها أن القارئ يجب أن يجد حكايتَهُ في الرواية التي يقرأ، يجب أن يجد صدى لمتخيَّله ومعتقده ولوَقْع حياته اليوميّة، تمثّلا أو معاينةً. لقد تمكّن عبدالرحمن منيف أن يكون مثالا للرواية الخليجيّة وإن لم يكن في حياته خليجيّا محضا، لقد تمثّل إرث أرض الخليج، وحكى الطبع والتطبّع، وقصّ تحوّل المجتمع، ونفذ بخياله الحكائيّ إلى تبصّر القادم، رأى حروبا، وأقواما تحلّ بأرضٍ تسودها عادات وتقاليد واعتقاد في النسب والعرق يؤثّر في طبيعة الحياة، وفي المنظور للكون، سؤال إلى أيّ مدى تُعبّر الرواية الخليجيّة بثرائها وتنوّعها عن واقع الخليج، الكائن والممكن، هو سؤالٌ حقيقيّ يمسّ جوهر العمل الروائيّ.

والسؤال عن صلة الرواية بواقعها ليس مرتبطا بكون الرواية يجب أن تُساير واقعها الخارجيّ الذي فيه تكوّنت، بل في قدرة الرواية على تمثّل المتخيّل الفردي والجمعي لكون الحكاية ولفضائها، والحالُ أنّا واجدون نزرا يسيرا من كُتّاب الرواية في الخليج ممّن هم قادرون على تشرّب الواقع الذهني والمادّي، وعلى امتصاص التراث الجمعي واختصاره في ملبس أو مشرب أو حركة يد، الكثيرون ممّن يضطلعون بالرواية لا يُدرِكون أنّ التفاصيل في الرواية أوكدُ من بنيتها الحدثيّة الكُبرى، وأنّ صناعة الشخصيّات تحتاج جهدا حتّى تقع في نفس القارئ موقع اليقين والتفاعل، فلا تكون هناك نبوة بين القارئ وفضاء الرواية. سؤال واقعيّة الرواية ومرجعيّاتها هو محمل نقديّ وسراط قاطعٌ ومخاتلٌ يحمل في ثناياه فشل الكتابة الروائيّة ونجاحها. أرضُ النفط، التحوّل الاجتماعي، التحوّل المعماري، التجاور بين الشاهقات الناطحات، والوابرات، الدانيات، بين العلوّ في البنيان واختيار الارتحال، بين عالمٍ هو كائنٌ وموجود يُحافظ فيه الإنسانُ الخليجيّ على بساطته، يحنّ إلى التراب يتهدهد فيه، ولا يغترّ بالعاليات الوفيرات الباذخات، وعالمٍ يسوده البذخ ووفرة الجاه، وتسخير الآلات، عالم مصنوعٌ مصطَنع، يُخرج بشرا متحوّلا في خِلْقَته وخُلُقه، التحوّل في التموقع من الكون، في الوعي بمنزلة الأنا الفردي والجمعي، من شرْقٍ يسوده الفقر، وغربٍ هو شبيه في الملّة والدين يسوده أيضا الفقر، وأجنبيّ هو العدوّ دينا الصديق علما ومصدرَ معرفة وتقدّم، إعادةُ نظرٍ في صلة الأنا بالآخر.

تحوّلٌ في التفاعل مع التراث، في كسْر الثنائيّة السائدة المتنازعة في المعهود الفكريّ، وهي تقديس التراث أو رفضه، لاستبدال هذا التنازع بتطويع التراث، أو تحديث التراث، أو إحداث السلام بين التراث والحداثة، لنجد الناقة تُجاورُ السيارة الرباعية، والخيمة مزروعة في قصر، والنخلة بجانب البرتقالة، وزيّ للأصالة وأزياء للحداثة، كلّ هذه التحوّلات تحتاج إلى دراسات أنتروبولوجية، تبين أبعادها وآثارها، تُظهِر العقل المدبّر لها والروح النازعة إليها، هذا بابٌ يُخشى الولوج إليه، لكن لا يُمكن أن تتحقّق دراساتٌ للرواية عميقة دون توفير هذه الأرضيّة المعرفيّة. السؤال الثاني، وهو بعضٌ ممّا يتشقّق عن الأوّل، هل هي فعلا روايةٌ خليجيّة، أو هو جمعٌ شكليّ لأقطارٍ متفرّقة لا جامع بينها؟ حقّا هنالك مُشتَرك وافرٌ بين دول الخليج، وهناك نَسبٌ جامعٌ، وهنالك عرقٌ سائدٌ، ولكن في الآن ذاته، هنالك متفرّق حضاريّ وطبيعيّ وبيئيّ وتاريخيّ مُفرِّقٌ وصانعٌ لتنوّع روائيّ خارج عن سرْب الجمع، وهو أمرٌ ينبغي أن يشكّل عنوانا يخصّ «المماثل والمختلف في الرواية الخليجيّة» فالقضايا العرقيّة الموجودة في الكويت من التعامل مع الفئة الممنوعة من حمل الجنسيّة الكويتية غير موجودة بالضرورة في أقطار أخرى من بلاد الخليج، وهي مسألة بعثت عددا من الأعمال الروائيّة التي أثارت الهامش العرقيّ في الخليج، البيئة العُمانية بجبالها وصحاريها وسهولها وبحارها، تمثّل باعثا لاختلاف حقيقيّ، ولتكوّن روايات متفاعلة مع هذه البيئة المتنوّعة، وقس على ذلك ممّا يُمكن أن يمثّل أرضيّة باعثة لحكايات تُستَثمر. أسئلةٌ وجب أن تُطرَح بعمق وصدق ضمن إطار أكاديمي يضع الرواية الخليجيّة في منزلتها التاريخيّة والحضاريّة، وهذا لن يكون أيضا إلاّ إذا كوّنّا مجموعة بحثيّة منفصلة متّصلة، كلّ منها تقوم بدور في دراسة الرواية القطريّة ضمن مسارات واضحة، فمن ذلك يُمكن أن يكون المسار الأوّل خاصّا بمرجعيّات الرواية الخليجيّة، ولتحقيق هذا المسار، وجب تكوين مجموعات بحثيّة تدرس مرجعيّات الرواية السعودية ومرجعيّات الرواية الإماراتيّة ومرجعيّات الرواية الكويتيّة ومرجعيّات الرواية العمانية إلى غير ذلك، وهو الأمر نفسه الذي ينسحب على جملةٍ من المجالات الدراسيّة التي تُرشّح للدراسة ضمن هذه الخُطّة. السؤال الأخير هو السؤال الفنّي في تكوين الرواية، وهو سؤال حمّال أوجه في المشابهة والمخالفة، وفي تخيّر أقوم السبل لإعطاء الحكاية الشكل الذي يُلائمها، فهل أنّ السمة الفنيّة جامعة لكليّة الرواية الخليجيّة؟ وهل أنّ الرواية الخليجيّة تختصّ بركن بنائيّ هو سمتها وعلامتها؟