أعمدة

نوافذ: الأوضاع الصحية وقسوة العيش

 
«الأطرافُ ذابلة جعدة وأحيانا عاجزة عن النمو عجزا لا شفاء منه، وعيون الأطفال مُلتصقة بالرمد، وهناك الكثير من العجزة الذين يُقادون في الطرق، فهم عمي تماما، ولا يمكن للمرء إلا أن يرتجف خوفا وهو يرى معتوها أو ربما سفيها مُقيدا بسلاسل تصدر أصواتا قوية». ورد هذا الوصف في كتاب «عُمان في عيون الرحالة» لهلال الحجري، ليُرينا الواقع الصحي في أربعينات القرن الماضي، فلقد أغفلت المصادر التاريخية العُمانية تسجيل كل ما يتعلق بالنواحي الصحية آنذاك، ولم تسعفنا سوى المصادر الأجنبية وتقارير الإرسالية الأمريكية لمعرفة ما يتعلق بتلك الأوضاع.

قرأتُ مؤخرا كتاب «الأوضاع الصحية في عُمان «1888-1975»، للدكتورة أمل بنت سيف الخنصورية، فكشف لي جوانب غير منظورة من تردي أحوال العُمانيين الصحية مطلع القرن العشرين.

ولم يتناول الكتاب الوضع الصحي منعزلا عن سوء الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في وقت انتشرت فيه الأمية والجهل والفقر باستثناء من انتشلته مكانته الاجتماعية من وضاعة الحال، فعرج على تدهور الوضع مع الحرب العالمية الأولى 1914 جوار حالة القحط التي أصابت عُمان عام 1917، والأزمة الاقتصادية التي ألمت بالعالم 1929، وكيف بدأ هاجس الهجرة يلح بالظهور. إلا أنّ الهجرة كانت مشروطة بجوازات السفر والتصاريح ولم يكن من اليسير الحصول عليها أيام السلطان سعيد بن تيمور، وقد اقتصرت تصاريح السفر على الهند وباكستان والبحرين، خوفا من أفكار سياسية ثورية!

ثمّ ألقت الحرب العالمية الثانية بظلالها أيضا، فارتفعت الأسعار وأصاب الناس فقر شديد وقد وصفهم إدوارد هندرسون، الذي قدم إلى الشرق الأوسط 1941 ووثق رحلته إلى سهل الباطنة ووادي الجزي والظاهرة، قائلا: «كانوا يجهلون وسائط النقل ولا يعلمون عن المذياع شيئا ولا يعرفون ماهية الطعام المُعلب ولم يسبق لهم العلاج وفق الطب الحديث». كما ربط الكتاب بين تدهور الصحة وانعدام شبكات الطرق وانعدام قنوات الصرف الصحي، التي أدت إلى ما وصفه أيان سكيت قائلا: «مدينة مطرح في ستينات القرن العشرين مدينة ملوثة، بها الكثير من المستنقعات والبرك المليئة بالقاذورات، الروائح نتنة ومسببة للغثيان».

ضيق سبل العيش وشح الموارد دفعت العُمانيين لاستغلال موارد الطبيعة، فاستخلصوا الأدوية من النباتات وعرفوا «الكي» بالنار وإخراج الدم الفاسد بالحجامة باستخدام قرون الماعز. ذكر برترام توماس في كتابه البلاد السعيدة: «الكي بالنار كان يحتل الصدارة في العلاج لدى سكان ظفار»، وقد عالجوا الكسور بالجبيرة، فتمكن المعالج القديم من إعادة العظام إلى مكانها، كل هذا إلى جوار التمائم والحروز التي تُغلف بجلد الماعز أو توضع في صندوق من الفضة.. رُقى عن اللدغ أو لتقوية الحفظ أو لرد عين السوء، كما لم يكن يفوتهم التبرك بالنذور.

لكنهم كانوا يقعون فريسة الأمراض المُعدية، الكوليرا والملاريا والجدري والجذام، وتتحول الثياب لطول استخدامها -في تلك الحقبة الزمنية- إلى خرق بالية فوق هزال الأجساد، فتسبب إصابتهم بالأمراض الجلدية، ولأنّهم يعتمدون على شرب مياه الأفلاج والآبار فقد تعرضوا لأمراض في الهضم، فلم تكن آبارهم وأفلاجهم تخضع للفحص.

ذاع صيت عائلة بني هاشم في القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، وقد تعدت سمعتهم عُمان إلى بلاد الرافدين وفارس. فمثلا راشد بن عميرة ترك رسالة في «الكي» وقصيدة في «العين» وتشريحها. يورد الكتاب قصّة الرجل الذي كان يأتي من الباطنة مُحملا برسائل مستفهمة عن أمراض وعلاجاتها إلى الشيخ أبي زيد الريامي في إزكي، ويتقاضى قرشا عن كل رسالة، ومن الطرائف أيضا أنّ رجلا ظن أنّه مُصاب بالجذام فقدم مع زوجته إلى الشيخ منصور الفارسي. فقال له: ليس لديك جذام، مشكلتك من أكل الطعام الجاف واليابس، ثمّ طلب من زوجته علاجه بالعسل والسمن والحليب والبر فقالت: إنّه بخيل. فقال: نُعطيكِ وكالة بيع فبيعي من ماله وعالجيه، فعادت له عافيته.

في الفترة من 1888-1969 حصلت عُمان على مساعدات من قبل الإرسالية الأمريكية وشركة الهند الشرقية البريطانية لإنشاء عدد من المستشفيات، إلا أنّها لم تكن تخلو من نوايا تبشيرية للدين المسيحي، ولم تستطع تقديم الخدمات الطبية لعدد السكان الذي بلغ مليون نسمة آنذاك. الأمر الذي أثر في متوسط عمر الفرد، إذ كان لا يتجاوز السبعين عاما إلا فيما ندر، ولم تنضم عُمان لمنظمة الصحة العالمية حتى عام 1971.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى