فلسفة: حينما يصبح الفلاسفة معالجين
الأربعاء / 11 / رجب / 1445 هـ - 14:42 - الأربعاء 24 يناير 2024 14:42
ترجمة: أحمد شافعي -
قبل قرابة خمس سنوات، أدرك ديفيد -وهو اسم مستعار- أنه دائم الشجار مع صديقته. كان قد قال لها في أول موعد غرامي إنه يود لو يجرِّب ألف امرأة قبل أن يموت. وقد اتفقا في النهاية على أن يقيما علاقة مغلقة، فظلت أحادية العلاقة مصدر توتّر. قال: «ظللت أخبرها بمدى ضيقي بذلك. كنت غبيًا».
شعر ديفيد ـ وهو رجل إسرائيلي في أواسط الثلاثينيات ـ بتناقضات إزاء موضوعات أخرى في الحياة، من قبيل: هل يريد إنجاب أطفال؟ إلى أي مدى ينبغي أن يكون جمع المال أولوية له؟ في العشرينيات من عمره، كان قد جرّب مرات عديدة جلسات العلاج النفسي، فتردَّد لشهور قليلة في كل مرة على معالج أو آخر، حتى ينال منه الإحباط، ثم تتكرر الدورة. وتوصل إلى أن المعالجين النفسيين أرادوا مساعدته ليكون أكثر تكيفا في ضوء رؤيته الراهنة للعالم، في حين أن رؤيته للعالم ربما كانت هي الخطأ. فأراد أن يختبر مدى إمكانية الدفاع عن قيمه في المقام الأول.
ذات يوم عرضت عليه شريكته في السكن كتابا بعنوان «الفلسفة، والطرافة، والظرف الإنساني» للفيلسوفة الفرنسية الإسرائيلية ليديا آمير. وأوضحت له أن ليديا آمير قريبة لها. وبالإضافة إلى التدريس لبعض الوقت في جامعة تفاتس، فإنها تقدم «استشارة فلسفية» خاصة. لم يكن ديفيد قد سمع من قبل بالاستشارة الفلسفية. لكنه قرأ كتاب آمير على مدار الأسابيع القليلة التالية واستمتع به. ورأى حلقة في برنامج «لتد وكريشنباوم» التلفزيوني دافعت فيه آمير عن مزايا الاستشارة الفلسفية. قال ديفيد: «بدا فعلا أنها تستمتع بمحاولة المذيعين النيل منها». قرر أن يتصل بها، ورتبا جلسات عبر الإنترنت. حكى لي ديفيد قائلا: «إنني حاولت أن أمتحنها خلال اللقاءات القليلة الأولى»، فوجّه دفة الحوار إلى الأفكار المجردة لأحد فلاسفته المفضّلين وهو فيلسوف القرن السابع عشر باروخ سبينوزا. تناقشا في آراء سبينوزا في الأخلاق والرب والمطلق، فأثارت آمير إعجابه بعمق معرفتها، لكنها أيضا كانت تسارع إلى الاعتراف له كلما جاء برأي ثاقب، وبدأ يكشف لها عن مآزقه الشخصية.
عمل ديفيد مع آمير لسنوات عديدة، وفي بعض الأحيان كانا يلتقيان مرات في الأسبوع الواحد. في العادة كانا يتناقشان في قضية شخصية من قضايا حياته بهدف طرح سؤال فلسفي. فمن الشك في مسألة الأحادية الجنسية على سبيل المثال تولَّد سؤال «ما معنى الحرية؟». ومخاوفه المتعلقة بالمال أفضت بآمير إلى سؤال عن «الدور الذي تلعبه الثروة في الحياة الجيدة». مضت آمير بديفيد عبر مناهج فلسفية مختلفة في هذه الأسئلة. قال لي: إن «ليديا آمير ذكية. تطرح شتَّى أنواع الأمور وتجعلك ترى أيها الأقرب لك. فمعك بنك معرفي كامل، بآلاف السنين من خبرات الفلاسفة». كانت الجلسات هجينا من العلاج النفسي والدرس الأكاديمي. وفي ما بين اللقاءات، كانت آمير تكلفه أحيانا بواجبات قرائية: شوبنهاور ونيتشه وهيوم.
وشيئا فشيئا أعاد ديفيد النظر في رأيه تجاه الأحادية الجنسية. «وضعتني ليديا في هذه الذهنية: لنتخيل أنك نلت ما تصبو إليه. ومضت زوجتك فاستمتعت كثيرا مع لاعب كرة سلة وسيم. كيف يكون شعورك؟ هل حقا أريد التعدد الجنسي لكلينا، أم أنني أريد فقط حرية مطلقة لنفسي مع سيطرة لي عليها؟». وبعد حوارات مع آمير حول مذهب الرواقيين، ونيتشه، وفلاسفة آخرين، فهم ديفيد الحرية فهما جديدا، لا بوصفها القدرة على فعل ما يريد، وإنما القرار الواعي بأن يعيش على نحو معين. قال لي: «بوسع المرء فعلا أن يقرر أن يحد من نفسه. توقفت عن النظر إلى زوجتي بوصفها شخصا يحد حريتي. وتوليت المسؤولية باختيار مني».
وفيما كنا نتكلم إذا بديفيد، الرجل الحاد داكن العينين، يتحمس قائلا: إن «نيتشه قال قولا لطيفا. قال إن كل شخص يبحث عن القوة، لكن الضعفاء يبحثون عنها في كل مكان، بينما يبحث الأقوياء عنها في أماكن شديدة التحديد». طبَّق ديفيد تلك الفكرة الثاقبة على حياته بمراقبة دافعه إلى القوة والتعبير عنه بمزيد من الانتقائية. ولم يعد يحاول الفوز بكل جدال أو إثبات أنه محق في مواقف غير ذات شأن، وبدأت تقل الشجارات بينه هو وزوجته (فقد تزوجا قبل خمس سنوات). في الوقت نفسه، ركَّز على طلب القوة في الجانب المالي، فغيَّر عمله من التسويق الرقمي إلى العقارات التجارية.
تنتمي آمير إلى مجموعة صغيرة ولكنها متنامية من الفلاسفة الذين يقدمون شكلا ما من الاستشارة الفردية. في الولايات المتحدة، ثمة اتحادان نقابيان «لمقدمي المشورات الفلسفية» هما الاتحاد الوطني للمشورة الفلسفية [N.P.C.A.] والاتحاد الأمريكي للممارسين الفلسفيين [A.P.P.A.]، وفيهما قوائم بعشرات الفلاسفة الذين يمكن أن يقدموا لك العون في مشكلاتك. وفي إيطاليا مؤسسات نقابية عديدة لأشكال مختلفة من الاستشارة الفلسفية، وثمة مؤسسات مماثلة في ألمانيا والهند وأسبانيا والنرويج والعديد من البلاد الأخرى. وفي النمسا وإيطاليا ورومانيا، تقدم الجامعات درجات الماجستير في هذا المجال. قالت لي آمير: إن على الجميع أن يدرسوا الفلسفة، ولكن قليلين هم الذين يدرسونها، وترى أن الاستشارة الفلسفية تشبع احتياجا مهما. و تعليقا على تحوّل ديفيد قالت: إنه «إذا كان قد تغيَّر، فذلك لأنه تثقف، وتثقف لأنه أراد ثقافة فلسفية. ولو أن خيرا وقع له، فقد وقع بسبب الفلسفة، لا بسببي. فما فعلت إلا أنني سهلت اللقاء».
ولدت آمير في باريس سنة 1955 لأسرة ناجية من الهولوكوست، انتقلت في طفولتها إلى إسرائيل. كان والدها دبلوماسيا كثير السفر من أجل العمل فقضت طفولتها في إسرائيل وفرنسا وجمهورية الكونغو الديمقراطية والجزائر والسنغال. وكانت والدتها صحفية سياسية، وامتلأت البيوت التي أقاموا فيها بالكتب، ولما بلغت السابعة عشرة عثرت على كتاب لأفلاطون فوقعت أسيرة محاوراته. درست في البداية الرياضيات والفلسفة في المرحلة الجامعية بجامعة تل أبيب، ولكن أغلب اهتمامها بالرياضيات كان فلسفيا. (فما «الطبيعي» في سلسلة الأعداد الطبيعية؟). قرَّرت التركيز على الفلسفة وحدها، وفي النهاية كتبت أطروحتها في مفهومي الخلاص الشخصي عند سبينوزا ونيتشه.
شجَّعها مشرف الدكتوراة على إكمال تحليلها النظري بأمثلة شخصية ملموسة، فأدركت أمرين أساسيين في حياتها أرادت تغييرهما. أولا، أنها أرادت أن تقلع عن التدخين. وبرغم أنها كانت تكتب عن الحرية الشخصية، كانت كثيرا ما تشعر أنها خاضعة لتحكم لذة السجائر. وأغلب ما كانت تقرأ من نصائح كان يتعلق بتقليل الغواية: بقضاء وقت أقل وسط المدخنين، والتخلص من السجائر والمطافئ. فعلت آمير العكس، فصارت تحمل السجائر معها في كل مكان. قالت «أردته أن يكون اختيارا حرا في كل لحظة. فقد كان السؤال هو: أي صورة لنفسك تريدينها؟»
كانت آمير تخاف أيضا ركوب الطائرات. ولا تزال تخاف، لكنها تسافر كثيرة، وتقسم على كل رحلة أنها الأخيرة. قالت لي: «تقبلت قبل كل رحلة الإحساس بأنني سأموت. لا أحاول أن أقاوم هذا الإحساس». وحينما انتهت من رسالتها لنيل الدكتوراة، لم تكن قد سافرت بطائرة لأكثر من عشر سنين، وخلصت فلسفيا إلى أن الموت خير من حياة يحجِّم الخوف فيها الحرية، فسافرت إلى باريس برغم قلقها. بدا غير مقبول لها أن تدرس أفكار الحرية الفلسفية ولا تعيشها. قالت: «قرَّرت أن أي شيء هو خير من حياة كتلك الحياة».
في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، قامت آمير بتدريس الفلسفة في جامعات عديدة وحاضرت في برامج التعليم المستمر للراشدين. وكان بعض طلبتها الراشدون يبدون رغبة في الحديث معها عن موضوعات خاصة، فكانت تعطيهم رقم هاتفها. وبدأ هؤلاء يحيلون إليها أصدقاءهم. وقام صحفي بتغطية عملها الذي اجتذب زبائن آخرين. وفيما بدأ مزيد من الغرباء يطلبون مواعيد، بدأت تفرض رسوما للجلسات الخاصة وفقا لمقياس متدرج. (سعر الساعة لديها الآن قرابة مائة وخمسين دولارًا).
الفلسفة مصدر طبيعي وغريب لمعاونة الناس على حل مشكلات الحياة. فقد ركَّزت التراثات الفلسفية العتيقة من قبيل الرواقية أو البوذية على الأخلاقيات والتقنيات العملية لتخفيف المعاناة، لكن أغلب الفلسفة الحديثة يستهدف في ما يبدو التعبير عن المعاناة، لا التقليل منها. وقد كتب شوبنهاور أن «الحياة مغرقة في المعاناة. مسارها في عمقه مأساوي على الدوام، ومنتهاها أفدح من مسارها».
قالت آمير عن عملها الاستشاري: «إنه في تصوري يتعلق بالتفكير. ليس بتنمية مهارات الإنصات والتعاطف، فهذا أمر لم يتعلمه الفلاسفة. هي دروس خاصة في الفلسفة، وما من مادة أخرى» -حسب زعمها- «تعلمك التفكير بصورة أفضل عندما يتعلق الأمر بحياتك».
من أجل فهم حقيقي للاستشارة الفلسفية تقترح عليَّ آمير أن أجرِّب جلسة. وتصادف أنها كانت حاضرة مؤتمرا دوليا حول الاستشارة الفلسفية في تيميسوارا برومانيا. التقينا في ردهة الأكاديمية الرومانية شاهقة السقف على مقربة من منطقة وسط المدينة العتيق. كان أكثر من خمسين فيلسوفا ينتمون إلى أكثر من اثني عشرة بلدا قد اجتمعوا، وبدا المؤتمر كأنه لقاء لمّ الشمل لعائلة ضخمة العدد غريبة الأطوار. انتبهت لي آمير من آخر القاعة، لكن اعترضها قبل الوصول إليّ زملاء من أسبانيا ورومانيا وأمريكا.
سألتها عن رحلتها بالطائرة.
فقالت «ألا تزال تذكر؟ غير جيدة، لكنني هنا».
مضينا إلى القاعة الصغيرة التي ستلقي فيها آمير محاضرة المؤتمر الأساسية. قالت لي: إن هدفها هو «إثارة الحماس في الناس». رائحة غادية أمام المنصة وفي يدها الميكروفون انتقدت المعالجين النفسيين التقليديين الذين «لا يستطيعون أن يطرحوا لكم المُثُل العليا. لا يستطيعون أن يطرحوا عليكم رؤية للعالم». وذهبت إلى أن الفلسفة وحدها هي القادرة على إحداث التحول بتعريض الناس لرؤى كثيرة وزيادة مقدرتهم على تقييمها عقلانيا. وبدا على الحاضرين السرور.
في تلك الظهيرة، جلسنا إلى طاولة في مطعم بجانب نهر فيجا من أجل جلسة شخصية. دفعت آمير شعرها الأشقر الطويل عن عينيها، وارتشفت من الشاي، وسألتني عما أريد مناقشته. قلت إنني على مدار السنين القليلة الماضية أعمل على كتاب، والآن أنتظر نشره، ومصيره في الغالب ليس في يدي. كنت أعرف دائما أن نجاحه سوف يخضع جزئيا لمبيعاته. ومع قرب الطباعة، باتت تلك الحقيقة تؤرقني أكثر فأكثر. فبت أوشك أن أشعر بالغثيان كلما فكرت فيها.
قالت آمير: «إذن كتابك الأول على وشك الصدور، وهذا رائع. قد يقدَّر نجاحه بناء على المبيعات، وهذا أمر سخيف. فإذا لم يبع جيدا لا يعني هذا أنه غير جيد. ولكنه عنصر ليست لك سيطرة عليه».
قلت: «بالضبط. هذا هو الأمر».
ارتشفت من الشاي وقالت: «وإذن، ما المثير للجنون في عدم السيطرة على أمر؟»
فكرت قليلا ثم قلت «يعني، حينما تعلمين أن بعض الأمور التي تعنيك إنما تعتمد على ما لا سيطرة لك عليه، قد يكون هذا مثيرا للجنون».
قالت آمير: «صح. لكن أليس الأمر هكذا في العادة؟»
«من قبيل؟»
«كل شيء. فليست لك سيطرة على أن تسير رحلة طيران على ما يرام. قد يفقد المرء حياته، ساقه، حقائبه، زوجته. في العادة ما لا يكون لنا سيطرة عليه لا يكون بالأمور البسيطة» ومرَّرت إحدى يديها في الهواء كمن تطبق النقطة على المجدِّفين في زوارق تعبر النهر وعلى راكبي السيارات التي تئز على الجسر أعلى رؤوسهم. قالت: «الآن لدينا فكرتك عما لا سيطرة عليه. وهذا أمر يجب أن نستكشفه. ولدينا تصور للنجاح. والثالث سيكون العلاقة بين النجاح والشيء الخارج عن السيطرة». تناقشنا لوهلة في تعريفات مختلفة للنجاح. ثم وجَّهت الحوار إلى سبينوزا الذي «يقول إن الشخص الراغب في أن يعيش بلا خوف يلزمه أن يعيش بلا أمل. أغلب الناس يريدون الحصول على الجانب المشرق فقط من الأمور، دون الجانب المقبض. لكنها عملة واحدة»، حسبما قالت وهي تضيِّق عينيها. وأردفت: إن الظفر بهناء البال له ثمن. وإنني لو وصلت إلى الانفصال [detachment] لما اكترثت بمبيعات الكتاب.
كانت الساعة قد أوشكت على الانتهاء. قالت آمير: «لقد باع كتابي الأول جيدا لثمانية أشهر بعد صدوره. هو عمل أكاديمي، لكنني بعد ذلك حصلت على عقود عديدة لكتب قادمة. فقدت شيئا. بت مغللة في مكتبي. قد تتصور أن النجاح يعني مزيدا من الاحتمالات، لكن فور تحقق أحد الاحتمالات، إذا بأشياء أخرى كثيرة تصبح غير ممكنة. قد ترجع النظر إلى تلك الشهور بوصفها زمان حرية». قالت إنني لو حضرت مزيدا من الجلسات، فسوف نتعمق أكثر في هذه الأفكار، وإنني قد أقرأ سينيكا وإبيكتيتوس. لم تشهد الجلسة لحظة تبصر مبهرة لكنني لاحقا سررت باتساع نظرتي.
في اليوم الثاني لي برومانيا، شاهدت جلسة استشارة فلسفية بين آدم لالاك، وهو رجل في الثلاثينيات من العمر من براغ، ولاو مارينوف وهو في الثانية والسبعين من العمر وأستاذ فلسفة في كلية نيويورك سيتي وشريك مؤسس في الاتحاد الأمريكي للممارسين الفلسفيين. حصل لالاك على ماجستير الفلسفة من كمبريدج، ثم عمل في وظائف كثيرة في القطاع الخاص وفي منظمات غير ربحية. وبات يطمح إلى أن يكون مستشارا فلسفيا. جلس لالاك ومارينوف وجها لوجه في قاعة خاوية. وانصب ضوء الشمس شاحبا من نافذة عالية على الطاولة الخشبية في ما بينهما.
استهل لالاك قائلا وهو يمسد لحيته الشقراء الكثيفة: «لقد بلغت الثلاثين منذ شهر، وأشعر أنني أنجذب من اتجاهين شديدي التعارض. أشعر وكأن هذا العمر يفرض الكثير من المسؤولية، وكأنما يفترض بي أن أكبر وتكون لي وظيفة وأسرة. وأشعر أن ما أرغب فيه حقا هو أن أقتطع كل هذا الهراء. أريد الحصول على الأشياء التي أجدها شديدة الأهمية، وهي على سبيل المثال، الفلسفة. والفلسفة غير عملية كثيرا».
كان مارينوف، وله لحية يختلط بياضها بسوادها وحاجبان كثيفان دائبا الحركة، يدوّن بضع ملاحظات بينما يتكلم لالاك. قال: «هذا إذن جزئيا تعارض بين القيم». وسأل لالاك عن صديقته، وأبويه، ووظائفه السابقة ومستقبله المحتمل. كان جوهر مأزق لالاك أنه يريد ممارسة شيء مثير للاهتمام وأن يعيش حياة لائقة. قد يكون الأمران ممكنين، ولكن نيل الدكتوراة في الفلسفة والرجاء في الأفضل ينطوي على مخاطرة مالية.
سأله مارينوف «هل تعرفت قط على الفسفة الآسيوية؟»
قال لالاك: «أحب أن أقرأ طاوتي تشينج، لكنني لم أدرسه حق الدراسة».
دوَّن مارينوف في دفتره وقال «رائع، رائع. إنني أعيش مع هذا الكتاب منذ خمسين سنة. كان هاديا عظيما لي على المستوى الشخصي، وأكثر منه آي تشينج [I Ching]. يمكن القول إنني سوف أصف لك ما يمكن أن تقرأه فيساعدك على حل هذا التوتر». وكان الجزء الأول من وصفة مارينوف مقالة «الوجودية مذهب إنساني» لسارتر وقد أشار مارينوف إلى أنها يمكن أن تكون عونا نافعا في معرفة ما إذا كان المرء يتصرف على نحو أصيل، والثاني هو [آي تشينج] وهو دليل صيني قديم للطالع. قال مارينوف: «إن هناك موقعا إلكترونيا يسمح للمستخدمين باستشارته عبر الإنترنت. تحصل على شكل سداسي بطريقة عشوائية. تصل إلى عبارة أو قول أو جملة أو اثنتين، فإذا بها تقفز من الصفحة وتتحدث إليك. وتخبرك بما في قلبك وعقلك. إنها تعكس النصيحة التي ينبغي أن تسديها إلى نفسك لتسلك الطريق الأفضل إلى الأمام».
عبس لالاك ودوَّن في دفتره شيئا. كان هادئا في أغلب الوقت الذي قضاه مارينوف وهو يستدعي ذكريات شبابه وما كان يفعله «من أمور لا يصح ذكرها، من قبيل الجيتار الكهربائي والدراجات النارية»، وأوصى بممارسة التأمل لا بالمخدرات. ومن ناحيتي لم أستطع أن أحدِّد هل ذكَّرني مارينوف بجَدٍّ غريب الأطوار ينصح قريبه الشاب أم بأستاذ جامعي يستغل وقت المحاضرة في البوح. بعد الجلسة بدا على لالاك إحباط مهذب. قال لي: «لم أشعر أن الوصفة مناسبة لي. أعتقد أن هذه هي الكتب المفضلة لديه هو لا أكثر. ولا أعرف هل كان سيوصي بالوصفة نفسها لو أن لدي مشكلات أخرى».
في وقت تال من المؤتمر، خطَّط لجلسة مع خبير في الوجودية، وآخر متخصص في المحاورة السقراطية. قال: إن «الأمر ليس شديد الرسمية، فما من مناهج حقيقية». خلال الوقت الذي قضيته في رومانيا سمعت مستشارين فلسفيين يناصرون التأمل، والعقاقير المخدرة، والنبيذ، والغَزْل، بجانب أفكار من مفكرين من أمثال فوكو وماركس وأرسطو لا يكادون هم أنفسهم يوافقون عليها. قال لي ريك ريبتّي عضو الاتحاد الأمريكي للممارسين الفلسفيين وأستاذ الفلسفة في جامعة مدينة نيويورك وممارس الاستشارات الخاصة: إن حمل الفلاسفة على الاتفاق أشبه بمحاولة رعاية سرب قطط، فالمستشارون المعتمدون من الاتحاد الأمريكي للممارسين الفلسفيين يستعملون كل شيء، من التأمل الموجّه إلى الاستكشاف المحدد للوجودية والكانطية والفلسفة الرواقية. وفي المقابل يركز الاتحاد الوطني للاستشارة الفلسفية على ما يطلق عليه العلاج القائم على المنطق. (وكلتا المنظمتين تستوجب الحصول على ماجستير أو دكتوراه في الفلسفة لاعتماد الممارس).
يعتقد البعض أن ممارسة الاستشارة الفلسفية يجب أن تكون أكثر خضوعا لمعايير موحدة. ويتخوف آخرون من أن المستشارين الفلسفيين يغفلون عن موضوعات مهمة في الصحة العقلية. ويؤكد كلا الاتحادين النقابيين الأمريكيين الكبيرين أن الاستشارة الفلسفية لا يمكن أن تعالج اختلالات نفسية حادة معينة، ويحثَّان الممارسين على إحالة الحالات إلى مقدمي خدمات الصحة العقلية حين لا تتلاءم مشكلاتهم مع نطاق الممارسة الفلسفية. قالت لي أنجي هوبس أستاذة الفلسفة في جامعة شيفيلد التي لا تمارس الاستشارة الفلسفية: إنها تخشى أن الفلاسفة لا يعرفون متي يحيلون الحالات [إلى الأطباء النفسيين]. وقالت لين بوفكا عالمة النفس السريري في ميريلاند التي تعمل في الاتحاد الأمريكي لعلم النفس: إنها بوصفها عالمة نفس حاصلة على الدكتوراة قضت قرابة أربعة آلاف ساعة من التعلم الخاضع للإشراف قبل أن تتمكن من التقدم للحصول على رخصة الاستشارة النفسية. قالت: إن «الحصول على الاعتماد في ثلاثة أيام، ودون تحصيل خبرة خاضعة لإشراف، سيكون أمرا يقلقني كثيرا» وهي تشير هنا إلى فترة التدريب التي يشترطها الاتحاد الأمريكي للممارسين الفلسفيين. من ناحية أخرى، يؤطر المستشارون الفلسفيون عملهم باعتبار أنه يستهدف مقاومة الزحف الرامي إلى إضفاء الطابع الطبي على الحياة. ففي الحياة كثير من الشكوك وأسباب القلق والحيرة، وليست كل حيرة مرضا، وبالنسبة لأي مأزق بشري، ثمة فيلسوف يحتمل أنه واجه هذا المأزق على مدار الألفيات القليلة الماضية. وقد لا تمنحنا رؤاهم من الفوائد ما يمكن أن تدرسه التجارب السريرية العشوائية، لكنها رؤى عميقة.
في اليوم الأخير من المؤتمر، التقيت بآمير على غداء متأخر. كانت تريد أن تقنعني بأن الاستشارة الفلسفية، على ما فيها من تفاوت، تقوم على جوهر أساسي واحد. فجميع أنواع التدخل، من المواد المخدرة إلى التأمل إلى قراءة الطالع، فيها إمكانية علاج شخص ما. أما الفلسفة فمختلفة؛ لأنها تتعامل مع الأسئلة البشرية العميقة المتعلقة بالأخلاق والغرض والمعنى، من خلال الدقة المنطقية. وهي مورد قليل الاستعمال. «وحسبك أن تنظر إلى متجر كتب لتجد الرف تلو الرف من كتب المساعدة الذاتية، ثم تجد الفلسفة في ركن لا يكاد يراه أحد».
بعد الغداء، ونحن نمشي في المدينة، فكرت في فيلسوف القرن العشرين فتجنشتين، فعمله على الأسس المنطقية للرياضيات قد تبدو بعيدة، بل مستحيلة البعد، عن الحياة اليومية، غير أن هدفه من ممارسة الفلسفة حسبما كتب هو أن «يبيِّن للذبابة طريق الخروج من مصيدة الذباب». قد يعلق الفلاسفة في مصيدة تخصصاتهم الأكاديمية. وهؤلاء قد تكون الاستشارة الفلسفية بالنسبة لهم وسيلة تحرير، أي سبيلا إلى تحرير أنفسهم من خلال إضاءة طريق للآخرين.
نيك روميو أستاذ في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، ومؤلف كتاب «البديل: كيفية بناء اقتصاد عادل».
عن مجلة نيويوركر الأمريكية
قبل قرابة خمس سنوات، أدرك ديفيد -وهو اسم مستعار- أنه دائم الشجار مع صديقته. كان قد قال لها في أول موعد غرامي إنه يود لو يجرِّب ألف امرأة قبل أن يموت. وقد اتفقا في النهاية على أن يقيما علاقة مغلقة، فظلت أحادية العلاقة مصدر توتّر. قال: «ظللت أخبرها بمدى ضيقي بذلك. كنت غبيًا».
شعر ديفيد ـ وهو رجل إسرائيلي في أواسط الثلاثينيات ـ بتناقضات إزاء موضوعات أخرى في الحياة، من قبيل: هل يريد إنجاب أطفال؟ إلى أي مدى ينبغي أن يكون جمع المال أولوية له؟ في العشرينيات من عمره، كان قد جرّب مرات عديدة جلسات العلاج النفسي، فتردَّد لشهور قليلة في كل مرة على معالج أو آخر، حتى ينال منه الإحباط، ثم تتكرر الدورة. وتوصل إلى أن المعالجين النفسيين أرادوا مساعدته ليكون أكثر تكيفا في ضوء رؤيته الراهنة للعالم، في حين أن رؤيته للعالم ربما كانت هي الخطأ. فأراد أن يختبر مدى إمكانية الدفاع عن قيمه في المقام الأول.
ذات يوم عرضت عليه شريكته في السكن كتابا بعنوان «الفلسفة، والطرافة، والظرف الإنساني» للفيلسوفة الفرنسية الإسرائيلية ليديا آمير. وأوضحت له أن ليديا آمير قريبة لها. وبالإضافة إلى التدريس لبعض الوقت في جامعة تفاتس، فإنها تقدم «استشارة فلسفية» خاصة. لم يكن ديفيد قد سمع من قبل بالاستشارة الفلسفية. لكنه قرأ كتاب آمير على مدار الأسابيع القليلة التالية واستمتع به. ورأى حلقة في برنامج «لتد وكريشنباوم» التلفزيوني دافعت فيه آمير عن مزايا الاستشارة الفلسفية. قال ديفيد: «بدا فعلا أنها تستمتع بمحاولة المذيعين النيل منها». قرر أن يتصل بها، ورتبا جلسات عبر الإنترنت. حكى لي ديفيد قائلا: «إنني حاولت أن أمتحنها خلال اللقاءات القليلة الأولى»، فوجّه دفة الحوار إلى الأفكار المجردة لأحد فلاسفته المفضّلين وهو فيلسوف القرن السابع عشر باروخ سبينوزا. تناقشا في آراء سبينوزا في الأخلاق والرب والمطلق، فأثارت آمير إعجابه بعمق معرفتها، لكنها أيضا كانت تسارع إلى الاعتراف له كلما جاء برأي ثاقب، وبدأ يكشف لها عن مآزقه الشخصية.
عمل ديفيد مع آمير لسنوات عديدة، وفي بعض الأحيان كانا يلتقيان مرات في الأسبوع الواحد. في العادة كانا يتناقشان في قضية شخصية من قضايا حياته بهدف طرح سؤال فلسفي. فمن الشك في مسألة الأحادية الجنسية على سبيل المثال تولَّد سؤال «ما معنى الحرية؟». ومخاوفه المتعلقة بالمال أفضت بآمير إلى سؤال عن «الدور الذي تلعبه الثروة في الحياة الجيدة». مضت آمير بديفيد عبر مناهج فلسفية مختلفة في هذه الأسئلة. قال لي: إن «ليديا آمير ذكية. تطرح شتَّى أنواع الأمور وتجعلك ترى أيها الأقرب لك. فمعك بنك معرفي كامل، بآلاف السنين من خبرات الفلاسفة». كانت الجلسات هجينا من العلاج النفسي والدرس الأكاديمي. وفي ما بين اللقاءات، كانت آمير تكلفه أحيانا بواجبات قرائية: شوبنهاور ونيتشه وهيوم.
وشيئا فشيئا أعاد ديفيد النظر في رأيه تجاه الأحادية الجنسية. «وضعتني ليديا في هذه الذهنية: لنتخيل أنك نلت ما تصبو إليه. ومضت زوجتك فاستمتعت كثيرا مع لاعب كرة سلة وسيم. كيف يكون شعورك؟ هل حقا أريد التعدد الجنسي لكلينا، أم أنني أريد فقط حرية مطلقة لنفسي مع سيطرة لي عليها؟». وبعد حوارات مع آمير حول مذهب الرواقيين، ونيتشه، وفلاسفة آخرين، فهم ديفيد الحرية فهما جديدا، لا بوصفها القدرة على فعل ما يريد، وإنما القرار الواعي بأن يعيش على نحو معين. قال لي: «بوسع المرء فعلا أن يقرر أن يحد من نفسه. توقفت عن النظر إلى زوجتي بوصفها شخصا يحد حريتي. وتوليت المسؤولية باختيار مني».
وفيما كنا نتكلم إذا بديفيد، الرجل الحاد داكن العينين، يتحمس قائلا: إن «نيتشه قال قولا لطيفا. قال إن كل شخص يبحث عن القوة، لكن الضعفاء يبحثون عنها في كل مكان، بينما يبحث الأقوياء عنها في أماكن شديدة التحديد». طبَّق ديفيد تلك الفكرة الثاقبة على حياته بمراقبة دافعه إلى القوة والتعبير عنه بمزيد من الانتقائية. ولم يعد يحاول الفوز بكل جدال أو إثبات أنه محق في مواقف غير ذات شأن، وبدأت تقل الشجارات بينه هو وزوجته (فقد تزوجا قبل خمس سنوات). في الوقت نفسه، ركَّز على طلب القوة في الجانب المالي، فغيَّر عمله من التسويق الرقمي إلى العقارات التجارية.
تنتمي آمير إلى مجموعة صغيرة ولكنها متنامية من الفلاسفة الذين يقدمون شكلا ما من الاستشارة الفردية. في الولايات المتحدة، ثمة اتحادان نقابيان «لمقدمي المشورات الفلسفية» هما الاتحاد الوطني للمشورة الفلسفية [N.P.C.A.] والاتحاد الأمريكي للممارسين الفلسفيين [A.P.P.A.]، وفيهما قوائم بعشرات الفلاسفة الذين يمكن أن يقدموا لك العون في مشكلاتك. وفي إيطاليا مؤسسات نقابية عديدة لأشكال مختلفة من الاستشارة الفلسفية، وثمة مؤسسات مماثلة في ألمانيا والهند وأسبانيا والنرويج والعديد من البلاد الأخرى. وفي النمسا وإيطاليا ورومانيا، تقدم الجامعات درجات الماجستير في هذا المجال. قالت لي آمير: إن على الجميع أن يدرسوا الفلسفة، ولكن قليلين هم الذين يدرسونها، وترى أن الاستشارة الفلسفية تشبع احتياجا مهما. و تعليقا على تحوّل ديفيد قالت: إنه «إذا كان قد تغيَّر، فذلك لأنه تثقف، وتثقف لأنه أراد ثقافة فلسفية. ولو أن خيرا وقع له، فقد وقع بسبب الفلسفة، لا بسببي. فما فعلت إلا أنني سهلت اللقاء».
ولدت آمير في باريس سنة 1955 لأسرة ناجية من الهولوكوست، انتقلت في طفولتها إلى إسرائيل. كان والدها دبلوماسيا كثير السفر من أجل العمل فقضت طفولتها في إسرائيل وفرنسا وجمهورية الكونغو الديمقراطية والجزائر والسنغال. وكانت والدتها صحفية سياسية، وامتلأت البيوت التي أقاموا فيها بالكتب، ولما بلغت السابعة عشرة عثرت على كتاب لأفلاطون فوقعت أسيرة محاوراته. درست في البداية الرياضيات والفلسفة في المرحلة الجامعية بجامعة تل أبيب، ولكن أغلب اهتمامها بالرياضيات كان فلسفيا. (فما «الطبيعي» في سلسلة الأعداد الطبيعية؟). قرَّرت التركيز على الفلسفة وحدها، وفي النهاية كتبت أطروحتها في مفهومي الخلاص الشخصي عند سبينوزا ونيتشه.
شجَّعها مشرف الدكتوراة على إكمال تحليلها النظري بأمثلة شخصية ملموسة، فأدركت أمرين أساسيين في حياتها أرادت تغييرهما. أولا، أنها أرادت أن تقلع عن التدخين. وبرغم أنها كانت تكتب عن الحرية الشخصية، كانت كثيرا ما تشعر أنها خاضعة لتحكم لذة السجائر. وأغلب ما كانت تقرأ من نصائح كان يتعلق بتقليل الغواية: بقضاء وقت أقل وسط المدخنين، والتخلص من السجائر والمطافئ. فعلت آمير العكس، فصارت تحمل السجائر معها في كل مكان. قالت «أردته أن يكون اختيارا حرا في كل لحظة. فقد كان السؤال هو: أي صورة لنفسك تريدينها؟»
كانت آمير تخاف أيضا ركوب الطائرات. ولا تزال تخاف، لكنها تسافر كثيرة، وتقسم على كل رحلة أنها الأخيرة. قالت لي: «تقبلت قبل كل رحلة الإحساس بأنني سأموت. لا أحاول أن أقاوم هذا الإحساس». وحينما انتهت من رسالتها لنيل الدكتوراة، لم تكن قد سافرت بطائرة لأكثر من عشر سنين، وخلصت فلسفيا إلى أن الموت خير من حياة يحجِّم الخوف فيها الحرية، فسافرت إلى باريس برغم قلقها. بدا غير مقبول لها أن تدرس أفكار الحرية الفلسفية ولا تعيشها. قالت: «قرَّرت أن أي شيء هو خير من حياة كتلك الحياة».
في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، قامت آمير بتدريس الفلسفة في جامعات عديدة وحاضرت في برامج التعليم المستمر للراشدين. وكان بعض طلبتها الراشدون يبدون رغبة في الحديث معها عن موضوعات خاصة، فكانت تعطيهم رقم هاتفها. وبدأ هؤلاء يحيلون إليها أصدقاءهم. وقام صحفي بتغطية عملها الذي اجتذب زبائن آخرين. وفيما بدأ مزيد من الغرباء يطلبون مواعيد، بدأت تفرض رسوما للجلسات الخاصة وفقا لمقياس متدرج. (سعر الساعة لديها الآن قرابة مائة وخمسين دولارًا).
الفلسفة مصدر طبيعي وغريب لمعاونة الناس على حل مشكلات الحياة. فقد ركَّزت التراثات الفلسفية العتيقة من قبيل الرواقية أو البوذية على الأخلاقيات والتقنيات العملية لتخفيف المعاناة، لكن أغلب الفلسفة الحديثة يستهدف في ما يبدو التعبير عن المعاناة، لا التقليل منها. وقد كتب شوبنهاور أن «الحياة مغرقة في المعاناة. مسارها في عمقه مأساوي على الدوام، ومنتهاها أفدح من مسارها».
قالت آمير عن عملها الاستشاري: «إنه في تصوري يتعلق بالتفكير. ليس بتنمية مهارات الإنصات والتعاطف، فهذا أمر لم يتعلمه الفلاسفة. هي دروس خاصة في الفلسفة، وما من مادة أخرى» -حسب زعمها- «تعلمك التفكير بصورة أفضل عندما يتعلق الأمر بحياتك».
من أجل فهم حقيقي للاستشارة الفلسفية تقترح عليَّ آمير أن أجرِّب جلسة. وتصادف أنها كانت حاضرة مؤتمرا دوليا حول الاستشارة الفلسفية في تيميسوارا برومانيا. التقينا في ردهة الأكاديمية الرومانية شاهقة السقف على مقربة من منطقة وسط المدينة العتيق. كان أكثر من خمسين فيلسوفا ينتمون إلى أكثر من اثني عشرة بلدا قد اجتمعوا، وبدا المؤتمر كأنه لقاء لمّ الشمل لعائلة ضخمة العدد غريبة الأطوار. انتبهت لي آمير من آخر القاعة، لكن اعترضها قبل الوصول إليّ زملاء من أسبانيا ورومانيا وأمريكا.
سألتها عن رحلتها بالطائرة.
فقالت «ألا تزال تذكر؟ غير جيدة، لكنني هنا».
مضينا إلى القاعة الصغيرة التي ستلقي فيها آمير محاضرة المؤتمر الأساسية. قالت لي: إن هدفها هو «إثارة الحماس في الناس». رائحة غادية أمام المنصة وفي يدها الميكروفون انتقدت المعالجين النفسيين التقليديين الذين «لا يستطيعون أن يطرحوا لكم المُثُل العليا. لا يستطيعون أن يطرحوا عليكم رؤية للعالم». وذهبت إلى أن الفلسفة وحدها هي القادرة على إحداث التحول بتعريض الناس لرؤى كثيرة وزيادة مقدرتهم على تقييمها عقلانيا. وبدا على الحاضرين السرور.
في تلك الظهيرة، جلسنا إلى طاولة في مطعم بجانب نهر فيجا من أجل جلسة شخصية. دفعت آمير شعرها الأشقر الطويل عن عينيها، وارتشفت من الشاي، وسألتني عما أريد مناقشته. قلت إنني على مدار السنين القليلة الماضية أعمل على كتاب، والآن أنتظر نشره، ومصيره في الغالب ليس في يدي. كنت أعرف دائما أن نجاحه سوف يخضع جزئيا لمبيعاته. ومع قرب الطباعة، باتت تلك الحقيقة تؤرقني أكثر فأكثر. فبت أوشك أن أشعر بالغثيان كلما فكرت فيها.
قالت آمير: «إذن كتابك الأول على وشك الصدور، وهذا رائع. قد يقدَّر نجاحه بناء على المبيعات، وهذا أمر سخيف. فإذا لم يبع جيدا لا يعني هذا أنه غير جيد. ولكنه عنصر ليست لك سيطرة عليه».
قلت: «بالضبط. هذا هو الأمر».
ارتشفت من الشاي وقالت: «وإذن، ما المثير للجنون في عدم السيطرة على أمر؟»
فكرت قليلا ثم قلت «يعني، حينما تعلمين أن بعض الأمور التي تعنيك إنما تعتمد على ما لا سيطرة لك عليه، قد يكون هذا مثيرا للجنون».
قالت آمير: «صح. لكن أليس الأمر هكذا في العادة؟»
«من قبيل؟»
«كل شيء. فليست لك سيطرة على أن تسير رحلة طيران على ما يرام. قد يفقد المرء حياته، ساقه، حقائبه، زوجته. في العادة ما لا يكون لنا سيطرة عليه لا يكون بالأمور البسيطة» ومرَّرت إحدى يديها في الهواء كمن تطبق النقطة على المجدِّفين في زوارق تعبر النهر وعلى راكبي السيارات التي تئز على الجسر أعلى رؤوسهم. قالت: «الآن لدينا فكرتك عما لا سيطرة عليه. وهذا أمر يجب أن نستكشفه. ولدينا تصور للنجاح. والثالث سيكون العلاقة بين النجاح والشيء الخارج عن السيطرة». تناقشنا لوهلة في تعريفات مختلفة للنجاح. ثم وجَّهت الحوار إلى سبينوزا الذي «يقول إن الشخص الراغب في أن يعيش بلا خوف يلزمه أن يعيش بلا أمل. أغلب الناس يريدون الحصول على الجانب المشرق فقط من الأمور، دون الجانب المقبض. لكنها عملة واحدة»، حسبما قالت وهي تضيِّق عينيها. وأردفت: إن الظفر بهناء البال له ثمن. وإنني لو وصلت إلى الانفصال [detachment] لما اكترثت بمبيعات الكتاب.
كانت الساعة قد أوشكت على الانتهاء. قالت آمير: «لقد باع كتابي الأول جيدا لثمانية أشهر بعد صدوره. هو عمل أكاديمي، لكنني بعد ذلك حصلت على عقود عديدة لكتب قادمة. فقدت شيئا. بت مغللة في مكتبي. قد تتصور أن النجاح يعني مزيدا من الاحتمالات، لكن فور تحقق أحد الاحتمالات، إذا بأشياء أخرى كثيرة تصبح غير ممكنة. قد ترجع النظر إلى تلك الشهور بوصفها زمان حرية». قالت إنني لو حضرت مزيدا من الجلسات، فسوف نتعمق أكثر في هذه الأفكار، وإنني قد أقرأ سينيكا وإبيكتيتوس. لم تشهد الجلسة لحظة تبصر مبهرة لكنني لاحقا سررت باتساع نظرتي.
في اليوم الثاني لي برومانيا، شاهدت جلسة استشارة فلسفية بين آدم لالاك، وهو رجل في الثلاثينيات من العمر من براغ، ولاو مارينوف وهو في الثانية والسبعين من العمر وأستاذ فلسفة في كلية نيويورك سيتي وشريك مؤسس في الاتحاد الأمريكي للممارسين الفلسفيين. حصل لالاك على ماجستير الفلسفة من كمبريدج، ثم عمل في وظائف كثيرة في القطاع الخاص وفي منظمات غير ربحية. وبات يطمح إلى أن يكون مستشارا فلسفيا. جلس لالاك ومارينوف وجها لوجه في قاعة خاوية. وانصب ضوء الشمس شاحبا من نافذة عالية على الطاولة الخشبية في ما بينهما.
استهل لالاك قائلا وهو يمسد لحيته الشقراء الكثيفة: «لقد بلغت الثلاثين منذ شهر، وأشعر أنني أنجذب من اتجاهين شديدي التعارض. أشعر وكأن هذا العمر يفرض الكثير من المسؤولية، وكأنما يفترض بي أن أكبر وتكون لي وظيفة وأسرة. وأشعر أن ما أرغب فيه حقا هو أن أقتطع كل هذا الهراء. أريد الحصول على الأشياء التي أجدها شديدة الأهمية، وهي على سبيل المثال، الفلسفة. والفلسفة غير عملية كثيرا».
كان مارينوف، وله لحية يختلط بياضها بسوادها وحاجبان كثيفان دائبا الحركة، يدوّن بضع ملاحظات بينما يتكلم لالاك. قال: «هذا إذن جزئيا تعارض بين القيم». وسأل لالاك عن صديقته، وأبويه، ووظائفه السابقة ومستقبله المحتمل. كان جوهر مأزق لالاك أنه يريد ممارسة شيء مثير للاهتمام وأن يعيش حياة لائقة. قد يكون الأمران ممكنين، ولكن نيل الدكتوراة في الفلسفة والرجاء في الأفضل ينطوي على مخاطرة مالية.
سأله مارينوف «هل تعرفت قط على الفسفة الآسيوية؟»
قال لالاك: «أحب أن أقرأ طاوتي تشينج، لكنني لم أدرسه حق الدراسة».
دوَّن مارينوف في دفتره وقال «رائع، رائع. إنني أعيش مع هذا الكتاب منذ خمسين سنة. كان هاديا عظيما لي على المستوى الشخصي، وأكثر منه آي تشينج [I Ching]. يمكن القول إنني سوف أصف لك ما يمكن أن تقرأه فيساعدك على حل هذا التوتر». وكان الجزء الأول من وصفة مارينوف مقالة «الوجودية مذهب إنساني» لسارتر وقد أشار مارينوف إلى أنها يمكن أن تكون عونا نافعا في معرفة ما إذا كان المرء يتصرف على نحو أصيل، والثاني هو [آي تشينج] وهو دليل صيني قديم للطالع. قال مارينوف: «إن هناك موقعا إلكترونيا يسمح للمستخدمين باستشارته عبر الإنترنت. تحصل على شكل سداسي بطريقة عشوائية. تصل إلى عبارة أو قول أو جملة أو اثنتين، فإذا بها تقفز من الصفحة وتتحدث إليك. وتخبرك بما في قلبك وعقلك. إنها تعكس النصيحة التي ينبغي أن تسديها إلى نفسك لتسلك الطريق الأفضل إلى الأمام».
عبس لالاك ودوَّن في دفتره شيئا. كان هادئا في أغلب الوقت الذي قضاه مارينوف وهو يستدعي ذكريات شبابه وما كان يفعله «من أمور لا يصح ذكرها، من قبيل الجيتار الكهربائي والدراجات النارية»، وأوصى بممارسة التأمل لا بالمخدرات. ومن ناحيتي لم أستطع أن أحدِّد هل ذكَّرني مارينوف بجَدٍّ غريب الأطوار ينصح قريبه الشاب أم بأستاذ جامعي يستغل وقت المحاضرة في البوح. بعد الجلسة بدا على لالاك إحباط مهذب. قال لي: «لم أشعر أن الوصفة مناسبة لي. أعتقد أن هذه هي الكتب المفضلة لديه هو لا أكثر. ولا أعرف هل كان سيوصي بالوصفة نفسها لو أن لدي مشكلات أخرى».
في وقت تال من المؤتمر، خطَّط لجلسة مع خبير في الوجودية، وآخر متخصص في المحاورة السقراطية. قال: إن «الأمر ليس شديد الرسمية، فما من مناهج حقيقية». خلال الوقت الذي قضيته في رومانيا سمعت مستشارين فلسفيين يناصرون التأمل، والعقاقير المخدرة، والنبيذ، والغَزْل، بجانب أفكار من مفكرين من أمثال فوكو وماركس وأرسطو لا يكادون هم أنفسهم يوافقون عليها. قال لي ريك ريبتّي عضو الاتحاد الأمريكي للممارسين الفلسفيين وأستاذ الفلسفة في جامعة مدينة نيويورك وممارس الاستشارات الخاصة: إن حمل الفلاسفة على الاتفاق أشبه بمحاولة رعاية سرب قطط، فالمستشارون المعتمدون من الاتحاد الأمريكي للممارسين الفلسفيين يستعملون كل شيء، من التأمل الموجّه إلى الاستكشاف المحدد للوجودية والكانطية والفلسفة الرواقية. وفي المقابل يركز الاتحاد الوطني للاستشارة الفلسفية على ما يطلق عليه العلاج القائم على المنطق. (وكلتا المنظمتين تستوجب الحصول على ماجستير أو دكتوراه في الفلسفة لاعتماد الممارس).
يعتقد البعض أن ممارسة الاستشارة الفلسفية يجب أن تكون أكثر خضوعا لمعايير موحدة. ويتخوف آخرون من أن المستشارين الفلسفيين يغفلون عن موضوعات مهمة في الصحة العقلية. ويؤكد كلا الاتحادين النقابيين الأمريكيين الكبيرين أن الاستشارة الفلسفية لا يمكن أن تعالج اختلالات نفسية حادة معينة، ويحثَّان الممارسين على إحالة الحالات إلى مقدمي خدمات الصحة العقلية حين لا تتلاءم مشكلاتهم مع نطاق الممارسة الفلسفية. قالت لي أنجي هوبس أستاذة الفلسفة في جامعة شيفيلد التي لا تمارس الاستشارة الفلسفية: إنها تخشى أن الفلاسفة لا يعرفون متي يحيلون الحالات [إلى الأطباء النفسيين]. وقالت لين بوفكا عالمة النفس السريري في ميريلاند التي تعمل في الاتحاد الأمريكي لعلم النفس: إنها بوصفها عالمة نفس حاصلة على الدكتوراة قضت قرابة أربعة آلاف ساعة من التعلم الخاضع للإشراف قبل أن تتمكن من التقدم للحصول على رخصة الاستشارة النفسية. قالت: إن «الحصول على الاعتماد في ثلاثة أيام، ودون تحصيل خبرة خاضعة لإشراف، سيكون أمرا يقلقني كثيرا» وهي تشير هنا إلى فترة التدريب التي يشترطها الاتحاد الأمريكي للممارسين الفلسفيين. من ناحية أخرى، يؤطر المستشارون الفلسفيون عملهم باعتبار أنه يستهدف مقاومة الزحف الرامي إلى إضفاء الطابع الطبي على الحياة. ففي الحياة كثير من الشكوك وأسباب القلق والحيرة، وليست كل حيرة مرضا، وبالنسبة لأي مأزق بشري، ثمة فيلسوف يحتمل أنه واجه هذا المأزق على مدار الألفيات القليلة الماضية. وقد لا تمنحنا رؤاهم من الفوائد ما يمكن أن تدرسه التجارب السريرية العشوائية، لكنها رؤى عميقة.
في اليوم الأخير من المؤتمر، التقيت بآمير على غداء متأخر. كانت تريد أن تقنعني بأن الاستشارة الفلسفية، على ما فيها من تفاوت، تقوم على جوهر أساسي واحد. فجميع أنواع التدخل، من المواد المخدرة إلى التأمل إلى قراءة الطالع، فيها إمكانية علاج شخص ما. أما الفلسفة فمختلفة؛ لأنها تتعامل مع الأسئلة البشرية العميقة المتعلقة بالأخلاق والغرض والمعنى، من خلال الدقة المنطقية. وهي مورد قليل الاستعمال. «وحسبك أن تنظر إلى متجر كتب لتجد الرف تلو الرف من كتب المساعدة الذاتية، ثم تجد الفلسفة في ركن لا يكاد يراه أحد».
بعد الغداء، ونحن نمشي في المدينة، فكرت في فيلسوف القرن العشرين فتجنشتين، فعمله على الأسس المنطقية للرياضيات قد تبدو بعيدة، بل مستحيلة البعد، عن الحياة اليومية، غير أن هدفه من ممارسة الفلسفة حسبما كتب هو أن «يبيِّن للذبابة طريق الخروج من مصيدة الذباب». قد يعلق الفلاسفة في مصيدة تخصصاتهم الأكاديمية. وهؤلاء قد تكون الاستشارة الفلسفية بالنسبة لهم وسيلة تحرير، أي سبيلا إلى تحرير أنفسهم من خلال إضاءة طريق للآخرين.
نيك روميو أستاذ في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، ومؤلف كتاب «البديل: كيفية بناء اقتصاد عادل».
عن مجلة نيويوركر الأمريكية