مراجعة كتاب: نساء البوسعيد في القرن ١٩.. الحاكية والمحكي عنهن
الأربعاء / 11 / رجب / 1445 هـ - 14:30 - الأربعاء 24 يناير 2024 14:30
عندما نتذكر نساء البوسعيد في القرن التاسع عشر في زنجبار، فإنّ أول امرأة تقفزُ إلى أذهاننا هي السيدة سالمة بنت سعيد، وذلك لأسباب عديدة، أهمها - إلى جوار مغامرتها الجريئة والآلام التي عبرت حياتها- يعود لأنّها - وعلى نقيض الكثيرات آنذاك- كانت تجيد الكتابة. الكتابة التي تعلمتها سرا على يد أمّها في وقت لا تسمح فيه القصور بتعليم الفتيات الكتابة وإنّما القراءة التي تقتصرُ غالبا على قراءة القرآن الكريم، من مبدأ يقول: «الكتابة ليست من ضروريات الحياة في القصور». بينما يتعلم الصبيان القراءة والكتابة معًا.
لكن السيدة سالمة جعلت حياتها وتلك المرحلة الزمنية من تاريخ عُمان مرحلة حيّة ومرئية بل ومستيقظة حتى اللحظة. فقصّة أحدنا - بكل ما فيها من ضجيج عارم- هي مجرد «إشارات صغيرة على الشجر، إذا لم تكتب، وإذا لم يأتِ القارئ الذي يجعلها حية»، كما تقول الكاتبة الأمريكية أورسولا لي جوين.
كانت أمّ السيدة سالمة من جواري السيد سعيد بن سلطان في وقت وصل عدد جواريه إلى ٧٥ جارية، لكنه فضلها لاتصافها بالذكاء والثقافة العالية والقدرة على القراءة والكتابة، هذا ما يُشير إليه كتاب: «نساء البوسعيد والسلطة في زنجبار في القرن التاسع عشر» للكاتبة شيماء غنيمي علي.
ولذا لا غرابة أن يفرد هذا الكتاب فصلا كاملا من فصوله الأربعة عن السيدة سالمة، في علاقتها مع أبيها، ودورها في تمرد أخيها السيد برغش ١٨٦١، ثمّ قصّة زواجها وهروبها إلى ألمانيا، وأحوالها المادية عقب وفاة زوجها، وصولا إلى مطالبتها بإرثها. فإزاء هذا الوضوح والظهور الذي تمثلته السيدة سالمة اختبأت قصص الأخريات، ولم يُذكر من حياتهن سوى النزر القليل!
ولعلنا نرجح أنّ ما جعل السيدة سالمة تظهر بهذا الانكشاف والوضوح يرجعُ لكتابة مذكراتها التي نُشرت لأول مرة عام ١٨٨٦باللغة الألمانية، فقد كشفت عن تفاصيل دقيقة من حياتها ومن الحياة الخفية داخل القصور، ولا تزال مذكراتها مرجعا أساسيا للعديد من الدراسات. فقد ورثت السيدة سالمة من أمّها قوة الإرادة والصلابة والعزيمة، فكانت مولعة بإتيان الغريب من الأعمال، إلا أنّ هذا لم يكن ليمنع الأخريات من لعب أدوار قوية في السياسة والاقتصاد والمسائل الاجتماعية. يُشير الكتاب بشكل لافت إلى أنّ النساء في الخليج آنذاك لم يكن لهن ذكر، على نقيض نساء عُمان اللواتي تمتعن بحضور قوي في المجتمع العُماني المتمدن.
تمتعت أخوات السيدة سالمة والنساء في زمانها بقصص جيدة للحكي أيضا، إلا أنّ ما وصلنا منها قليل. فالأميرة خولة وشيفانة ومثلى وزمزم وشريفة، اشتبكن بشباك الأطماع والحساسيات السياسية كما أبدين مواقفهن النبيلة في جوانب أخرى، إلا أنّ قصصهن لم تكن تُضاء إلا خلال مذكرات السيدة سالمة، أو كتابات الآخرين، فهن في موقع «المحكي عنه» لا «الحاكي».
فبقدر ما يعرضُ لنا الكتاب الحياة الرتيبة للنساء في القصور، غير المضطرات للعمل، اللواتي يجلسن خلف النوافذ لمراقبة الحركة في الشوارع، أو اللواتي يُرسلن رسائلهن الشفوية بشأن الأمسيات، الجالسات فرادى أو جماعات في غرفهن، أو اللواتي ينشغلن بالأعمال اليدوية و يقرأن بعض الجرائد العربية والكتب، بقدر ما يُرينا أيضا صنفا آخر من النساء اللواتي يُدبرن المكائد ويدخلن في تفاصيل السياسة ويقبضن زمام الاقتصاد.
ينفتحُ الكتاب على التقسيم التشريحي للحريم داخل القصر: زوجات السلطان وبناته والمستولدات المحظيات والجواري، إلا أنّ اللافت هو تلك الإشارة إلى أنّ الجواري المتمكنات من القراءة والكتابة كانت لهن معاملة خاصة، وأنّ الحُكام كانوا يأخذون بمشورة المتمتعات بحصافة الرأي، كما لم يظهر تمييز طبقي في مسألة التعليم، فالجواري يجلسن مع أولاد السلطان ليتعلمن أيضا، وإن اقتصر الأمر على تعلم القراءة وحسب.
يسرد الكتاب قصص نسوة تمتعن بالدهاء والنفوذ والاستقلال الاقتصادي، فكن يرثن ويدرن أعمالهن ويتمتعن بحق البيع والشراء، كالسيدة موزة بنت الإمام أحمد البوسعيدي، التي هيأت الحكم باقتدار لابن أخيها السيد سعيد بن سلطان، فعندما حوصرت مسقط حصارا خانقا ولم يكن لديها الحديد لصناعة البارود، أمرت بجمع كل مسامير المدينة، فصهرت الحديد والرصاص والنحاس وحتى العملات النقدية لتصيرها قذائف وطلقات وقنابل فحالفها النصر.
ماذا أيضا عن قصّة السيدة خولة التي كانت كبيرة المسؤولات عن الخزانة في عهد أبيها؟ بدت وكأنّها حاكمة أمام رعيتها، فقد كان والدها يصحبها أو يرسلها بمفردها إلى الخزينة، ويعتمد عليها في إدارة بيت المتوني. وكانت الأكثر مجاهرة بعداء الإنجليز، فقد ذهبت إلى القنصل البريطاني تطلب منه إيقاف الحرب القذرة ضد أخيها برغش. لقد كانت السيدة خولة هي المرأة الأهم في حياة أخيها السيد برغش وصاحبة الاستشارة الأولى وكانت وراء تثبيت حكمه وتجميع ولاء القبائل والشيوخ له، كما كانت زوجته السيدة موزة بنت حمد المستشارة الوحيدة التي ترافقه في معظم رحلاته وصاحبة نفوذ في القصر السلطاني «بيت العجائب».
وقد وصفت إحدى الأوروبيات السيدة غنية بنت سيف -والدة السيد سعيد بن سلطان- بأنّها: «تجلسُ معتدلة بعيدة عن باقي النسوة في وضع يوحي بأنّها الآمرة الناهية، وهي تستقبلُ زوجات الوفود الرسميين». أما السيدة عزة بنت سيف بن الإمام أحمد، فقد تمتعت بقوة نفوذ في بيت المتوني، وقد عرفت باسم «بيبي» عزة، أي السيدة المعظمة، وقد وُصفت الحياة داخل القصر في حياتها، بأنّها أشبه ما تكون بحياة الأديرة، لشدة تسلطها رغم أنّها لم تنجب أميرا أو أميرة. وكما يشير الكتاب فربما أصلها العربي هو ما كان يعطيها - جوار شخصيتها القوية- الحضور المكثف والعميق على غيرها من نساء القصر.
السيدة عائشة إحدى أخوات السيد سعيد وزوجة السيد هلال بن محمد، وقفت بصلابة في وجه أخيها الذي هدد بقتل زوجها بل وتصدت لهجوم مباغت وعنيف قام به ابن عمها والي صحار. وقد قامت بإرسال الرسائل إلى القبائل المؤيدة لزوجها، فأطلق أخوها سراحه، وتصالح معها وصار يستشيرها في أموره.
ناهيك عن الدسائس الماكرة التي دُبرت على أيدي نساء القصور وجواريها، فقد دُبرت مؤامرة ضد السيد هلال أكبر أبناء السيد سعيد، فاتهمته جارية بأنّه هتك عرضها، فجُرد من إرثه ونفي إلى عدن.
اللافت حقا هو الاهتمام بثقافة الجارية وذكائها اللذان يأتيان في مرتبة متقدمة على مرتبة الجمال، إذ يمكن أن يتم استبعاد الجارية لمجرد عدم حيازتها على الثقافة الكافية. وإن كانت الكتابة تُغير حياة المرأة ومكانتها، فإن الجارية التي تُنجب من سيدها السلطان تنقلبُ حياتها رأسا على عقب أيضا، فالمستولدات يأتين في الترتيب الثاني بعد الزوجات، إذ تصبح الجارية حرّة بعد الإنجاب لكن لو مات الابن فمن حق سيدها أن يبيعها. «لم نر في عهد البوسعيديين في زنجبار في القرن التاسع عشر من يتزوج من جواريه؛ لأنّه غير مستحب وإن كانت مستولدة».
لم يكن حضور النساء منصبٌ على الرغبة في الاستحواذ ورغبات الانتقام، كانت هنالك قصص أخرى يمكن أن تروى لبطولات من نوع آخر، تتبدى فيها الإنسانية العذبة، فالسيدة شيفانة بنت السيد سعيد أحبت عبيدها أكثر من أخوتها فأعطتهم كل ما تمتلك من ثروتها الطائلة، ثمّ قامت بتحرير عبيدها وهي على فراش الموت، وأعطتهم مزرعة لتدبير معيشتهم حتى لا يصبحوا مضطرين للعمل في مزارع أخرى، أما السيدة زوينه بنت السيد سعيد فقد أوقفت أموالها للفقراء.
الكتاب في عمومه لا يقول جديدا بشأن هذه السيدات، ولا يضعنا أمام تحليلات عميقة لمواقفهن وآرائهن، كما أنّه لا يفرد أبوابا أو فصولا مستقلة لكل واحدة منهن -باستثناء السيدة سالمة- وفق منهج زمني، الأمر الذي صعّب علينا تتبع الشخصيات النسائية التي تبرز وتختفي ضمن السياق العام للأحداث السياسية وموازين السلطة في زنجبار آنذاك، إلا أنّه من جهة أخرى جمع قصصهن وأبرزها، ومن هنا يكتسب هذا الكتاب أهميته، فهو يُذكرنا بهن، وكيف أنّ الكتابة «حاكيا أو محاكيا عنك» شكل من أشكال الأبدية والخلود.
إنّ نُدرة ذكر أسماء وقصص سيدات القصر من قبل المؤرخين جعلت أشياء كثيرة تفوتنا، رغم أنّ ما تبقى يصلح كمادة خصبة لكتابة الروايات ولعمل الأفلام والمسلسلات شديدة الدراماتيكية. فلقد كان بحوزة هذه النسوة حكايات جديرة بالحكي عن حياة لم تصلنا دقائقها الاجتماعية الصغيرة كما وصلتنا قضاياها الكبيرة، إلا أنّهن لم يكتبن حكاياتهن بأيديهن، الأمر الذي جعل قصّة السيدة سالمة مُشعة وذات قيمة مؤثرة حتى اليوم. «الشعر يخلق الأسطورة، النثر يرسم صورة له» هذا قاله جان بول أوستر، وهذا ما فعلته السيدة سالمة.. لقد رسمت بنثرها صورة للمكان وأبعاده وحكاية البشر الذين عبروا نسيج حياتها.
هدى حمد صحفية وروائية عمانية
لكن السيدة سالمة جعلت حياتها وتلك المرحلة الزمنية من تاريخ عُمان مرحلة حيّة ومرئية بل ومستيقظة حتى اللحظة. فقصّة أحدنا - بكل ما فيها من ضجيج عارم- هي مجرد «إشارات صغيرة على الشجر، إذا لم تكتب، وإذا لم يأتِ القارئ الذي يجعلها حية»، كما تقول الكاتبة الأمريكية أورسولا لي جوين.
كانت أمّ السيدة سالمة من جواري السيد سعيد بن سلطان في وقت وصل عدد جواريه إلى ٧٥ جارية، لكنه فضلها لاتصافها بالذكاء والثقافة العالية والقدرة على القراءة والكتابة، هذا ما يُشير إليه كتاب: «نساء البوسعيد والسلطة في زنجبار في القرن التاسع عشر» للكاتبة شيماء غنيمي علي.
ولذا لا غرابة أن يفرد هذا الكتاب فصلا كاملا من فصوله الأربعة عن السيدة سالمة، في علاقتها مع أبيها، ودورها في تمرد أخيها السيد برغش ١٨٦١، ثمّ قصّة زواجها وهروبها إلى ألمانيا، وأحوالها المادية عقب وفاة زوجها، وصولا إلى مطالبتها بإرثها. فإزاء هذا الوضوح والظهور الذي تمثلته السيدة سالمة اختبأت قصص الأخريات، ولم يُذكر من حياتهن سوى النزر القليل!
ولعلنا نرجح أنّ ما جعل السيدة سالمة تظهر بهذا الانكشاف والوضوح يرجعُ لكتابة مذكراتها التي نُشرت لأول مرة عام ١٨٨٦باللغة الألمانية، فقد كشفت عن تفاصيل دقيقة من حياتها ومن الحياة الخفية داخل القصور، ولا تزال مذكراتها مرجعا أساسيا للعديد من الدراسات. فقد ورثت السيدة سالمة من أمّها قوة الإرادة والصلابة والعزيمة، فكانت مولعة بإتيان الغريب من الأعمال، إلا أنّ هذا لم يكن ليمنع الأخريات من لعب أدوار قوية في السياسة والاقتصاد والمسائل الاجتماعية. يُشير الكتاب بشكل لافت إلى أنّ النساء في الخليج آنذاك لم يكن لهن ذكر، على نقيض نساء عُمان اللواتي تمتعن بحضور قوي في المجتمع العُماني المتمدن.
تمتعت أخوات السيدة سالمة والنساء في زمانها بقصص جيدة للحكي أيضا، إلا أنّ ما وصلنا منها قليل. فالأميرة خولة وشيفانة ومثلى وزمزم وشريفة، اشتبكن بشباك الأطماع والحساسيات السياسية كما أبدين مواقفهن النبيلة في جوانب أخرى، إلا أنّ قصصهن لم تكن تُضاء إلا خلال مذكرات السيدة سالمة، أو كتابات الآخرين، فهن في موقع «المحكي عنه» لا «الحاكي».
فبقدر ما يعرضُ لنا الكتاب الحياة الرتيبة للنساء في القصور، غير المضطرات للعمل، اللواتي يجلسن خلف النوافذ لمراقبة الحركة في الشوارع، أو اللواتي يُرسلن رسائلهن الشفوية بشأن الأمسيات، الجالسات فرادى أو جماعات في غرفهن، أو اللواتي ينشغلن بالأعمال اليدوية و يقرأن بعض الجرائد العربية والكتب، بقدر ما يُرينا أيضا صنفا آخر من النساء اللواتي يُدبرن المكائد ويدخلن في تفاصيل السياسة ويقبضن زمام الاقتصاد.
ينفتحُ الكتاب على التقسيم التشريحي للحريم داخل القصر: زوجات السلطان وبناته والمستولدات المحظيات والجواري، إلا أنّ اللافت هو تلك الإشارة إلى أنّ الجواري المتمكنات من القراءة والكتابة كانت لهن معاملة خاصة، وأنّ الحُكام كانوا يأخذون بمشورة المتمتعات بحصافة الرأي، كما لم يظهر تمييز طبقي في مسألة التعليم، فالجواري يجلسن مع أولاد السلطان ليتعلمن أيضا، وإن اقتصر الأمر على تعلم القراءة وحسب.
يسرد الكتاب قصص نسوة تمتعن بالدهاء والنفوذ والاستقلال الاقتصادي، فكن يرثن ويدرن أعمالهن ويتمتعن بحق البيع والشراء، كالسيدة موزة بنت الإمام أحمد البوسعيدي، التي هيأت الحكم باقتدار لابن أخيها السيد سعيد بن سلطان، فعندما حوصرت مسقط حصارا خانقا ولم يكن لديها الحديد لصناعة البارود، أمرت بجمع كل مسامير المدينة، فصهرت الحديد والرصاص والنحاس وحتى العملات النقدية لتصيرها قذائف وطلقات وقنابل فحالفها النصر.
ماذا أيضا عن قصّة السيدة خولة التي كانت كبيرة المسؤولات عن الخزانة في عهد أبيها؟ بدت وكأنّها حاكمة أمام رعيتها، فقد كان والدها يصحبها أو يرسلها بمفردها إلى الخزينة، ويعتمد عليها في إدارة بيت المتوني. وكانت الأكثر مجاهرة بعداء الإنجليز، فقد ذهبت إلى القنصل البريطاني تطلب منه إيقاف الحرب القذرة ضد أخيها برغش. لقد كانت السيدة خولة هي المرأة الأهم في حياة أخيها السيد برغش وصاحبة الاستشارة الأولى وكانت وراء تثبيت حكمه وتجميع ولاء القبائل والشيوخ له، كما كانت زوجته السيدة موزة بنت حمد المستشارة الوحيدة التي ترافقه في معظم رحلاته وصاحبة نفوذ في القصر السلطاني «بيت العجائب».
وقد وصفت إحدى الأوروبيات السيدة غنية بنت سيف -والدة السيد سعيد بن سلطان- بأنّها: «تجلسُ معتدلة بعيدة عن باقي النسوة في وضع يوحي بأنّها الآمرة الناهية، وهي تستقبلُ زوجات الوفود الرسميين». أما السيدة عزة بنت سيف بن الإمام أحمد، فقد تمتعت بقوة نفوذ في بيت المتوني، وقد عرفت باسم «بيبي» عزة، أي السيدة المعظمة، وقد وُصفت الحياة داخل القصر في حياتها، بأنّها أشبه ما تكون بحياة الأديرة، لشدة تسلطها رغم أنّها لم تنجب أميرا أو أميرة. وكما يشير الكتاب فربما أصلها العربي هو ما كان يعطيها - جوار شخصيتها القوية- الحضور المكثف والعميق على غيرها من نساء القصر.
السيدة عائشة إحدى أخوات السيد سعيد وزوجة السيد هلال بن محمد، وقفت بصلابة في وجه أخيها الذي هدد بقتل زوجها بل وتصدت لهجوم مباغت وعنيف قام به ابن عمها والي صحار. وقد قامت بإرسال الرسائل إلى القبائل المؤيدة لزوجها، فأطلق أخوها سراحه، وتصالح معها وصار يستشيرها في أموره.
ناهيك عن الدسائس الماكرة التي دُبرت على أيدي نساء القصور وجواريها، فقد دُبرت مؤامرة ضد السيد هلال أكبر أبناء السيد سعيد، فاتهمته جارية بأنّه هتك عرضها، فجُرد من إرثه ونفي إلى عدن.
اللافت حقا هو الاهتمام بثقافة الجارية وذكائها اللذان يأتيان في مرتبة متقدمة على مرتبة الجمال، إذ يمكن أن يتم استبعاد الجارية لمجرد عدم حيازتها على الثقافة الكافية. وإن كانت الكتابة تُغير حياة المرأة ومكانتها، فإن الجارية التي تُنجب من سيدها السلطان تنقلبُ حياتها رأسا على عقب أيضا، فالمستولدات يأتين في الترتيب الثاني بعد الزوجات، إذ تصبح الجارية حرّة بعد الإنجاب لكن لو مات الابن فمن حق سيدها أن يبيعها. «لم نر في عهد البوسعيديين في زنجبار في القرن التاسع عشر من يتزوج من جواريه؛ لأنّه غير مستحب وإن كانت مستولدة».
لم يكن حضور النساء منصبٌ على الرغبة في الاستحواذ ورغبات الانتقام، كانت هنالك قصص أخرى يمكن أن تروى لبطولات من نوع آخر، تتبدى فيها الإنسانية العذبة، فالسيدة شيفانة بنت السيد سعيد أحبت عبيدها أكثر من أخوتها فأعطتهم كل ما تمتلك من ثروتها الطائلة، ثمّ قامت بتحرير عبيدها وهي على فراش الموت، وأعطتهم مزرعة لتدبير معيشتهم حتى لا يصبحوا مضطرين للعمل في مزارع أخرى، أما السيدة زوينه بنت السيد سعيد فقد أوقفت أموالها للفقراء.
الكتاب في عمومه لا يقول جديدا بشأن هذه السيدات، ولا يضعنا أمام تحليلات عميقة لمواقفهن وآرائهن، كما أنّه لا يفرد أبوابا أو فصولا مستقلة لكل واحدة منهن -باستثناء السيدة سالمة- وفق منهج زمني، الأمر الذي صعّب علينا تتبع الشخصيات النسائية التي تبرز وتختفي ضمن السياق العام للأحداث السياسية وموازين السلطة في زنجبار آنذاك، إلا أنّه من جهة أخرى جمع قصصهن وأبرزها، ومن هنا يكتسب هذا الكتاب أهميته، فهو يُذكرنا بهن، وكيف أنّ الكتابة «حاكيا أو محاكيا عنك» شكل من أشكال الأبدية والخلود.
إنّ نُدرة ذكر أسماء وقصص سيدات القصر من قبل المؤرخين جعلت أشياء كثيرة تفوتنا، رغم أنّ ما تبقى يصلح كمادة خصبة لكتابة الروايات ولعمل الأفلام والمسلسلات شديدة الدراماتيكية. فلقد كان بحوزة هذه النسوة حكايات جديرة بالحكي عن حياة لم تصلنا دقائقها الاجتماعية الصغيرة كما وصلتنا قضاياها الكبيرة، إلا أنّهن لم يكتبن حكاياتهن بأيديهن، الأمر الذي جعل قصّة السيدة سالمة مُشعة وذات قيمة مؤثرة حتى اليوم. «الشعر يخلق الأسطورة، النثر يرسم صورة له» هذا قاله جان بول أوستر، وهذا ما فعلته السيدة سالمة.. لقد رسمت بنثرها صورة للمكان وأبعاده وحكاية البشر الذين عبروا نسيج حياتها.
هدى حمد صحفية وروائية عمانية