أعمدة

الإصغاء يُحدثُ فرقا

هدى حمد
 
هدى حمد


تمثلت الرقةُ البالغة في أبهى صورها، عندما مدّت يدها الكريمة، لتُصافح يد امرأة طاعنة في السن كانت تقف خلفي مباشرة. غمرتها بكلمات المودة واللطف، فأنبأ وجه المرأة العجوز عن أمارات السرور والغبطة، وتهدج صوتها بكلمات الامتنان وهي تضغط على يد السيدة بفرح وحبور.

شقّت صفوفنا كجدول ماء في السواقي العطشى، ومضت كنجم مُشع في الأمسيات الآسرة، ترشقنا بابتسامتها العذبة. تقف بين حين وآخر بتأنٍ لتُصغي أو لتشكر الحاضرات، ولا أدري حقا كيف تجاور اعتدادها الشامخ وحضورها البهي مع تلك الألفة النادرة والبساطة التي تزدهر في أعين الناظرين لها.

كنتُ أراها لأول مرّة من مسافة قريبة، فكانت بعينين لامعتين تُنبئان عن عزم لا يلين، وحضور لافت لا تُخطئه عين، تهبُّ حواسها كلها للإصغاء دون كلل أو ملل لكل اللواتي استوقفنها لحديثٍ أو دعاء.

هكذا خرجت كلمات السيدة الجليلة: عهد بنت عبدالله البوسعيدية، بتلقائية محلية عذبة، دون أن تُقيم حواجز بينها وبين النساء اللواتي التقت بهن في قصر بيت بهجة الأنظار في صحار -وقد تشرفتُ أنّ أكون بينهن- احتفاء بالذكرى الرابعة لتولي صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق مقاليد الحكم في البلاد.

تجلى الموقف الآخر الذي استرعى انتباهي، في المرأة التي وقفت خلفي بمسافة ليست بالبعيدة، مُستندة على كرسي العكاز الذي يُعين جسدها المنتفض على الوقوف، كانت في طريقها لتناول العشاء بصحبتنا، لكني سرعان ما أبصرتُ إحدى المنظمات تقودها إلى طاولة السيدة الجليلة، بل جعلتها تجلسُ في أقرب كرسي منها، الأمر الذي يُحيلنا إلى دلالات عميقة حول الرغبة الأصيلة في الإصغاء والتقرب وتلمس حاجات الناس من مسافة شديدة الحميمية.

الأصوات الهامسة التي سمعتها تخرجُ من هنا وهناك، كانت تشير إلى أنّ الأمر ليس بالغريب عليها، فلقد قدّمت صورا مماثلة بتلقائية صريحة في زياراتها السابقة إلى المحافظات والولايات والمؤسسات المختلفة.

الصورة الجديدة التي باتت ترسمها لنا، تُعيدُ إلى الأذهان صورة السيدة الجليلة ميزون بنت أحمد المعشنية -والدة السلطان قابوس رحمهما الله- الشخصية التي قرأنا عن قوتها وكرمها وصبرها، حيثُ يتكشفُ تقديرها للآخر من خلال كتاب الطبيبة الإنجليزية آن كوكسون، «بيبي ميزون والطبيبة آن»، للمترجمة فاطمة بنت ناصر. ولعل الحادثة المقتطفة من الكتاب والتي أوردها الكاتب سليمان المعمري في مقال سابق، تربطُ الصورة الذهنية للسيدتين بطريقة أشدّ دقة، فعندما طلبت الطبيبة من السيدة ميزون الخلود للراحة وعدم مقابلة أحد في اليوم الذي مرضت فيه بشدة، رفضت السيدة ميزون قائلة «إنها ضربت موعدًا في ذلك اليوم بالذات للقاء بعض العائلات الظفارية التي تنتظر هذا اللقاء منذ العام الماضي وتعقد عليه آمالًا، ولا تريدها أن تعود خائبة. لم تجد الطبيبة مناصًا من الامتثال وحضور اللقاء وهي قَلِقة على السيدة التي كانت تُصغي لضيوفها باهتمام كبير، ولم تُظهِر لهم أي إشارة عمّا مرت به من أزمة صحية كادت تقتلها قبل ساعات، بل كانت مهتمة بكل التفاصيل الصغيرة، حتى تلك المتعلقة بضيافة زوارها، بدءًا من تقديم الحلوى والقهوة وحتى رشّ ماء الورد في كفوفهم».

أكد ابن خلدون منذ قرون بعيدة على أنّ «السلطة هي عبارة عن توزيع للقوة والنفوذ في المجتمع، وهي تنشأ من قوة الناس وقدرتهم على تحقيق الغايات المشتركة والتعاون الاجتماعي»، الأمر الذي يجعلنا نصدق أنّ أكثر ما نحتاجه الآن بصدق هو تجسير المسافات بين الناس وبين من يرسم خُطى البلاد وخططها. تلك المحاولة للتمعن في أحوال البسطاء من مسافة قريبة، تلك المحاولة لرأب الصدع ليس بين العاصمة والمحافظات المجاورة وحسب، بل بين واقع الإنسان العُماني اليوم وبين اتخاذ القرارات التي ستنطوي على آثار لا حدود لها على مستقبل الحياة في عُمان.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى