أفكار وآراء

واقع اللغة العربية في الحقل العلمي

صدر لي في عام 2022 كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان « Artificial Intelligence Methods for Fault Diagnosis in Centrifugal Pumps» الذي يمكن ترجمته باللغة العربية إلى «طرق الذكاء الاصطناعي في كشف عيوب مضخات الطرد المركزية»، وهو كتاب علمي تخصصي تناول جانبا من جوانب تطبيقات الذكاء الاصطناعي وفق تفصيل علمي دقيق، ونشره المعهد الأمريكي للفيزياء، واقترح لي -بعد فترة قصيرة- الأستاذ الباحث بدر العبري أن أكتب كتابا باللغة العربية عن الذكاء الاصطناعي أو أن أقوم بترجمة هذا الكتاب الذي تجاوزت صفحاته 300 صفحة، ووجدت أن التحدي الأكبر هو هاجس التعريب للمصطلحات العلمية والعلوم بشكل شامل التي أَلِفْتُ مصطلحاتها باللغة الإنجليزية قراءةً وتحدثًا وكتابةً؛ إذ إن التحدي يكمن في الجهد الذي ينبغي أن أبذله في إيجاد التعريب الدقيق للمصطلحات الرقمية والتقنية المستجدة في الحقل العلمي التي وجدت أن كثيرا منها يفتقر إما إلى التعريب الدقيق وإما فقدانه للتعريب؛ مما يضطرّني في حالة تأليف كتاب علمي محض يحتوي على تفاصيل علمية تخص الجانب الرقمي الذي يرتبط كثيرا بالمبادئ الرياضية العميقة -الأمر أسهل عند كتابة المقالات العلمية التي تتناول الموضوع العلمي بمضمونه العام غير المفصّل- أن أبذل جهدا في البحث المضْني عن التعريب الأمثل لمثل هذه المصطلحات المستجدة مع اضطراري لإبقاء وجود المصطلح العلمي بلغته الأصلية «الإنجليزية».

رغم هذا التحدي -الذي جاء نتيجة افتقارنا للتعريب العلمي المتسارع لكل مستجدات العلم- إلا أنني سأسعى جاهدا إلى تحقيق هذا الهدف الذي أرغب أن أراه متجاوزا النمط السطحي في التأليف العلمي باللغة العربية؛ ليكون كتابا يتناول العمق العلمي وأحدث مستجداته، ولعل المتخصصين في العالم العربي سيجدون فيه مبتغاهم.

لا يمكن أن ننكر واقع اللغة الإنجليزية التي باتت لغة العلم -في عصرنا- بعد حقبة من النشاط الاستعماري الغربي الذي تفوقت فيه بريطانيا واستمرت في بسط نفوذها وتمدد لغتها لتكون لغة العالم الأبرز في الحقل العلمي وغيرها من حقول المعرفة في الحياة، ولم يكن ذلك ليكون لولا الجمود الحضاري للعالم الإسلامي بما فيه أهم عنصر في هذه الحضارة «العرب» باعتبارهم حماةً لمقومات هذه الحضارة التي فقدت الكثير من عناصر قوتها منها عنصر اللغة الذي تدهور شيئا فشيئا منذ فقدان العرب تأثيرهم في الحضارة الإسلامية، ومن الممكن -كما يسرد التاريخ شواهده- أن هذا التدني بلغ بداية ذروته منذ العهد العثماني الذي أفقد للعربية شيئًا من هيبتها -وهذا ما أشارت إليه عدد من المصادر منها ما ذكره الدكتور وليد محمود خالص في كتابه «أم المشكلات: أهل العربية في واقعنا الحاضر: رصد وحلول»-. رغم هذا الواقع الجلّي؛ نرى أن هناك من يكابر في الاعتراف بهذا الواقع عبر مناورة ضعيفة -لم تعد تسعف حاضرنا وتداوي جراحه- يستجدى فيها بالماضي المتمثل في مساهمة العرب والمسلمين قديما في نشأة العلوم، ولا يمكن أن ننكر هذه المساهمة -في زمنها الماضي- التي قدمّها العرب والمسلمون عموما في النهوض بالحقل العلمي إبّان العصور الذهبية للحضارة الإسلامية، ولكن الواقع الحديث يقول إننا أمام أزمة حضارية فاقدة للحراك العلمي وللقدرة على مزاوجة العلم ومصطلحاته باللغة العربية وتفعيلها في حياتنا وممارساتنا العلمية والتعليمية؛ فأين موقع اللغة العربية في مناهجنا العلمية في الجامعات، وفي واقعنا العملي؟ لا أقترح تغييرَ اللغة الإنجليزية التي أصبحت واقعا عالميا باعتبارها لغة العلم ووسيلته، ولكن بعض ما يمكن أن نبدأ به إلزام المؤسسات التعليمية بضرورة وجود منهج -مادة- تعليمي معني بتدريس تعريب المصطلحات العلمية وتفعيل ممارستها الكتابية والإلقائية التي نضمن بواسطتها وجود كفاءات علمية وطنية -في جميع التخصصات العلمية- قادرة على مزاولة النشاط العلمي والتفاعل معه عبر لغته العلمية الأصلية -الإنجليزية- التي تصل به مع محطات العالم ومنصاتها وكذلك عبر اللغة العربية التي تسند تفاعله المحلي وداخل القطر العربي أجمع، وفي الوقت نفسه تُعيد للعربية وأهلها المكانة المفقودة في الحقل العلمي ولو عبر مراحل تدريجية مثل البدء بالتعريب وتفعيله بواسطة المناهج التعليمية، وعبر نشر المقالات العلمية باللغة العربية، وتأليف الكتب التي تُقيّد هذه التعريبات وتمنحها الحياة المفقودة؛ ليتفاعل المجتمع عبر أدنى ممارساته البسيطة مثل الحوارات المجتمعية إلى أعلاها مثل تلك التي تخص الجوانب الاقتصادية والصناعية والتجارية، ولا أجد في ذلك بأسا؛ فإن لم يُحدث فائدة -على الأقل في بداية طريقه- فلن يُحدثَ ضررا محليا أو دوليا، بل على العكس أرى أن منافعه -خصوصا طويلة الأمد- ستكون ذات مردود علمي وثقافي يترجم في مستقبل قادم إلى تهيئةٍ لصناعةِ حضارةٍ تُعيد مجدها الذي لا يمكن أن يستقيم إلا بوجود عنصر اللغة في جميع مواضع أركانها، وليس أيّ لغة بل لغة مثل اللغة العربية -التي يكفيها شرفا أنها لغة القرآن الكريم- التي تملك عناصر الحياة عبر منطقها الحكيم والعادل المتمثل في جذورها اللغوية المذهلة وألفاظها الغنية وقواعدها اللغوية العادلة؛ فتمنح الحركة لحضارة إنسانية تتمثل في سمو الفكر والعلم؛ إذ تتفاعل بكل انسيابية مع مكنونات الحياة وعناصرها، ويشمل ذلك الحقل العلمي الذي يحتاج إلى تفعيل أوسع بواسطة اللغة العربية التي إن وجدت نفسها في هذا الحقل بشكل حقيقي؛ فإنها تمنحه الثراء اللغوي القادر على إضفاء ديناميكية فريدة في الحقل العلمي.

أوجّه هذه الرسالة إلى كل من يعنيه الأمر -مؤسسات وأفراد- الذي يمكنه ممارسة دوره في تفعيل مزاوجة اللغة العربية بالحقل العلمي سواء عبر تخصيص مناهج تعليمية لجانب تعريب التخصصات العلمية على نحو لا يضايق وجود المناهج التي تعتمد اللغة الإنجليزية تجنبا لأيّ قطيعة معرفية بالحقل العلمي في العالم -فالعاِلم والمتعلم مطالبان بالتنقيب المعرفي عبر المصادر العلمية التي تكون في أغلبها بلغات أجنبية، وأوسعها انتشارا الإنجليزية-، وعبر إيجاد الفرص التي يمكن بواسطتها تمكين حضور اللغة العربية في الحقل العلمي مثل اللقاءات والمؤتمرات العلمية المحلية التي يمكن أن تجد للغة العربية وجودا في محافلها عبر إلقاء أوراق علمية ومحاضرات باللغة العربية، وكذلك عبر الترجمة المباشرة للمادة العلمية وتعريبها الدقيق، رغم أن البعض من الممكن أنْ يجد أنّ مثل هذه المبادرات موجودة، ولا يمكن أن أنكر وجودها إلا أنها -إن حصلت- تحدث في حالات نادرة ومحدودة -على استحياء- لا تحقق الفائدة المرجوّة؛ فالتعريب الدقيق للمصطلحات العلمية ما يزال يفتقد ذروته المطلوبة، هنا يأتي دور المتخصصين في الترجمة وعلوم اللغة في تصحيح هذا المسار وتجاوز أخطائه؛ ليخرج جيل قادر على خوض المنافسة الحضارية، والتحول من موضع المتأثر إلى المؤثر.

ما ذكرته من مقترحات لا تغطّي مجموعَ ما يمكن أن نطلق عليه مشروع البناء الحضاري؛ إذ إن هناك ما هو أكبر من هذه المقترحات منها ما يشمل اعتماد اللغة العربية لغةً للعلوم -في مؤسسات التعليم العربية دون التخلّي عن تعلم لغات العالم الرائجة- بدءًا من المراحل الدراسية ووصولا إلى جميع ممارسات الحياة مثلما يحدث -ولو بشكل جزئي- في دول كبرى مثل الصين التي تولي اهتماما بالغا بلغتها فارضةً هذا التأثير على العالم أجمع مسجلةً بذلك تفوقًا حضاريًا متسارعًا، أما بالنسبة للدول العربية التي يتجاوز عدد الناطقين بالعربية فيها 400 مليون نسمة؛ فمشروع إعادتهم للعربية مكانتها في الساحة العلمية يُعدّ مشروعًا سيقود هذه الدول العربية قاطبة إلى تفوق حضاري في جميع القطاعات، وإن كنت أرى أن الأمر يحتاج إلى شيء من التدرج دون إحداث قطيعة معرفية بالعلم ولغته السائدة -الحالية- لافتقارنا إلى مشروعات تسبق هذه المرحلة مثل التعريب الشامل والترجمة والتأليف العلمي الغزير، وسبق أن كان لبعض الدول العربية ومؤسساتها التعليمية محاولات في مثل هذه المشروعات -مثل تلك التي أشار إليها الأستاذ شحادة الخوري في بحث بعنوان (تعريب تدريس العلوم في الوطن العربي) - منها اعتماد التدريس باللغة العربية ونشاط حركة الترجمة والتأليف باللغة العربية في مصرَ في كلية الطب بالقصر العيني عام 1826، إلا أنّ هذه الشعلة خَمدت بعد عام 1887، وكذلك كان الحال في الكلية الإنجيليّة السورية في بيروت -عُرفت لاحقا بالجامعة الأمريكية- التي اعتمدت اللغة العربية في التدريس حتى عام 1884، وهذه أمثلة لمشروعات في بعض الأقطار العربية لم يُكتب لها الاستمرار، ولعل سبب ذلك يعود إلى التأثير الاستعماري الذي أدرك قوة عنصر اللغة في التعليم وخطره على بقاء الاستعمار ونفوذه؛ مما يوقظ المجتمعات وينفض غبار الجمود الذي يعوق حركتها الحضارية.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني