أفكار وآراء

إسرائيل ضحية قادتها

المتابع للصراعات التي تحدث في العالم المعاصر يشعر بقدر كبير من الخطر على مستقبل البشرية، يستوي في ذلك الدول المتقدمة والدول النامية، أو حتى الدول المتخلفة عن ركب الحضارة المعاصرة، لعل العنوان الأهم في هذا المشهد البائس هو غياب العدالة، رغم وجود منظمات دولية وأخرى إقليمية، وجميعها تستهدف منع الصراعات والحيلولة دون استقواء الدول الكبرى على حساب الدول الصغرى، والعمل على حل المشاكل بين الدول بالطرق السلمية، لعل الحالة الفلسطينية تمثل نموذجًا لفشل الدول الكبرى والمنظمات العالمية حينما فشلت في حل القضية الفلسطينية التي طال أمدها لأكثر من خمسة وسبعين عاما، واجه فيها الفلسطينيون واقعا بائسا من الظلم، حينما أُجبروا على الهجرة من أرضهم إلى أوطان غير أوطانهم، ومن بقي منهم متمسكا بأرضه واجه قسوة مفرطة وظلمًا لا مثيل له في تاريخ البشرية، تحت نظر وبصر العالم الذي يرفع شعار العدالة والحرية والعيش المشترك، وقد تبين أن جميعها مجرد شعارات فارغة خلت من محتواها.

اللافت للنظر أن الدول ذاتها التي تدعو إلى الحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، هي نفسها التي أقامت الدنيا ولم تقعدها حينما يئس الفلسطينيون من الوصول إلى أي حلول عادلة، وبعد أن عوملوا على أرضهم كغرباء لا يستحقون أي حياة كريمة، وعاشوا أوضاعا قاسية في ظل هيمنة عدوهم على كل مناحي حياتهم باعتبارهم مواطنين غرباء، مما خلَّف شعورًا باليأس وهو ما يُعد سببًا كافيًا لإقدامهم على اختراق حاجز الخوف، وكان المشهد عظيا يوم ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، وقد انتفضت الدول الكبرى للدفاع عن إسرائيل وإدانة الفلسطينيين، ولم يكتفوا بمجرد الإدانة وشيطنة الفلسطينيين في وسائل إعلامهم، بكل لغات العالم، وإنما راحوا يحشدون كل أنواع الأسلحة الفتاكة دفاعا عن إسرائيل، ولم يلتفتوا إلى واقع الفلسطينيين والأسباب الحقيقية التي أوصلتهم إلى هذه الحالة، والتي جعلتهم يختارون الموت والاستشهاد بديلًا عن حياة غابت فيها العدالة تحت أعين وبصر العالم.

لقد انكشفت نوايا الدول التي ترفع شعارات خالية من محتواها، ونحن نشهد صباح مساء القسوة المفرطة واجتياح إسرائيل لقطاع غزة، الذي لا تتجاوز مساحته أكثر من ثلاثمائة وخمسين كيلومترا، بكل وسائل الدمار واستخدام أحدث الأسلحة المدمرة ضد شعب لا يملك من وسائل الدفاع عن نفسه إلا أسلحة قديمة، لكنهم يملكون ما هو أخطر من أسلحة عدوهم، وهي تلك الصدور العارية والإرادة الصلبة، وهو ما أنزل بعدوهم خسائر لا تقارن بخسائرهم، حينما دُمرت البيوت على ساكنيها تحت صرخات النساء والأطفال وأمام أعين وبصر العالم الذي يشاهد أشلاء القتلى تحت الأنقاض، ولم يسلم من هذا العدوان حتى المستشفيات والمدارس في مشاهد مروعة يندى لها جبين العالم المتخاذل، الذي انحاز لدعم القاتل بدلًا من رفع الظلم عن المقتول.

رغم تنديد الكثير من الدول بهذا العدوان الغاشم، إلا أنه من الملاحظ أن الدول الكبرى «الاتحاد الأوروبي» والولايات المتحدة الأمريكية، جميعهم قد تحدوا العالم ومنظماته الدولية بشكل لافت وتحت مبررات غير منطقية، من بينها تحرير الأسرى الإسرائيليين بينما تغافلوا عن شعب يتضور جوعًا وقد استشهد منه ما يقرب من خمسة وعشرين ألفا، وأضعافهم من المصابين ومئات الألوف من المشردين في جنوب غزة بلا غذاء أو ماء أو دواء، وفي ظل مناخ شديد البرودة بعد أن دمر العدو ما يزيد عن ستين في المائة من المباني التي حال القصف العشوائي عن دفن موتاهم وقد شاهدنا عبر وسائل الإعلام الجثث التي تحللت تحت الأنقاض، ومناشدة منظمة الصحة العالمية بمخاطر الأوبئة الناجمة عن تحلل الجثث، ورغم ذلك كله فلا يزال أهل غزة يتعرضون لقذف الأسلحة الذكية التي اخترعها العالم المتحضر التي تحصد الأبرياء بين ساعة وأخرى.

المثير في الأمر، أن أحداثا مروعة أخرى يشهدها العالم من قبيل الصراع الروسي-الأوكراني الذي جيشت فيه أوروبا كل إمكاناتها العسكرية والاقتصادية لإنزال الهزيمة بالروس، وهو الصراع الذي طال أمده لما يقرب من عامين، وخلَّف آثارًا سلبية على معظم دول العالم، ورغم أن هذه الحرب لا تزال قائمة إلا أنها تراجعت في اهتمام السياسات الأوروبية والأمريكية، بل اعتبرتها وسائل الإعلام العالمية خبرًا ثانويًا، بينما أصبح الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في صدارة المشهد، باعتباره صراعا بين قوتين متماثلتين في عددهما وعدتهما، وهو موقف غريب حينما نساوي بين القاتل والمقتول. وفي السياق ذاته غاب المشهد السوداني الذي تفاقم بشكل مروع وأحال السودان إلى ساحة حرب مدمرة، راح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى ومئات الآلاف من المشردين، في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية مروعة، وغير ذلك من القضايا المعقدة في دول أخرى من العالم، إلا أن العالم «المتحضر» قد انتفض دفاعا عن إسرائيل، وقد رفض مجرد وقف عمليات الإبادة الجماعية.لقد سبق أن كتبت من قبل أن الفلسطينيين حتما منتصرون لا محالة، وقد عاتبني البعض.. كيف سينتصر الفلسطينيون أمام هذا الجيش الذي يملك كل وسائل الأسلحة المدمرة؟ لكنني راهنت على الفلسطينيين الذين اجتاح العدو مدنهم وقراهم، ورغم الأعداد الهائلة من الشهداء وتدمير مئات الألوف من المنازل، والقضاء على البنية الأساسية من الكهرباء والماء، لكن يبقى الفلسطيني المقاتل على أرضه ووسط ركام المباني المدمرة مُصرًا على أن يُنزل بعدوه ضربات موجعة لا تتحملها إسرائيل، وكل يوم نشاهد بطولات عظيمة، حيث يخرج المقاتل الفلسطيني من تحت أنقاض البيوت المهدمة أو من تحت الأرض أو من خلف شجر الزيتون، وقد أنزل بعدوه خسائر تلو الأخرى ضاعفت من انقسام الشعب الإسرائيلي وحكومته، بعد أن عجز نتانياهو عن تحديد موعد لإنهاء الحرب، ولم تتمكن قواته من تحقيق الأهداف التي قال من قبل بأنها ستستغرق شهرًا أو اثنين، وهي الإفراج عن الأسرى وتدمير حماس وقتل قادتها، وهي أهداف لم تتحقق بعد.

الملاحظ أيضا، تماسك الشعب الفلسطيني في غزة وقوة معنوياته، تراهم وهم يرفعون الأنقاض لإخراج جثث شهدائهم، تراهم وهم يبتسمون في منافيهم خارج بيوتهم، رغم الجوع والبرد وافتقاد كل وسائل الحياة، ترى أطفالهم وهم يلعبون ويضحكون أمام خيامهم، نشاهد تكاتف الفلسطينيين وتوحد إرادتهم، لعل كل ذلك يثير حقد عدوهم، وهو ما يضاعف من قذفه حتى للمخيمات إلا إن الذي آلمني كثيرًا هو الموقف العربي، وخصوصًا وقد راحت بعض أقطارنا العربية من خلال وسائل إعلامها تتشفى في هؤلاء البؤساء، وهي تلقي باللوم عليهم حينما قبلوا الدعم من قوى إسلامية على الضفة الشرقية للخليج العربي لأسباب سياسية، بل راح البعض منهم يتباهى بعلاقته بإسرائيل، وهو مشهد بائس ينم عن افتقادهم لأي مشاعر عروبية وإسلامية وحتى إنسانية.

في شوارع غزة ومدنها وقراها والضفة الغربية نشاهد حجم الأعداد الهائلة من الشباب والأطفال وقد رأوا بأعينهم استشهاد أحبائهم وأمهاتهم وآبائهم. هل تستطيع إسرائيل بعد كل ذلك تبديل مشاعر الكراهية من هؤلاء جميعا؟ هل يمكن لإسرائيل أن تعيش في سلام وأمن وهي تشاهد كل يوم المظاهرات والانتفاضات الغاضبة في معظم العواصم العربية؟ هل يمكن لإسرائيل أن تعيش في سلام وأمن بعد أن ارتكبت كل هذه المجازر؟ أستطيع أن أقول بكل ثقة أن نتانياهو وكل قادة إسرائيل قد حددوا مستقبلًا بائسًا لشعب إسرائيل، وأضاعوا فرصا عديدة لكي يعيش الفلسطينيون والإسرائيليون في أمن وسلام وفي دولتين متجاورتين يتعاونان فيما بينهما لإقامة حياة إنسانية كريمة، من المؤكد أن قادة إسرائيل قد بددوا كل مستقبل لكي ينعم الشعبان بحياة مستقرة، لذا فإن الفلسطينيين ليسوا فقط هم الضحية وإنما الإسرائيليون أيضا هم ضحية قادتهم.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).