الروائي الباحث «2»: «الجسد في الغزل العُذري»
الثلاثاء / 12 / جمادى الآخرة / 1445 هـ - 21:33 - الثلاثاء 26 ديسمبر 2023 21:33
للغزل في تراث العرب منازل ومسائل، والقولُ الفصلُ فيه بعيد المنال، فوفْرةٌ من كُتب الأدب التي تروي حكايات الغَزِلين، وما يُمكن أن يُكابدوه من أثر العشق في أرواحهم وأبدانهم، ووفْرةٌ من الأشعار التي انصرفت إلى الغزل بشقّيه، المدنيّ منه والبدويّ، ووفْرةٌ أيضا من المدوّنات التي عَرضت لهذه الظاهرة في تاريخ العرب، وتتبّعت حكايات العُشّاق وأشعارهم، ولا غرابةَ أن تُبَرَّز في تاريخ الأدب العربيّ مدوّنة الشعراء الغَزِلين، فيتصدّر جميل بثينة ومجنون بني عامر وكثير عزّة وعمر بن أبي ربيعة المشهد الشعريّ في القرن الأول والثاني للهجرة، ولا غرابة أيضا أن تعمّ في القرنين الثالث والرابع للهجرة وما تلاهما، موسوعات ومدوّنات تنصرف إلى الاهتمام بأخبار أهل العشق ومسارهم، فيكون كتاب الأغاني موسوعة ضامّة جامعة لهذه المتوزَّع الأخباري، وتظهر مصنّفات في موضوع الهوى ومقاتله أو العشق ومباهجه، ومنها «مصارع العُشّاق» لابن السراج، أو «كتاب ذم الهوى» لابن الجوزي.
فماذا بقي من أخبار العُشّاق لم يُدرَس، وماذا بقي من مواضيعهم التي يراها البعض عمق سموّ الإنسان، ويراها البعض الآخر مفسدة، ولَعب صبيةٍ؟ هذا مدخلٌ أردتُه بمناسبة صدور الترجمة العربيّة لكتاب الروائية الجامعيّة جوخة الحارثي «الجسد في الغزل العذري»، عن دار روايات. الشارقة 2023، بترجمة المترجمة الإنسانة (أقصد تمييزها عن الآلة)، العارفة بالأدب العربي، المالكة للسانيين وللثقافتين، زوينة آل توية، التي أجادت نقل الكتاب من أصله الإنجليزي الذي به كُتِب إلى أصله العربي الذي عنه نشأ، فزوينة -في ظنّي- لم تُترجم الكتاب فحسب، وإنّما أعادته إلى مجاله الحيويّ الذي منه وعنه نشأ، وقد نجحت إلى حدّ بعيد في تقديم نصّ عربيّ لا نصّ مترجم (ولي عودة إلى الحديث عن حالة الترجمة في السلطنة بوجود مترجمين مثل زوينة).
لقد عُرِفت صاحبةُ الكتاب بكتاباتها السرديّة، واحتلّت بهذه الكتابة منزلة عربيّة وعالميّة تضعها في محلّ الرأس، وهي تُفارق جلدتَها مبدعةً وتلبسُ من لبوس الجامعيين هيئةً لا أحبّها كثيرا عند العرب، وهي النقد الأدبي، فكيف كانت المبدعةُ في حُليّ الباحثة، وقد سبق لي أن تورّطتُ في مقالات سابقة وجزمت تقريبا أنّ أغلب الأساتذة الجامعيين في اختصاص الأدب الذين كتبوا الرواية قد فشلوا، فأنا الآن بين خيارين، إمّا أن أُفشل المبدعة، أو أن أُسقط الناقدة! الحال أنّي لن أفعل من هذين الأمرين شيئا، لسبب بسيط، لأنّ جوخة الحارثي روائيّة امتهنت الأستذة، فهي في الأصل روائيّة، والروائيّ يُمكن أن يكون ناقدا له الذوق الرفيع والأسلوبُ المرغِّبُ والقدرة على تذوّق الأدب وإدراك أبعاده. أنْ يخرج الأستاذ الجامعيّ عن جبّة التدريس ويقينيّة المعلومة، أن يخرج الجامعيّ عن وظيفته معلّما للصبيةِ مؤدِّبا ليتحقّق مبدعا له رؤيةٌ ورأي فذاك فضلٌ من اللّه كبير، ولكن أن يخرج ليُمارس البحث العلميّ وليُدلي بدلوه بين العلماء فذاك هو قلبُ دوره ومربط فرسه.
يُعتَبَرُ كتاب «الجسد في الغزل العذري» هزّة معرفيّة وإضافةً بحثيّة، تُغيّر منظورنا لما ثبت من قصص العشّاق وحكاياتهم وأصل وجودهم، ولي في الكتاب رأيٌ تفصيلي أريد أن أبديه في بيان أثر الإنسان الحكّاء في الإنسان الباحث. الغزل «العُذريّ»، وطبائعهُ، وأسئلةٌ عددٌ تلحقُ بمقاربته، وهي أسئلةٌ يتقصّاها الباحثُ الحقّ، ويتجنّبها الباحثُ الباحثُ على السلامة وطمأنينة اليقين، ومن أجل ذلك، فقد اختارت الباحثةُ أن ترجُّ الصورة الثابتة للغَزِل العُذري، وأن تُعمّق البحث في ما عُدّ من ثوابت الغزل العُذري، مراجعةً مثلا لمفهوم «العفّة» الذي وُسِمت به صلة العاشقين في الغزل العُذري، ونظرا في مفهوم الجسد وطرائق التعبير عنه وأبعاده التأويليّة الممكنة، ثلاثةُ مرتكزات اعتُمِدت في هذا الكتاب رفعتْهُ من منزلة العامّ المكتوب حول ظاهرة الغزل العُذري في التراث العربيّ، المرتكز الأوّل، منهجيّ، يتمثّل في أنّ البحث سار إلى وضع الظاهرة المدروسة أو الموضوع المُرشّح للدراسة، في إطار ابستيمي تاريخيّ شامل، يخرج عن تتبّعه في شعر الشعراء الغَزِلين، إلى وَضْعه في إطاره المعرفيّ، فمثلا عند دراسة العفّة في الغزل العذري، تتبّعت الباحثة مفهوم العفّة في الإسلام وما أدلى به الفقهاء من آراء ومواقف، ثمّ تتبّعت الظاهرة أنتربولوجيّا في خصوصيّة الثقافة العربيّة الإسلاميّة، ثمّ رصدتها في الشعر وفي الأخبار لتخرج بعد ذلك بفكرة جامعةٍ متأصّلة، بادية الملامح، وكذا الأمر في دراسة الجسد، وفي غير ذلك من المواضيع.
المرتكز الثاني، معرفيّ مرجعيّ، يتمثّل في الدراية قبل الرواية فالباحثة على درايةٍ دقيقة بأشعار العشّاق وأخبارهم، وعلى اطّلاع على المباحث التي كُتبت في هذا الموضوع أو في ما لامسه من قضايا، هو اطّلاع يصل أحيانا حدّ الهوس بعدم ترك شاردة ولا واردة قيلت في موضوع حديثها، والأهمّ من ذلك، هو عدم اغترابها، وانجذابها إلى أساتذتها، وإلى مجال تأليفها للكتاب، فبالرغم من وفرة اطّلاعها على الدراسات النقديّة الاستشراقيّة في موضوع الغزل إلاّ أنّها لا تُسلّم بها، وهي تُناقشهم في عُقر دارهم وبإشرافهم، بل هي تطرح الفكرة بالفكرة، ولا تُثّبِّت من الفِكَر إلاّ ما آمنت به، ولا تقصر مرجعيّاتها على هذا الطرح الاستشراقيّ الهامّ والنافع في مواضع، الضعيف، الواهن في مواضع أخَر، بل هي تستدعي -لتمتين موقفها وتثبيت الأرض المعرفيّة التي تقف عليها- أجدادها وأسلافها من آبائها الأدبيين فتضرب بذلك الحادث الغربيّ بالسالف الشرقي والحاضر العربيّ، فبقدر ما تستدعي دولز وخيرالله وستانبيري وفرويد وخان وكروغر وحموري وبيسترفلت وغوتاس، تدعو من دمائها القديمة ابن عربي والغزالي والجاحظ وابن حزم وابن قيِّم الجوزيَّة والتوحيدي، ومن حديث الآباء ممّن أعادوا النظر في قضية الغزل العُذري: عبد الوهّاب بوحديبة والطاهر لبيب ومحمد الخبو.
المرتكز الثالث، أنّ فكرةً في رأس الباحثة بيّنة، ظاهرةً، جليّة، تعمل على إثباتها بالبرهان والدليل، وهي أنّ الغزل العُذري هو عُذريّ في اعتصامه بمحبوبة واحدة، ولا علاقة للعُذريّة بالعفّة وتغييب الجسد، وأنّ العاشق العُذريّ لا يرمي إلى تحقيق هدْأة الروح وراحة النفس من شقاء العشق، بل هو يطلب حال الطالب، الراغب، ويريد من حاله أن يظلّ عاشقا ولها وذاك مطمحه وأمله، وأنّ تحقيق العشق وانتهاءه بالزواج هو فشلٌ لفكرة الغزل العُذري، وهي لعمري فكرةٌ جديرة بأن تُقَام لها أطروحة، وأن تُناقَش بعمق، وقد أوضحت الباحثة فكرتها، ودلّلت عليها بالبرهان.
الكتاب مستفز معرفيّا، تُلاقي فيه رغبةً في القراءة بنفس شغف قراءة رواياتها، فقد تخلّصت فيه كاتبته من ثقل النُقّاد وغثاثة الأكاديميين، وأمالت النفوس إلى المعرفة بيسر طرح عميق المسائل. فكرةُ العفّة المهدورة، والجسد المباح عند الغَزلين، والمرأة المرغوبة المطلوبة جسدا وروحا من عميق الأفكار التي أوافقها، المزج بين حكايات العُشّاق العذريين وأشعارهم وحكايات المتصوّفة وأشعارهم أمرٌ فاتحٌ لأبواب في البحث، والإشارة إلى أنّ فكرة الحلول هي صادرةٌ عن المجنون إذ قال «أنا ليلى» هي من بديع مسالك البحث. ما أناقشهُ -وأنا لا أميل إلى تقديم الكتب وعرض فصولها ومحتوياتها، بل أفضّل أن أناقشها- إذن هو أنّ المجنون ليس شخصا ولا مرجعا، وهو المستند في أغلب الكتاب، حكاياته وما نُسب إليه من أشعار، هي فِكرةٌ أوْجدها المخيال العربي كما أوْجَد نماذج للبطولة ولإنتاج الشعر، هي صُورة أسطوريّة لمنتهى العشق، تكوّنت في مقامات مختلفة احتواها الصوفيّ وقد وجد فيه العشق الإلهي، واحتواها القاصّ الشعبيّ وقد وجد جمهورا شغوفا بتلقّيها، فتدهّن بالزعفران، وأسال الدموع، وخاطب العوامّ «المليئة بطونهم بالأهواء»، فالمجنون لم يكن يوما شخصا مرجعيّا، وإنّما هو ثيمة، هو تُكَأة، حمّلت عليها كلّ الأفكار الطوباوية المثالية حول الغزل والعشق، ولذلك كنت أودّ أنّ الباحثة عندما تحدّثت عن المحبوبة الفكرة، أو المحبوبة الحلم، أو الاستعارة، أن تتحدّث أيضا عن العاشق الحُلم أو الفكرة أو الاستعارة.
المسألة الخلافيّة التالية أنّ شعر الغزل عند العرب ليس حادثا في القرن الأول -في وجهة نظري-، وليس نتاجا بالضرورة لعوامل دينيّة وحضاريّة، وإنّما هو مواصلةٌ لشعرٍ غزليّ في الجاهليّة قَبَرهُ الرّواةُ وأعدموه بسببٍ من «قلّة أدبه» وبسببٍ أيضا من استصفاءِ شعراء قبائل بعينها، ألم تصلنا من الجاهليّة قصائد في الغزل «تهرّب» النقّاد القدامى من «تغريضها» وأدخلوها في غرض الوصف، مثل «المتجرّدة» للنابغة الذبياني؟ ثمّ كيف تكون هذه القصص الغزليّة في بوادي العرب في الجاهليّة دون أشعار؟ يطرح الكتاب قضيّة قديمة جدّدها البحث، ونسف منها ثوابت، ولعمري إن لم ينسف الباحث الثوابت فلا خير فيه.
ولي أن أشير في خاتمة هذا العرض إلى أنّ خبرا عن المجنون تلبّسني منذ بداية حياتي الجامعيّة، ولم أجد له صُورة للتمكّن منه فهما وتمثّلا، بدا لي الخبر جميلا، ومرغّبا، ولكنّه محض قول، لا يمكن أن يكون واقعا، مفاد الخبر أن ليلى ظهرت للمجنون وبانت وهو يهيم على وجهه مع الوحوش، ودنت منه تريد أن تسلّيه بالقول، فقال لها: «إليكِ عني وتباعدي مني فإن حبَّكِ شغلني عنكِ».، وفي رواية أخرى، أنّ نساء أردن التقرّب منه، وسألنه الوصال، فقال لهنّ «لو قدرتُ على صرف الهوى عنها إليكن لصرفته عنها وعن كل أحد بعدها وعشت في الناس سويًّا مستريحا»، لمَ هذا المجنون يلفظ صاحبته إذ تتقرّب منه، ويرغبُ في البقاء على عشقه لها، ولمَ يتمنّع عن بقيّة الراغبات فيه إن كان مشروعه العشقيّ الموصول بليلى قد باء بالفشل؟ حكايةُ الغزل العُذري تحتاج مقاربة فلسفيّة، أنتروبولوجيّة نفسيّة، لا أدبيّة محايثة، وهذا ما فعلته الباحثة الروائية التي -بالمناسبة- أنجزت روايتها «سيدات القمر- وهي تهزّ ثوابت الغزل العُذريّ وتُعمل فيه مطرقتها وتعيد قراءة ما استغلق عنّا، فخرجت من زمنها وقد فازت بالحُسنيين، أقامت للغزل العُذري بابا، أنّه متحقّق بسبب البقاء في حالة «المرض بالحب»، وبسبب الحبّ في حدّ ذاته، لا رغبةً في التحقيق، ولا في امتلاك المحبوبة: «إليك عني فقد شغلني حبك عنك»، وأقامت للرواية بابا، فكانت الروائيّة الناقدة.
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي
فماذا بقي من أخبار العُشّاق لم يُدرَس، وماذا بقي من مواضيعهم التي يراها البعض عمق سموّ الإنسان، ويراها البعض الآخر مفسدة، ولَعب صبيةٍ؟ هذا مدخلٌ أردتُه بمناسبة صدور الترجمة العربيّة لكتاب الروائية الجامعيّة جوخة الحارثي «الجسد في الغزل العذري»، عن دار روايات. الشارقة 2023، بترجمة المترجمة الإنسانة (أقصد تمييزها عن الآلة)، العارفة بالأدب العربي، المالكة للسانيين وللثقافتين، زوينة آل توية، التي أجادت نقل الكتاب من أصله الإنجليزي الذي به كُتِب إلى أصله العربي الذي عنه نشأ، فزوينة -في ظنّي- لم تُترجم الكتاب فحسب، وإنّما أعادته إلى مجاله الحيويّ الذي منه وعنه نشأ، وقد نجحت إلى حدّ بعيد في تقديم نصّ عربيّ لا نصّ مترجم (ولي عودة إلى الحديث عن حالة الترجمة في السلطنة بوجود مترجمين مثل زوينة).
لقد عُرِفت صاحبةُ الكتاب بكتاباتها السرديّة، واحتلّت بهذه الكتابة منزلة عربيّة وعالميّة تضعها في محلّ الرأس، وهي تُفارق جلدتَها مبدعةً وتلبسُ من لبوس الجامعيين هيئةً لا أحبّها كثيرا عند العرب، وهي النقد الأدبي، فكيف كانت المبدعةُ في حُليّ الباحثة، وقد سبق لي أن تورّطتُ في مقالات سابقة وجزمت تقريبا أنّ أغلب الأساتذة الجامعيين في اختصاص الأدب الذين كتبوا الرواية قد فشلوا، فأنا الآن بين خيارين، إمّا أن أُفشل المبدعة، أو أن أُسقط الناقدة! الحال أنّي لن أفعل من هذين الأمرين شيئا، لسبب بسيط، لأنّ جوخة الحارثي روائيّة امتهنت الأستذة، فهي في الأصل روائيّة، والروائيّ يُمكن أن يكون ناقدا له الذوق الرفيع والأسلوبُ المرغِّبُ والقدرة على تذوّق الأدب وإدراك أبعاده. أنْ يخرج الأستاذ الجامعيّ عن جبّة التدريس ويقينيّة المعلومة، أن يخرج الجامعيّ عن وظيفته معلّما للصبيةِ مؤدِّبا ليتحقّق مبدعا له رؤيةٌ ورأي فذاك فضلٌ من اللّه كبير، ولكن أن يخرج ليُمارس البحث العلميّ وليُدلي بدلوه بين العلماء فذاك هو قلبُ دوره ومربط فرسه.
يُعتَبَرُ كتاب «الجسد في الغزل العذري» هزّة معرفيّة وإضافةً بحثيّة، تُغيّر منظورنا لما ثبت من قصص العشّاق وحكاياتهم وأصل وجودهم، ولي في الكتاب رأيٌ تفصيلي أريد أن أبديه في بيان أثر الإنسان الحكّاء في الإنسان الباحث. الغزل «العُذريّ»، وطبائعهُ، وأسئلةٌ عددٌ تلحقُ بمقاربته، وهي أسئلةٌ يتقصّاها الباحثُ الحقّ، ويتجنّبها الباحثُ الباحثُ على السلامة وطمأنينة اليقين، ومن أجل ذلك، فقد اختارت الباحثةُ أن ترجُّ الصورة الثابتة للغَزِل العُذري، وأن تُعمّق البحث في ما عُدّ من ثوابت الغزل العُذري، مراجعةً مثلا لمفهوم «العفّة» الذي وُسِمت به صلة العاشقين في الغزل العُذري، ونظرا في مفهوم الجسد وطرائق التعبير عنه وأبعاده التأويليّة الممكنة، ثلاثةُ مرتكزات اعتُمِدت في هذا الكتاب رفعتْهُ من منزلة العامّ المكتوب حول ظاهرة الغزل العُذري في التراث العربيّ، المرتكز الأوّل، منهجيّ، يتمثّل في أنّ البحث سار إلى وضع الظاهرة المدروسة أو الموضوع المُرشّح للدراسة، في إطار ابستيمي تاريخيّ شامل، يخرج عن تتبّعه في شعر الشعراء الغَزِلين، إلى وَضْعه في إطاره المعرفيّ، فمثلا عند دراسة العفّة في الغزل العذري، تتبّعت الباحثة مفهوم العفّة في الإسلام وما أدلى به الفقهاء من آراء ومواقف، ثمّ تتبّعت الظاهرة أنتربولوجيّا في خصوصيّة الثقافة العربيّة الإسلاميّة، ثمّ رصدتها في الشعر وفي الأخبار لتخرج بعد ذلك بفكرة جامعةٍ متأصّلة، بادية الملامح، وكذا الأمر في دراسة الجسد، وفي غير ذلك من المواضيع.
المرتكز الثاني، معرفيّ مرجعيّ، يتمثّل في الدراية قبل الرواية فالباحثة على درايةٍ دقيقة بأشعار العشّاق وأخبارهم، وعلى اطّلاع على المباحث التي كُتبت في هذا الموضوع أو في ما لامسه من قضايا، هو اطّلاع يصل أحيانا حدّ الهوس بعدم ترك شاردة ولا واردة قيلت في موضوع حديثها، والأهمّ من ذلك، هو عدم اغترابها، وانجذابها إلى أساتذتها، وإلى مجال تأليفها للكتاب، فبالرغم من وفرة اطّلاعها على الدراسات النقديّة الاستشراقيّة في موضوع الغزل إلاّ أنّها لا تُسلّم بها، وهي تُناقشهم في عُقر دارهم وبإشرافهم، بل هي تطرح الفكرة بالفكرة، ولا تُثّبِّت من الفِكَر إلاّ ما آمنت به، ولا تقصر مرجعيّاتها على هذا الطرح الاستشراقيّ الهامّ والنافع في مواضع، الضعيف، الواهن في مواضع أخَر، بل هي تستدعي -لتمتين موقفها وتثبيت الأرض المعرفيّة التي تقف عليها- أجدادها وأسلافها من آبائها الأدبيين فتضرب بذلك الحادث الغربيّ بالسالف الشرقي والحاضر العربيّ، فبقدر ما تستدعي دولز وخيرالله وستانبيري وفرويد وخان وكروغر وحموري وبيسترفلت وغوتاس، تدعو من دمائها القديمة ابن عربي والغزالي والجاحظ وابن حزم وابن قيِّم الجوزيَّة والتوحيدي، ومن حديث الآباء ممّن أعادوا النظر في قضية الغزل العُذري: عبد الوهّاب بوحديبة والطاهر لبيب ومحمد الخبو.
المرتكز الثالث، أنّ فكرةً في رأس الباحثة بيّنة، ظاهرةً، جليّة، تعمل على إثباتها بالبرهان والدليل، وهي أنّ الغزل العُذري هو عُذريّ في اعتصامه بمحبوبة واحدة، ولا علاقة للعُذريّة بالعفّة وتغييب الجسد، وأنّ العاشق العُذريّ لا يرمي إلى تحقيق هدْأة الروح وراحة النفس من شقاء العشق، بل هو يطلب حال الطالب، الراغب، ويريد من حاله أن يظلّ عاشقا ولها وذاك مطمحه وأمله، وأنّ تحقيق العشق وانتهاءه بالزواج هو فشلٌ لفكرة الغزل العُذري، وهي لعمري فكرةٌ جديرة بأن تُقَام لها أطروحة، وأن تُناقَش بعمق، وقد أوضحت الباحثة فكرتها، ودلّلت عليها بالبرهان.
الكتاب مستفز معرفيّا، تُلاقي فيه رغبةً في القراءة بنفس شغف قراءة رواياتها، فقد تخلّصت فيه كاتبته من ثقل النُقّاد وغثاثة الأكاديميين، وأمالت النفوس إلى المعرفة بيسر طرح عميق المسائل. فكرةُ العفّة المهدورة، والجسد المباح عند الغَزلين، والمرأة المرغوبة المطلوبة جسدا وروحا من عميق الأفكار التي أوافقها، المزج بين حكايات العُشّاق العذريين وأشعارهم وحكايات المتصوّفة وأشعارهم أمرٌ فاتحٌ لأبواب في البحث، والإشارة إلى أنّ فكرة الحلول هي صادرةٌ عن المجنون إذ قال «أنا ليلى» هي من بديع مسالك البحث. ما أناقشهُ -وأنا لا أميل إلى تقديم الكتب وعرض فصولها ومحتوياتها، بل أفضّل أن أناقشها- إذن هو أنّ المجنون ليس شخصا ولا مرجعا، وهو المستند في أغلب الكتاب، حكاياته وما نُسب إليه من أشعار، هي فِكرةٌ أوْجدها المخيال العربي كما أوْجَد نماذج للبطولة ولإنتاج الشعر، هي صُورة أسطوريّة لمنتهى العشق، تكوّنت في مقامات مختلفة احتواها الصوفيّ وقد وجد فيه العشق الإلهي، واحتواها القاصّ الشعبيّ وقد وجد جمهورا شغوفا بتلقّيها، فتدهّن بالزعفران، وأسال الدموع، وخاطب العوامّ «المليئة بطونهم بالأهواء»، فالمجنون لم يكن يوما شخصا مرجعيّا، وإنّما هو ثيمة، هو تُكَأة، حمّلت عليها كلّ الأفكار الطوباوية المثالية حول الغزل والعشق، ولذلك كنت أودّ أنّ الباحثة عندما تحدّثت عن المحبوبة الفكرة، أو المحبوبة الحلم، أو الاستعارة، أن تتحدّث أيضا عن العاشق الحُلم أو الفكرة أو الاستعارة.
المسألة الخلافيّة التالية أنّ شعر الغزل عند العرب ليس حادثا في القرن الأول -في وجهة نظري-، وليس نتاجا بالضرورة لعوامل دينيّة وحضاريّة، وإنّما هو مواصلةٌ لشعرٍ غزليّ في الجاهليّة قَبَرهُ الرّواةُ وأعدموه بسببٍ من «قلّة أدبه» وبسببٍ أيضا من استصفاءِ شعراء قبائل بعينها، ألم تصلنا من الجاهليّة قصائد في الغزل «تهرّب» النقّاد القدامى من «تغريضها» وأدخلوها في غرض الوصف، مثل «المتجرّدة» للنابغة الذبياني؟ ثمّ كيف تكون هذه القصص الغزليّة في بوادي العرب في الجاهليّة دون أشعار؟ يطرح الكتاب قضيّة قديمة جدّدها البحث، ونسف منها ثوابت، ولعمري إن لم ينسف الباحث الثوابت فلا خير فيه.
ولي أن أشير في خاتمة هذا العرض إلى أنّ خبرا عن المجنون تلبّسني منذ بداية حياتي الجامعيّة، ولم أجد له صُورة للتمكّن منه فهما وتمثّلا، بدا لي الخبر جميلا، ومرغّبا، ولكنّه محض قول، لا يمكن أن يكون واقعا، مفاد الخبر أن ليلى ظهرت للمجنون وبانت وهو يهيم على وجهه مع الوحوش، ودنت منه تريد أن تسلّيه بالقول، فقال لها: «إليكِ عني وتباعدي مني فإن حبَّكِ شغلني عنكِ».، وفي رواية أخرى، أنّ نساء أردن التقرّب منه، وسألنه الوصال، فقال لهنّ «لو قدرتُ على صرف الهوى عنها إليكن لصرفته عنها وعن كل أحد بعدها وعشت في الناس سويًّا مستريحا»، لمَ هذا المجنون يلفظ صاحبته إذ تتقرّب منه، ويرغبُ في البقاء على عشقه لها، ولمَ يتمنّع عن بقيّة الراغبات فيه إن كان مشروعه العشقيّ الموصول بليلى قد باء بالفشل؟ حكايةُ الغزل العُذري تحتاج مقاربة فلسفيّة، أنتروبولوجيّة نفسيّة، لا أدبيّة محايثة، وهذا ما فعلته الباحثة الروائية التي -بالمناسبة- أنجزت روايتها «سيدات القمر- وهي تهزّ ثوابت الغزل العُذريّ وتُعمل فيه مطرقتها وتعيد قراءة ما استغلق عنّا، فخرجت من زمنها وقد فازت بالحُسنيين، أقامت للغزل العُذري بابا، أنّه متحقّق بسبب البقاء في حالة «المرض بالحب»، وبسبب الحبّ في حدّ ذاته، لا رغبةً في التحقيق، ولا في امتلاك المحبوبة: «إليك عني فقد شغلني حبك عنك»، وأقامت للرواية بابا، فكانت الروائيّة الناقدة.
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي