حوار مع مايكل والزر.. شروط الحرب العادلة
الأربعاء / 13 / جمادى الآخرة / 1445 هـ - 12:05 - الأربعاء 27 ديسمبر 2023 12:05
ترجمة - يحيى بوافي -
بوعي اليسار الأمريكي، يدافع الفيلسوف ميكائيل والزر عن التزامات ليس لها كبيرُ علاقةٍ بتلك الخاصة بالمثقفين الفرنسيين؛ فهو يتساءل على سبيل المثال؛ في ظل أي شروط يمكن للحرب أن تكون عادلة، كما فرض نفسه باعتباره من أبرز المدافعين على نزعة التعدد الثقافي.
بمعهد الدراسات المتقدمة الذائع الصَّيت في جامعة برنستون بولاية نيو جرسي، كان في استقبالنا، هنا حيث اشتغل بالتدريس منذ 1980، وحيث يشغَلُ الآن منصب أستاذ فخري، يوجد مَكتَبُهُ بجدرانه التي تغطيها الكتب بإحدى البنايات الصغيرة المتناثرة على طول هكتارات تكسوها الأشجار؛ هنا عمل بعد كل من ألبرت أينشتاين وكورت غودل، قامات كبيرة للبحث العلمي وللحياة الفكرية، يتحدّث الرَّجل بصوت يرْشحُ هدوءا ونبرة رزانة؛ وهي ذات النَّبرة التي تخْتَرِقُ كتاباته رُغْمَ أنها مُكرَّسَةٌ لمواضيع خطيرة ومثيرة للانفعالات والعواطف، كما هو الحال بالنسبة للحرب والتَّدخلات الإنسانية والعدالة الاجتماعية أو حتى محاكمة لويس السادس عشر، حتَّى لا نذكر من الموضوعات إلاَّ تلك التي عالجها في هذا الحوار.
وُلد ميكائيل والزر سنة 1935، وبعد أن تلقَّى تكوينه في التاريخ، انتقل إلى دراسة الفلسفة في جامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة، ليدافع عن أطروحته لنيل شهادة الدكتوراة في التَّخَصُّص نفسه بجامعة هارفارد (ماساشوسيتس)، ليدرِّسَ بعدها بجامعة برنستون وجامعة هارفارد. نشر العديد من المؤلفات، بَعْضُها تُرجِمَ إلى لغات عديدة وكان موضوع قراءة في العالم بأسره، وصار من الأعمال الكلاسيكية للفلسفة السياسية، كما هو الشأن بالنسبة لكتاب «الحروب العادلة والحروب الظالمة» وكتاب «دوائر العدالة». حصل ميكائيل والزر، الذي تولى إدارة مجلة ديسنت «Dissent» لسنوات عديدة، على جائزة «سبينوزالنس» prix spinozalens، التي يتم تقديمها بالأراضي المنخفضة «نيذرلاند» لكل عمل كرَّس قيمَ العقلانية والتسامح في مجال الأخلاق.
•كان ميلادك بمدينة نيويورك في الولايات المتحدة سنة 1935 لأسرة يهودية من الاشتراكيين، وعشت مرحلة الطفولة طيلة فترة الحرب العالمية الثانية، بماذا أسهم هذا الأمر، بنظرك، في تشكيل فكرك؟
إن وسطي العائلي الذي كان وسطا يهوديا بشكل شديد كان في واقع الأمر اشتراكيا، بل وحتى علمانيا وصهيونيا، ويهوديتُه كانت في الواقع مختلطةً بشكل صميمي مع نزعته الاشتراكية، حتَّى أنَّنِي خَلطتُ بينهما لفترة من الزمن، فكنت على اقتناع بأن اليهودية اشتراكية... حتَّى حان موعد لقائي باليهود الأرثوذوكس! ممَّا يعني أن نشأتي إبَّان فترة الحرب العالمية الثانية قد كان لها تأثير مؤكد علي؛ وهو التأثير الذي يظهر في اهتمامي بجميع الحروب طوال حياتي، وكان تجَلِّيهِ إلى حدِّ ما في مَا كتبتُه حول نظرية الحرب العادلة؛ فأن يعيش المرء بوصفه يهوديا في مدينة نيويورك عند بداية الأربعينات من القرن العشرين، معناه أن يكون قد حصل على لقاح ضد النزعة السِّلمية؛ فبالنسبة لأقاربي وأصدقائهم وبالنسبة لي، كان من باب البداهة اعتبارُ الحرب ضد النازية حربا عادلةً بالضرورة، ومع وضع نقطة الانطلاق هذه والقبول بها، صار الموقف المنادي بالسِّلم موقفا لا يمكن الدفاع عنه.
• هل في إمكانكم، هنا تحديدا، ذكرُ
الشروط التي يمكن في ظِلّْها لحرب من
الحروب أن تكون عادلةً؟
إنها في غاية البساطة؛ ذلك أن نظريتي تَنْبَنِي انطلاقا مما أسميه بـ «المماثلة المنزلية» analogie domestique؛ والتي تبعا لها إن أنا كُنتُ في نزهة على الطريق وقام شخص ما بالاعتداء علي، عندها نكون، بشكل مُصَغَّر، أمام حرب غير عادلة أو ظالمة، أمَّا إن أنا دافعت على نفسي في مواجهة هذا الاعتداء، فإن ذلك هو ما يُشكل، ودائما على نحو مُصَغَّر، حربا عادلةً، والآن لو قمنا بتوسيع هذين المثالين ليشملا المستوى الدولي والمستوى الخاص بالمجتمعات، سيكون المثال الأنْمُوذج لحرب عادلة عندَها هو الذي يقدِّمه البلدُ الذي يدافع عن نفسه في مواجهة اعتداء أو عُدْوان، وبهذا المعنى دافع البولونيون ضد الاحتلال الألماني والإثيوبيون في مواجهة الاحتلال الإيطالي، وكلاهُما مثالٌ على الحرب العادلة، ولو كان بلد ثالث قد انخرط في الدفاع عن البولونيين أو الإثيوبيين -وهو ما لم يُقْدِم عليه أي بلد- لكان قد انخرط بدوره في حرب عادلة؛ ذلك هو ما يمثل القسم الأول من نظريتي وإليه يعود أمْرُ تحديدِ وتعريفِ ما يسمِّيه رجال اللاَّهوت الكاثوليك بـ «سؤال عدالة الحرب (jus ad bellum)»؛ أي العدالة التي تكون على ارتباط بقرار خوض الحرب، وما ينبغي اعتباره والنظر فيه بعد ذلك هو الكيفية التي تتم بها الحرب وما إذا كانت كيفية عادلةً، السؤال الحاسم هنا، هو المُتَمَثِّلُ في معرفة ما إذا المحاربون يبذلون ما بوسعهم بصورة منظَّمَة لأجل حمايةِ غير المُحاربين من عواقب الحرب وآثارها. إن مبدأ سلامة غير المقاتلين، هو ما يقود ويوجٍّه التفكير والتأمل هنا حول ما يسميه رجال اللاَّهُوت الكاثوليك بـ «سؤال العدالة أثناء الحرب (du jus in bello)»، بمعنى عدالة السلوك أثناء الحرب، بقي لنا أن نقف عند خاصيةٍ أو طابعٍ يبقى جديدا إلى حد ما، ما دمنا لم نناقشه كثيرا ضمن المذهب الكلاسيكي، ويمثِّل إسهاما نظريا أكثر حداثة إنه «سؤال عدالة ما بعد الحرب (jus post bellum)» والأمر يكون مرتبطا هنا، على سبيل المثال، بالتغييرات التي يتم فرضها على مستوى النظام السياسي، وأشكال الاحتلال، وهذا النوع من الأسئلة التي تفرض نفسها عندما يؤجّل الطرفان الانتصار.
•عارضتم الحرب على العراق لكنكم
كنتم معَ الحرب على أفغانستان،
كيف تفسرون موقفكم هذا؟
إن قرار الدخول في الحرب الذي تم اتخاذه سنة 2001، بمعنى العدالة التي لها ارتباط بقرار الدخول في المعركة (le jus ad bellum) كان مبرَّرا، ليس بحكم السَّبب الذي استدعاه الرئيس أوباما، والمتمثل في إيواء نظام طالبان للإرهابيين؛ لأن العديد من الأنظمة الموجودة في العالم تأوي الإرهابيين وهو ما لا يبرِّرُ الدخول في حرب ضدها، وإذن ما جعل قرار الدخول في الحرب قرارا عادلا، هو الارتباط الوثيق الذي كان قائما بين نظام طالبان وتنظيم القاعدة بداخل شراكة بينهما، بحيث كانت القاعدة تتمتع في أفغانستان بكل ما تسمح به السيادة، بما في ذلك هذا العنصر الحاسم المتمثل في استفادتها من قاعدة ترابية؛ وبالتالي فالقضاء عليها وعلى سندِها السيّاسي كان أمرا مبررا، من هذا المنطلق تحديدا، سنجد أن إدارة بوش قد أقدمت، كما نعلم، على فعل كل شيء ناقص ومعيب؛ بحيث لم تعمل على إرسال العدد الكافي من الجنود، كما أنها أقدمت على حرب بالوكالة، وتحالفت مع سادة الحرب، وأقامت حكومة فاسدة، إلى جانب رفضها سند ودعامة حلف شمال الأطلسي إلا بعد أن صار وقتها متأخرا جدا، كما أنها لم تخصص الموارد الضرورية من أجل إعادة البناء السياسي والاقتصادي للبلد؛ تلك الموارد التي كان يتعين استثمارُها بالنظر إلى ما تسبَّبنا فيه من أضرار، لهذا السبب حتَّى لو كان قرار الدخول في الحرب ( le jus ad bellum) قَرارا عادلا، فإن الأداء أثناء الحرب (in bello) كان مُرعبا ومخيفا، وإذن فالرئيس أوباما، وقد ورِثَ هذه الفوضى، مهما فعل، فإنه فعْلَهُ لن يكفي. إن الإقدام على خوض حرب لمدة 8 سنوات في بلد آخر تُرَتِّبُ عليك مسؤوليات، وبالتالي لا يمكن أن نعود إلى بلدنا بكل بساطة؛ وفي سياق هذه المسؤوليات نجد أن مليوني فتاةٍ ولجْنَ المدرسة في أفغانستان؛ فلو كنا غادرنا البلد، لكان الإغلاق هو مصير هذه المدارس، والعديد من المُدرِّسَات سيكون مصيرهن هو القتل.
كما نجد أيضا البشائر الأولى للحركة النقابية؛ ولو غادرنا، لكان مصير هؤلاء الفاعلين هو الاغتيال أو النفي، وبالتالي لم يكن من الممكن أن نغادر [بالنظر إلى هذه الاعتبارات]؛ غير أنني أشك أيضا في أن سؤال معرفة كيف سَنَبْقى في هذا البلد؟ ولأجل فعل ماذا؟ هو سؤال من المستحيل الإجابة عنه، لكنني مستعد مع ذلك أن أُضيف بريب وقلقٍ، سَنَةً لهؤلاء الجنرالات الذين يرددون على مسامعنا باستمرار؛ أننا أسأنا التصرُّف وهم يعتقدون اليوم، وهم مخطئون في ذلك بنظري، أنهم هم من يعرف القيام بذلك.
• لقد اشتغلتم على مشكلة قريبة وأكثر راهنيةً، هي مشكلة التدخلات الإنسانية؛ فمن يتولى اتخاذ قرار بأن تدخّلًا يفرض نفسه وأنَّه تدخُّل إنساني؟ ومن بإمكانه التَّدَخُّل إذن؟
سأبتدئُ بالإجابة على السؤال الثاني، لأقولَ بأنه من المُهِم التذكير بأن جيشا قويا بحوزته تكنولوجيا متقدمة، كما هو حال جيش الولايات المتحدة الأمريكية، لن يكون ضروريا تدخُّلُهُ لأجل وضع حدِّ لمذبحة أو عملية تقتيل؛ فالفيتناميون هم من وضع حدا للمذابح التي اقترفت في كمبوديا، والهنود هم من وضع حدا للإرهاب فيما يسمى بباكستان الشرقية (بنجلاديش حاليا)؛ كما أن تنزانيا هي التي أنْهَت النظام القاتل لعيدي أمين دادا، فمن من يتعين عليه القيام بالتدخل؟ جوابي هو أن هذا الأمر يعود لمن هو قادِرٌ عليه، وأعتقد بوجوب تفضيل القيام بذلك من قبل الدول المجاورة، لأن الرّاجحَ أن تكون معرفتُهَا أفضل من الدول الأخرى، بما يحدث فعلا على الأرض وبالثقافة الخاصة بالفاعلين، وحيثما لا يكون ذلك ممكنا، كما هو حال في إقليم دافور مثلا، حيث إن قوات الاتحاد الإفريقي لم تتمكَّن من وقف المذابح وعمليات التقتيل، في مثل هذه الحالة أُفضِّلُ أن يتم تقديمُ دَعْمٍ لوجيستي كبير من طرف الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية، أو أن يَبْعَثا ألويةٍ عسكرية من قبلهما.
• وماذا عن الأمم المتحدة؟
نعم، على الأقل إذا كان بالإمكان الاعتماد عليها من أجل التدخل بسرعة وفعالية، والحقيقة أن التدخل الفيتنامي ضد الخمير الحمر أو تدخل الهند في باكستان الشرقية، لم يسمح بهما مجلس أمن الأمم المتحدة.
• بقي السؤال المُتَعلّقُ بالشروط التي تُبَرِّرُ هذا التدخل، ما هي؟
لكي نبتدئ، من الواجب أن تكون انتهاكات الحقوق المدنية على درجة كبيرة من الخطورة؛ فعبر العالم توجد العديد من الأنظمة القاسية والسلطوية، لكن على الرغم من ذلك لا آمل أن يقوم جيش من الجيوش باختراق الحدود الوطنية لبلد من البلدان من أجل وضع حد لنظام من هذه الأنظمة، لهذا السبب لابد أن تكون الأحداث من نفس نظام ما حدث في كمبوديا، ومن نفس طبيعة ما حدث في رواندا أو ما يحدث في دارفور، ودون أن نتحرَّى دقَّة ليست بوُسْعِنا في مثل هذه الموضوعات، نقول إن هذه الحالات تعطينا فكرة عما يكون مطلوبا ومُسْتَلْزما لأجل تبرير تدخل إنساني.
• اشتهرتم بأعمالكم في مجال الفلسفة السياسية التي عملتم فيها على تطوير مفهوم ما تُطلقون عليه اسم «دوائر العدالة»، فبماذا يرتبط الأمر تحديدا؟
لقد اقترحت ما أسميته بمفهوم المساواة المعقدة، وبمقتضاه يجب توزيعُ مختلف أنواع الخيرات الاجتماعية على أشخاص مختلفين لأسباب مختلفة؛ لأن الخيرات الاجتماعية قد تم بناؤها اجتماعيا، عبر سيرورة قوامها التفاعل بين الأجيال، ووهِبَتْ لها عن طريقها بعضُ الدلالات والقيم التي يجب أن يَعكِسَها توزيعُها، وحتَّى نأخُذَ حالة مُمَثِّلة لذلك؛ لننظر في العلاجات الصحية، فاللاَّزُم هو توزيعُها على الأشخاص المرضى، وليس على من يَمتَلِكُون الثروة، وواجِبُ أن يكون هذا التوزيع تبعا للمرض ولدرجة خطورته، فبانطلاقنا من هذا الموقف الذي يبدو صحيحا من الناحية الحدسية، يمكننا النَّظَرُ إلى التربية باعتبارنا هذه المرَّة أيضا لدلالَتِهَا ولقيمتها في هذا الفضاء أو ذاك، فقد دافعت عن أن تكون إحدى الغايات الأساسية للتربية هي تكوين مواطنين وهو ما يستلزم وجوب أن تكون لنا تربية على المواطنة موَّزعة على الجميع عبر سريان عملياتٍ وجريانها بشكل متشابه، ومن خلال منح متكافئ للموارد وهكذا دواليك. لكن علاوة على هذا نريد أن نُربِّي الناس تبعا لقدراتهم على التّعلم، وعلى استخدام واستعمال معارفهم وكفاياتهم بكيفية تكون في نفس الوقت مُرضيةً على الصَّعِيد الشخصي ومُنْتِجَةً على المُستوى الاجتماعي، مما يفرضُ نظام توزيع للتربية والتعليم يكون مختلفا عن ذاك الذي تتطلَّبُه التربية المواطِنة، وهناك فصل في كتاب «دوائر العدالة» يعالج المناصب وفرص العمل المقدمة ضمن الخدمة العمومية أو داخل المهن؛ بحيث يكون توزيعُها بحسب الاستحقاق؛ فنحن جميعا نريد أن يكون الطبيب الجرَّاح بأعلى مستوى ممكن من الكفاءة، وأن يتم شغْلُ كل المناصب بالمستشفى من طرف أشخاص يكونون بأقصى مستوى ممكن من الكفاءة؛ ولهذا السبب فإن الاستحقاق يكون هذه المرة هو المقياس الذي يتم الأخذ والتمسك به وليس المجهودات المبذولة حتى لو كانت مثار إعجاب؛ بحيث لا يمكننا َ منحُ مرشَّح من المرشحين منصبَ طبيب جرَّاح لمُجَرّد حُزْنِه إثْرَ فشَلِهِ في امتحان كلية الطب، وبذات الكيفيَّة نتطلَّعُ إلى أن يتولَّى، في ظل الديمقراطية، المناصِبَ الرسميةَ أشخاصٌ تكون لهم القدرةُ على الفوز بالانتخابات، مما يعني تَمَتّعهُم بالجاذبية واتصافُهم بالإنصات المستمر لمواطنيهم.. إلخ، لكن لو كان الأمر على غرار ما ساد في الاتحاد السوفييتي، حيث النظام الاجتماعي قائم على تركيز السلطة السياسية بيد أولئك الذين يتَمتَّعُون بكل الأنواع الأخرى من الخيرات؛ بشكل يجعلهم يستفيدون من أفضل العلاجات الصحية ومن العُطل الإضافية ومن كل الخيرات الأخرى، لو كان الأمر كذلك لكان هذا النظام الاجتماعي غير عادل، وإذا كان الأشخاص الذين يمتلكون الكثير من الأموال هم القادرون على الاستفادة من أفضل العلاجات الصِّحية ومن أجود تربية وتعليم لأبنائهم، كما هو عليه الحال في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، عندها سيكون مثل هذا النظام الاجتماعي ظالما بدوره، لأن دوائر العدالة لم يتم الفصل بينها ولم يتم احترام الاستقلالية التي تتمتع بها كل واحدة منها.
• هل يمكنكم أن تشرحوا لنا بأي معنى
دفع كل هذا إلى إدراجِكُم على مستوى
الفلسفة السياسية، ضمن أصحاب النزعة الجماعاتية communautariens، حتى
وإن كان هذا اللَّفظ وذاك التصنيف لا يجدان تَمَامَ الرِّضا في نفسكُم؟
يعود ذلك في جزْءٍ منه إلى حجاجي لصالح الاعتراف بإمكانية أن تكون لخيرات من قبيل التربية والعلاجات الصحية أو الولوج إلى المناصب والمواقع السياسية قيمٌ ودلالاتٌ مختلفة تبعا للثقافات، ومن الواجب أن يكون توزيعُهَا عاكسا لذلك، والمثال المفضَّلُ عندي لأجل عرض وتقديم هذه الفكرة اعتمدتُهُ في نفس الكتاب، يتعلَّقٌ بعلاج الجسد وعلاج النفس؛ ففي العصور الوسطى كان يُنْظَرُ إلى علاجِ النّفس بوصفه أهمَّ من علاج الجسم، وبالتالي أُضفي عليه الطابع الاجتماعي وتمت التنشئة عليه، وكان الناس يؤدُّون ضريبة العُشر، كما تأسست الأبرشيَّات، وكانت المُشاركة أو المناولة إلزامية، بينما لم يكن علاج الجسد يَقينيا، لأنه كان يستند على معرفة محدودة وفي كل الأحوال كان أقل أهمية من علاج النفس، وبالتالي تم حصْرُه في المجال الخاص، لكن منذ ذلك العهد قمنا بإضفاء الطابع الخصوصي على علاج النفس ورعايتها، وهو ما يرجع في جزء منه إلى أننا صرنا نعتبره أقل أهمية، ولاعتقادنا جزئيا أيضا أن الأفراد سيُعنون به هم أنفسهم على نحو أفضل، فكان أن قمنا، على الأقل في البلدان المتقدمة كما هو حالُ فرنسا، بإخضاع علاج الجسد ورعايته للتنشئة الاجتماعية وجعلنا منه نشاطا اجتماعيا، وإذن فبينما كانت القرون الوسطى تثمِّن وتضفي القيمة على الحياة الأبدية، صرنا نحن نضفي القيمة على طول العمر ونُثمِّنُهُ، والعبور من نسق إلى آخر يمثل تغيرا طبيعيا؛ لكن ليس من غير العادل جعل العناية بالنفس وعلاجها موضوع تنشئة اجتماعية ونشاطا اجتماعيا، كما أنه ليس من الظلم إخضاع علاج الجسد والعناية به وجعله موضوع تنشئة اجتماعية، بل أعتقد أن ذلك هوما يشكل عين العدل.
• ومع ذلك يبدو أن وصف مثل هذا الموقف الجماعاتي يثير لديكم ضجرا أو على أقل تقدير يستدعي منكم بعض التحفظات.
أنا جماعاتي معتدل أو أنا صاحب نزعة تعددية ثقافية معتدل أيضا؛ فما يميزني هو انخراطي ضمن هذا الإطار العام الذي يحدِّدُ ويعرّفُ مجتمعا ليبراليا أو اجتماعيا ديمقراطيا؛ إطارٌ يجعل مجتمعا متعدد الثقافات أمرا ممكنا، فأنا أتطلع إلى يكون اليهود والكاثوليك، والسود المعمدانيين، وغيرهم من الثقافات الأخرى حيث تتجَسّدُ القيم، أن يكونوا جميعا قادرين على التمتع بحياة داخلية غنية وأن يكونوا قادرين أيضا على التعايش فيما بينهم داخل الحدود التي يحدِّدُها الانخراط في إطار دستوري ليبرالي والالتزام به.
• لقد كتبتم حول قضية وإعدام
لويس السادس عشر، كيف كان يجب
التعامل مع هذا الرجل؟ هل فعلوا ما كان
يجب فعله عندما أقدموا على إعدامه؟
لقد كتبت دفاعا عن محاكمة لويس السادس عشر وإعدامه في كتاب يحيل أيضا إلى محاكمة شارل الأول في إنجلترا، إن وجهة نظري حول هذه المشكلة، التي تبدو في انسجام مع باقي مواقفي السياسية، هي وجهة نظر الجيوردانيين (girondins) وليست وجهة نظر اليعاقبة (Jacobins)، وبذات الكيفية عندما يكون الأمر متعلقا بالثورة الروسية، أكون في صَفِّ المناشفة (mencheviks) عوِضَ البلاشفة (bolcheviks)، وأنا مدافع عن الديمقراطية الاجتماعية ولست شيوعيا، ويبدو لي أن كل هذه المواقف تربطها صلة قرابة؛ فاليعاقبة كانوا يعارضون محاكمة لويس السادس عشر الذي كانوا يسمونه بـ«عدو الشعب» وقد يكون هذا هو أصل هذه العبارة، فهو، من وجهة نظرهم، ليس طرفا في العقد الاجتماعي، بل هو بالأحرى أجنبي ينتمي إلى تلك الطبقة الدولية المتطفلة والمخادعة والمفترسة المكوَّنة من الأرستقراطيين ومن الملكات والملوك، وبالتالي فهو ليس فرنسيا ولا يمكن تقديمه للعدالة باعتباره خائنا، مثلما كان يأمل الجيرونديون، مادام المواطن وحده هو من بإمكانه اقتراف الخيانة، أما لويس السادس عشر فقد كان عدوا للشعب، وبالتالي لا يمكن حتى سجنه ما دامت خطورته ستظل قائمةً حتى وراء القضبان بسبب كل أولئك الناس الذين ظلوا تحت تأثير خداع ومكر الملكية التي يجسِّدها، مواصلين النضال من أجله، لذلك أوصى اليعاقبة بقتلِه على غرار ما فعل البلاشفة بأسرة قيصر روسيا، لكن دون أن يصل الأمر باليعاقبة حَدَّ اقتراح قتل أسرة لويس السادس عشر أيضا، غير أن الجيرونديين دافعوا عن بداهةِ كونه فرنسيا؛ فالمواطن لويس كابيه Louis Capet الذي كان ذا مقام رفيع ويشغل وظيفة سياسية وعلى الرغم من أن الخيانة قد تم تحديدها تحت حكمه، بشكل يجعله غير مُدانٍ بها (ما دام سيكون من اللاّزم أن يكون هو نفسُه خائنا لعين نَفسِهِ)، فإن هذا التعريف للخيانة ليس بالتعريف المناسب؛ ما دامت الخيانة جريمة في حق البلد، حتى بالنسبة لمن يكون ملكا لهذا البلد، والمؤَكَّد أن لويس السادس عشر قد اقترف هذه الجريمة، فالواضحُ أنه تآمر وتعامل مع الجيوش العدوة التي كانت تعتزم غزو فرنسا، لذلك تطلَّعَ الجيرونديون إلى محاكمَتِه، مُحاكمةً يكون متمتعا في كل أطوارها بجميع الحقوق التي يتمتع بها المواطن؛ بمعنى الحق في أن يتم تمثيله من طرف محامٍ، وإمكانية إحاطته معرفةً بالتّهم المنصوص عليها والموجَّهة ضدّهُ، والحق في استدعاء شهود النّفي بذات الشروط المطبّقة في حالة شهود الاتهام، إلخ. أعتقد أن ذلك هو أنسب ما كان ينبغي القيام به، وهو ما يمثل موقفي من المحاكمات السياسية اللاحقة، أخذا في الاعتبار بهذا الخصوص ما نجم عن محاكمات نورمبورج، فقد كان مجلس الوزراء البريطاني يأمل في وضع لائحة بمائة مجرم من مجرمي حرب النظام النازي، ثم قتلهم رميا بالرصاص بمجرد أن ألقى القبض عليهم، غير أن آخرين، لاسيما الأمريكيين، أصَرُّوا على ضرورة عقد محاكمة لهم وبالفعل شكل الإقدام على ذلك، أمرا مهما، لأنه مثل لحظة فارقة في تاريخ القانون الدولي.
نورمون بايِّرْجون Normand Baillargeon: أستاذ علوم التربية بجامعة الكيبيك بمونتريال في كندا، مهتم بالتفكير فلسفيا في قضايا الراهن، خصوصا قضايا التربية والتعليم.
المصدر:
philosophie Magazine,N°40,Juin2010
بوعي اليسار الأمريكي، يدافع الفيلسوف ميكائيل والزر عن التزامات ليس لها كبيرُ علاقةٍ بتلك الخاصة بالمثقفين الفرنسيين؛ فهو يتساءل على سبيل المثال؛ في ظل أي شروط يمكن للحرب أن تكون عادلة، كما فرض نفسه باعتباره من أبرز المدافعين على نزعة التعدد الثقافي.
بمعهد الدراسات المتقدمة الذائع الصَّيت في جامعة برنستون بولاية نيو جرسي، كان في استقبالنا، هنا حيث اشتغل بالتدريس منذ 1980، وحيث يشغَلُ الآن منصب أستاذ فخري، يوجد مَكتَبُهُ بجدرانه التي تغطيها الكتب بإحدى البنايات الصغيرة المتناثرة على طول هكتارات تكسوها الأشجار؛ هنا عمل بعد كل من ألبرت أينشتاين وكورت غودل، قامات كبيرة للبحث العلمي وللحياة الفكرية، يتحدّث الرَّجل بصوت يرْشحُ هدوءا ونبرة رزانة؛ وهي ذات النَّبرة التي تخْتَرِقُ كتاباته رُغْمَ أنها مُكرَّسَةٌ لمواضيع خطيرة ومثيرة للانفعالات والعواطف، كما هو الحال بالنسبة للحرب والتَّدخلات الإنسانية والعدالة الاجتماعية أو حتى محاكمة لويس السادس عشر، حتَّى لا نذكر من الموضوعات إلاَّ تلك التي عالجها في هذا الحوار.
وُلد ميكائيل والزر سنة 1935، وبعد أن تلقَّى تكوينه في التاريخ، انتقل إلى دراسة الفلسفة في جامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة، ليدافع عن أطروحته لنيل شهادة الدكتوراة في التَّخَصُّص نفسه بجامعة هارفارد (ماساشوسيتس)، ليدرِّسَ بعدها بجامعة برنستون وجامعة هارفارد. نشر العديد من المؤلفات، بَعْضُها تُرجِمَ إلى لغات عديدة وكان موضوع قراءة في العالم بأسره، وصار من الأعمال الكلاسيكية للفلسفة السياسية، كما هو الشأن بالنسبة لكتاب «الحروب العادلة والحروب الظالمة» وكتاب «دوائر العدالة». حصل ميكائيل والزر، الذي تولى إدارة مجلة ديسنت «Dissent» لسنوات عديدة، على جائزة «سبينوزالنس» prix spinozalens، التي يتم تقديمها بالأراضي المنخفضة «نيذرلاند» لكل عمل كرَّس قيمَ العقلانية والتسامح في مجال الأخلاق.
•كان ميلادك بمدينة نيويورك في الولايات المتحدة سنة 1935 لأسرة يهودية من الاشتراكيين، وعشت مرحلة الطفولة طيلة فترة الحرب العالمية الثانية، بماذا أسهم هذا الأمر، بنظرك، في تشكيل فكرك؟
إن وسطي العائلي الذي كان وسطا يهوديا بشكل شديد كان في واقع الأمر اشتراكيا، بل وحتى علمانيا وصهيونيا، ويهوديتُه كانت في الواقع مختلطةً بشكل صميمي مع نزعته الاشتراكية، حتَّى أنَّنِي خَلطتُ بينهما لفترة من الزمن، فكنت على اقتناع بأن اليهودية اشتراكية... حتَّى حان موعد لقائي باليهود الأرثوذوكس! ممَّا يعني أن نشأتي إبَّان فترة الحرب العالمية الثانية قد كان لها تأثير مؤكد علي؛ وهو التأثير الذي يظهر في اهتمامي بجميع الحروب طوال حياتي، وكان تجَلِّيهِ إلى حدِّ ما في مَا كتبتُه حول نظرية الحرب العادلة؛ فأن يعيش المرء بوصفه يهوديا في مدينة نيويورك عند بداية الأربعينات من القرن العشرين، معناه أن يكون قد حصل على لقاح ضد النزعة السِّلمية؛ فبالنسبة لأقاربي وأصدقائهم وبالنسبة لي، كان من باب البداهة اعتبارُ الحرب ضد النازية حربا عادلةً بالضرورة، ومع وضع نقطة الانطلاق هذه والقبول بها، صار الموقف المنادي بالسِّلم موقفا لا يمكن الدفاع عنه.
• هل في إمكانكم، هنا تحديدا، ذكرُ
الشروط التي يمكن في ظِلّْها لحرب من
الحروب أن تكون عادلةً؟
إنها في غاية البساطة؛ ذلك أن نظريتي تَنْبَنِي انطلاقا مما أسميه بـ «المماثلة المنزلية» analogie domestique؛ والتي تبعا لها إن أنا كُنتُ في نزهة على الطريق وقام شخص ما بالاعتداء علي، عندها نكون، بشكل مُصَغَّر، أمام حرب غير عادلة أو ظالمة، أمَّا إن أنا دافعت على نفسي في مواجهة هذا الاعتداء، فإن ذلك هو ما يُشكل، ودائما على نحو مُصَغَّر، حربا عادلةً، والآن لو قمنا بتوسيع هذين المثالين ليشملا المستوى الدولي والمستوى الخاص بالمجتمعات، سيكون المثال الأنْمُوذج لحرب عادلة عندَها هو الذي يقدِّمه البلدُ الذي يدافع عن نفسه في مواجهة اعتداء أو عُدْوان، وبهذا المعنى دافع البولونيون ضد الاحتلال الألماني والإثيوبيون في مواجهة الاحتلال الإيطالي، وكلاهُما مثالٌ على الحرب العادلة، ولو كان بلد ثالث قد انخرط في الدفاع عن البولونيين أو الإثيوبيين -وهو ما لم يُقْدِم عليه أي بلد- لكان قد انخرط بدوره في حرب عادلة؛ ذلك هو ما يمثل القسم الأول من نظريتي وإليه يعود أمْرُ تحديدِ وتعريفِ ما يسمِّيه رجال اللاَّهوت الكاثوليك بـ «سؤال عدالة الحرب (jus ad bellum)»؛ أي العدالة التي تكون على ارتباط بقرار خوض الحرب، وما ينبغي اعتباره والنظر فيه بعد ذلك هو الكيفية التي تتم بها الحرب وما إذا كانت كيفية عادلةً، السؤال الحاسم هنا، هو المُتَمَثِّلُ في معرفة ما إذا المحاربون يبذلون ما بوسعهم بصورة منظَّمَة لأجل حمايةِ غير المُحاربين من عواقب الحرب وآثارها. إن مبدأ سلامة غير المقاتلين، هو ما يقود ويوجٍّه التفكير والتأمل هنا حول ما يسميه رجال اللاَّهُوت الكاثوليك بـ «سؤال العدالة أثناء الحرب (du jus in bello)»، بمعنى عدالة السلوك أثناء الحرب، بقي لنا أن نقف عند خاصيةٍ أو طابعٍ يبقى جديدا إلى حد ما، ما دمنا لم نناقشه كثيرا ضمن المذهب الكلاسيكي، ويمثِّل إسهاما نظريا أكثر حداثة إنه «سؤال عدالة ما بعد الحرب (jus post bellum)» والأمر يكون مرتبطا هنا، على سبيل المثال، بالتغييرات التي يتم فرضها على مستوى النظام السياسي، وأشكال الاحتلال، وهذا النوع من الأسئلة التي تفرض نفسها عندما يؤجّل الطرفان الانتصار.
•عارضتم الحرب على العراق لكنكم
كنتم معَ الحرب على أفغانستان،
كيف تفسرون موقفكم هذا؟
إن قرار الدخول في الحرب الذي تم اتخاذه سنة 2001، بمعنى العدالة التي لها ارتباط بقرار الدخول في المعركة (le jus ad bellum) كان مبرَّرا، ليس بحكم السَّبب الذي استدعاه الرئيس أوباما، والمتمثل في إيواء نظام طالبان للإرهابيين؛ لأن العديد من الأنظمة الموجودة في العالم تأوي الإرهابيين وهو ما لا يبرِّرُ الدخول في حرب ضدها، وإذن ما جعل قرار الدخول في الحرب قرارا عادلا، هو الارتباط الوثيق الذي كان قائما بين نظام طالبان وتنظيم القاعدة بداخل شراكة بينهما، بحيث كانت القاعدة تتمتع في أفغانستان بكل ما تسمح به السيادة، بما في ذلك هذا العنصر الحاسم المتمثل في استفادتها من قاعدة ترابية؛ وبالتالي فالقضاء عليها وعلى سندِها السيّاسي كان أمرا مبررا، من هذا المنطلق تحديدا، سنجد أن إدارة بوش قد أقدمت، كما نعلم، على فعل كل شيء ناقص ومعيب؛ بحيث لم تعمل على إرسال العدد الكافي من الجنود، كما أنها أقدمت على حرب بالوكالة، وتحالفت مع سادة الحرب، وأقامت حكومة فاسدة، إلى جانب رفضها سند ودعامة حلف شمال الأطلسي إلا بعد أن صار وقتها متأخرا جدا، كما أنها لم تخصص الموارد الضرورية من أجل إعادة البناء السياسي والاقتصادي للبلد؛ تلك الموارد التي كان يتعين استثمارُها بالنظر إلى ما تسبَّبنا فيه من أضرار، لهذا السبب حتَّى لو كان قرار الدخول في الحرب ( le jus ad bellum) قَرارا عادلا، فإن الأداء أثناء الحرب (in bello) كان مُرعبا ومخيفا، وإذن فالرئيس أوباما، وقد ورِثَ هذه الفوضى، مهما فعل، فإنه فعْلَهُ لن يكفي. إن الإقدام على خوض حرب لمدة 8 سنوات في بلد آخر تُرَتِّبُ عليك مسؤوليات، وبالتالي لا يمكن أن نعود إلى بلدنا بكل بساطة؛ وفي سياق هذه المسؤوليات نجد أن مليوني فتاةٍ ولجْنَ المدرسة في أفغانستان؛ فلو كنا غادرنا البلد، لكان الإغلاق هو مصير هذه المدارس، والعديد من المُدرِّسَات سيكون مصيرهن هو القتل.
كما نجد أيضا البشائر الأولى للحركة النقابية؛ ولو غادرنا، لكان مصير هؤلاء الفاعلين هو الاغتيال أو النفي، وبالتالي لم يكن من الممكن أن نغادر [بالنظر إلى هذه الاعتبارات]؛ غير أنني أشك أيضا في أن سؤال معرفة كيف سَنَبْقى في هذا البلد؟ ولأجل فعل ماذا؟ هو سؤال من المستحيل الإجابة عنه، لكنني مستعد مع ذلك أن أُضيف بريب وقلقٍ، سَنَةً لهؤلاء الجنرالات الذين يرددون على مسامعنا باستمرار؛ أننا أسأنا التصرُّف وهم يعتقدون اليوم، وهم مخطئون في ذلك بنظري، أنهم هم من يعرف القيام بذلك.
• لقد اشتغلتم على مشكلة قريبة وأكثر راهنيةً، هي مشكلة التدخلات الإنسانية؛ فمن يتولى اتخاذ قرار بأن تدخّلًا يفرض نفسه وأنَّه تدخُّل إنساني؟ ومن بإمكانه التَّدَخُّل إذن؟
سأبتدئُ بالإجابة على السؤال الثاني، لأقولَ بأنه من المُهِم التذكير بأن جيشا قويا بحوزته تكنولوجيا متقدمة، كما هو حال جيش الولايات المتحدة الأمريكية، لن يكون ضروريا تدخُّلُهُ لأجل وضع حدِّ لمذبحة أو عملية تقتيل؛ فالفيتناميون هم من وضع حدا للمذابح التي اقترفت في كمبوديا، والهنود هم من وضع حدا للإرهاب فيما يسمى بباكستان الشرقية (بنجلاديش حاليا)؛ كما أن تنزانيا هي التي أنْهَت النظام القاتل لعيدي أمين دادا، فمن من يتعين عليه القيام بالتدخل؟ جوابي هو أن هذا الأمر يعود لمن هو قادِرٌ عليه، وأعتقد بوجوب تفضيل القيام بذلك من قبل الدول المجاورة، لأن الرّاجحَ أن تكون معرفتُهَا أفضل من الدول الأخرى، بما يحدث فعلا على الأرض وبالثقافة الخاصة بالفاعلين، وحيثما لا يكون ذلك ممكنا، كما هو حال في إقليم دافور مثلا، حيث إن قوات الاتحاد الإفريقي لم تتمكَّن من وقف المذابح وعمليات التقتيل، في مثل هذه الحالة أُفضِّلُ أن يتم تقديمُ دَعْمٍ لوجيستي كبير من طرف الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة الأمريكية، أو أن يَبْعَثا ألويةٍ عسكرية من قبلهما.
• وماذا عن الأمم المتحدة؟
نعم، على الأقل إذا كان بالإمكان الاعتماد عليها من أجل التدخل بسرعة وفعالية، والحقيقة أن التدخل الفيتنامي ضد الخمير الحمر أو تدخل الهند في باكستان الشرقية، لم يسمح بهما مجلس أمن الأمم المتحدة.
• بقي السؤال المُتَعلّقُ بالشروط التي تُبَرِّرُ هذا التدخل، ما هي؟
لكي نبتدئ، من الواجب أن تكون انتهاكات الحقوق المدنية على درجة كبيرة من الخطورة؛ فعبر العالم توجد العديد من الأنظمة القاسية والسلطوية، لكن على الرغم من ذلك لا آمل أن يقوم جيش من الجيوش باختراق الحدود الوطنية لبلد من البلدان من أجل وضع حد لنظام من هذه الأنظمة، لهذا السبب لابد أن تكون الأحداث من نفس نظام ما حدث في كمبوديا، ومن نفس طبيعة ما حدث في رواندا أو ما يحدث في دارفور، ودون أن نتحرَّى دقَّة ليست بوُسْعِنا في مثل هذه الموضوعات، نقول إن هذه الحالات تعطينا فكرة عما يكون مطلوبا ومُسْتَلْزما لأجل تبرير تدخل إنساني.
• اشتهرتم بأعمالكم في مجال الفلسفة السياسية التي عملتم فيها على تطوير مفهوم ما تُطلقون عليه اسم «دوائر العدالة»، فبماذا يرتبط الأمر تحديدا؟
لقد اقترحت ما أسميته بمفهوم المساواة المعقدة، وبمقتضاه يجب توزيعُ مختلف أنواع الخيرات الاجتماعية على أشخاص مختلفين لأسباب مختلفة؛ لأن الخيرات الاجتماعية قد تم بناؤها اجتماعيا، عبر سيرورة قوامها التفاعل بين الأجيال، ووهِبَتْ لها عن طريقها بعضُ الدلالات والقيم التي يجب أن يَعكِسَها توزيعُها، وحتَّى نأخُذَ حالة مُمَثِّلة لذلك؛ لننظر في العلاجات الصحية، فاللاَّزُم هو توزيعُها على الأشخاص المرضى، وليس على من يَمتَلِكُون الثروة، وواجِبُ أن يكون هذا التوزيع تبعا للمرض ولدرجة خطورته، فبانطلاقنا من هذا الموقف الذي يبدو صحيحا من الناحية الحدسية، يمكننا النَّظَرُ إلى التربية باعتبارنا هذه المرَّة أيضا لدلالَتِهَا ولقيمتها في هذا الفضاء أو ذاك، فقد دافعت عن أن تكون إحدى الغايات الأساسية للتربية هي تكوين مواطنين وهو ما يستلزم وجوب أن تكون لنا تربية على المواطنة موَّزعة على الجميع عبر سريان عملياتٍ وجريانها بشكل متشابه، ومن خلال منح متكافئ للموارد وهكذا دواليك. لكن علاوة على هذا نريد أن نُربِّي الناس تبعا لقدراتهم على التّعلم، وعلى استخدام واستعمال معارفهم وكفاياتهم بكيفية تكون في نفس الوقت مُرضيةً على الصَّعِيد الشخصي ومُنْتِجَةً على المُستوى الاجتماعي، مما يفرضُ نظام توزيع للتربية والتعليم يكون مختلفا عن ذاك الذي تتطلَّبُه التربية المواطِنة، وهناك فصل في كتاب «دوائر العدالة» يعالج المناصب وفرص العمل المقدمة ضمن الخدمة العمومية أو داخل المهن؛ بحيث يكون توزيعُها بحسب الاستحقاق؛ فنحن جميعا نريد أن يكون الطبيب الجرَّاح بأعلى مستوى ممكن من الكفاءة، وأن يتم شغْلُ كل المناصب بالمستشفى من طرف أشخاص يكونون بأقصى مستوى ممكن من الكفاءة؛ ولهذا السبب فإن الاستحقاق يكون هذه المرة هو المقياس الذي يتم الأخذ والتمسك به وليس المجهودات المبذولة حتى لو كانت مثار إعجاب؛ بحيث لا يمكننا َ منحُ مرشَّح من المرشحين منصبَ طبيب جرَّاح لمُجَرّد حُزْنِه إثْرَ فشَلِهِ في امتحان كلية الطب، وبذات الكيفيَّة نتطلَّعُ إلى أن يتولَّى، في ظل الديمقراطية، المناصِبَ الرسميةَ أشخاصٌ تكون لهم القدرةُ على الفوز بالانتخابات، مما يعني تَمَتّعهُم بالجاذبية واتصافُهم بالإنصات المستمر لمواطنيهم.. إلخ، لكن لو كان الأمر على غرار ما ساد في الاتحاد السوفييتي، حيث النظام الاجتماعي قائم على تركيز السلطة السياسية بيد أولئك الذين يتَمتَّعُون بكل الأنواع الأخرى من الخيرات؛ بشكل يجعلهم يستفيدون من أفضل العلاجات الصحية ومن العُطل الإضافية ومن كل الخيرات الأخرى، لو كان الأمر كذلك لكان هذا النظام الاجتماعي غير عادل، وإذا كان الأشخاص الذين يمتلكون الكثير من الأموال هم القادرون على الاستفادة من أفضل العلاجات الصِّحية ومن أجود تربية وتعليم لأبنائهم، كما هو عليه الحال في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة، عندها سيكون مثل هذا النظام الاجتماعي ظالما بدوره، لأن دوائر العدالة لم يتم الفصل بينها ولم يتم احترام الاستقلالية التي تتمتع بها كل واحدة منها.
• هل يمكنكم أن تشرحوا لنا بأي معنى
دفع كل هذا إلى إدراجِكُم على مستوى
الفلسفة السياسية، ضمن أصحاب النزعة الجماعاتية communautariens، حتى
وإن كان هذا اللَّفظ وذاك التصنيف لا يجدان تَمَامَ الرِّضا في نفسكُم؟
يعود ذلك في جزْءٍ منه إلى حجاجي لصالح الاعتراف بإمكانية أن تكون لخيرات من قبيل التربية والعلاجات الصحية أو الولوج إلى المناصب والمواقع السياسية قيمٌ ودلالاتٌ مختلفة تبعا للثقافات، ومن الواجب أن يكون توزيعُهَا عاكسا لذلك، والمثال المفضَّلُ عندي لأجل عرض وتقديم هذه الفكرة اعتمدتُهُ في نفس الكتاب، يتعلَّقٌ بعلاج الجسد وعلاج النفس؛ ففي العصور الوسطى كان يُنْظَرُ إلى علاجِ النّفس بوصفه أهمَّ من علاج الجسم، وبالتالي أُضفي عليه الطابع الاجتماعي وتمت التنشئة عليه، وكان الناس يؤدُّون ضريبة العُشر، كما تأسست الأبرشيَّات، وكانت المُشاركة أو المناولة إلزامية، بينما لم يكن علاج الجسد يَقينيا، لأنه كان يستند على معرفة محدودة وفي كل الأحوال كان أقل أهمية من علاج النفس، وبالتالي تم حصْرُه في المجال الخاص، لكن منذ ذلك العهد قمنا بإضفاء الطابع الخصوصي على علاج النفس ورعايتها، وهو ما يرجع في جزء منه إلى أننا صرنا نعتبره أقل أهمية، ولاعتقادنا جزئيا أيضا أن الأفراد سيُعنون به هم أنفسهم على نحو أفضل، فكان أن قمنا، على الأقل في البلدان المتقدمة كما هو حالُ فرنسا، بإخضاع علاج الجسد ورعايته للتنشئة الاجتماعية وجعلنا منه نشاطا اجتماعيا، وإذن فبينما كانت القرون الوسطى تثمِّن وتضفي القيمة على الحياة الأبدية، صرنا نحن نضفي القيمة على طول العمر ونُثمِّنُهُ، والعبور من نسق إلى آخر يمثل تغيرا طبيعيا؛ لكن ليس من غير العادل جعل العناية بالنفس وعلاجها موضوع تنشئة اجتماعية ونشاطا اجتماعيا، كما أنه ليس من الظلم إخضاع علاج الجسد والعناية به وجعله موضوع تنشئة اجتماعية، بل أعتقد أن ذلك هوما يشكل عين العدل.
• ومع ذلك يبدو أن وصف مثل هذا الموقف الجماعاتي يثير لديكم ضجرا أو على أقل تقدير يستدعي منكم بعض التحفظات.
أنا جماعاتي معتدل أو أنا صاحب نزعة تعددية ثقافية معتدل أيضا؛ فما يميزني هو انخراطي ضمن هذا الإطار العام الذي يحدِّدُ ويعرّفُ مجتمعا ليبراليا أو اجتماعيا ديمقراطيا؛ إطارٌ يجعل مجتمعا متعدد الثقافات أمرا ممكنا، فأنا أتطلع إلى يكون اليهود والكاثوليك، والسود المعمدانيين، وغيرهم من الثقافات الأخرى حيث تتجَسّدُ القيم، أن يكونوا جميعا قادرين على التمتع بحياة داخلية غنية وأن يكونوا قادرين أيضا على التعايش فيما بينهم داخل الحدود التي يحدِّدُها الانخراط في إطار دستوري ليبرالي والالتزام به.
• لقد كتبتم حول قضية وإعدام
لويس السادس عشر، كيف كان يجب
التعامل مع هذا الرجل؟ هل فعلوا ما كان
يجب فعله عندما أقدموا على إعدامه؟
لقد كتبت دفاعا عن محاكمة لويس السادس عشر وإعدامه في كتاب يحيل أيضا إلى محاكمة شارل الأول في إنجلترا، إن وجهة نظري حول هذه المشكلة، التي تبدو في انسجام مع باقي مواقفي السياسية، هي وجهة نظر الجيوردانيين (girondins) وليست وجهة نظر اليعاقبة (Jacobins)، وبذات الكيفية عندما يكون الأمر متعلقا بالثورة الروسية، أكون في صَفِّ المناشفة (mencheviks) عوِضَ البلاشفة (bolcheviks)، وأنا مدافع عن الديمقراطية الاجتماعية ولست شيوعيا، ويبدو لي أن كل هذه المواقف تربطها صلة قرابة؛ فاليعاقبة كانوا يعارضون محاكمة لويس السادس عشر الذي كانوا يسمونه بـ«عدو الشعب» وقد يكون هذا هو أصل هذه العبارة، فهو، من وجهة نظرهم، ليس طرفا في العقد الاجتماعي، بل هو بالأحرى أجنبي ينتمي إلى تلك الطبقة الدولية المتطفلة والمخادعة والمفترسة المكوَّنة من الأرستقراطيين ومن الملكات والملوك، وبالتالي فهو ليس فرنسيا ولا يمكن تقديمه للعدالة باعتباره خائنا، مثلما كان يأمل الجيرونديون، مادام المواطن وحده هو من بإمكانه اقتراف الخيانة، أما لويس السادس عشر فقد كان عدوا للشعب، وبالتالي لا يمكن حتى سجنه ما دامت خطورته ستظل قائمةً حتى وراء القضبان بسبب كل أولئك الناس الذين ظلوا تحت تأثير خداع ومكر الملكية التي يجسِّدها، مواصلين النضال من أجله، لذلك أوصى اليعاقبة بقتلِه على غرار ما فعل البلاشفة بأسرة قيصر روسيا، لكن دون أن يصل الأمر باليعاقبة حَدَّ اقتراح قتل أسرة لويس السادس عشر أيضا، غير أن الجيرونديين دافعوا عن بداهةِ كونه فرنسيا؛ فالمواطن لويس كابيه Louis Capet الذي كان ذا مقام رفيع ويشغل وظيفة سياسية وعلى الرغم من أن الخيانة قد تم تحديدها تحت حكمه، بشكل يجعله غير مُدانٍ بها (ما دام سيكون من اللاّزم أن يكون هو نفسُه خائنا لعين نَفسِهِ)، فإن هذا التعريف للخيانة ليس بالتعريف المناسب؛ ما دامت الخيانة جريمة في حق البلد، حتى بالنسبة لمن يكون ملكا لهذا البلد، والمؤَكَّد أن لويس السادس عشر قد اقترف هذه الجريمة، فالواضحُ أنه تآمر وتعامل مع الجيوش العدوة التي كانت تعتزم غزو فرنسا، لذلك تطلَّعَ الجيرونديون إلى محاكمَتِه، مُحاكمةً يكون متمتعا في كل أطوارها بجميع الحقوق التي يتمتع بها المواطن؛ بمعنى الحق في أن يتم تمثيله من طرف محامٍ، وإمكانية إحاطته معرفةً بالتّهم المنصوص عليها والموجَّهة ضدّهُ، والحق في استدعاء شهود النّفي بذات الشروط المطبّقة في حالة شهود الاتهام، إلخ. أعتقد أن ذلك هو أنسب ما كان ينبغي القيام به، وهو ما يمثل موقفي من المحاكمات السياسية اللاحقة، أخذا في الاعتبار بهذا الخصوص ما نجم عن محاكمات نورمبورج، فقد كان مجلس الوزراء البريطاني يأمل في وضع لائحة بمائة مجرم من مجرمي حرب النظام النازي، ثم قتلهم رميا بالرصاص بمجرد أن ألقى القبض عليهم، غير أن آخرين، لاسيما الأمريكيين، أصَرُّوا على ضرورة عقد محاكمة لهم وبالفعل شكل الإقدام على ذلك، أمرا مهما، لأنه مثل لحظة فارقة في تاريخ القانون الدولي.
نورمون بايِّرْجون Normand Baillargeon: أستاذ علوم التربية بجامعة الكيبيك بمونتريال في كندا، مهتم بالتفكير فلسفيا في قضايا الراهن، خصوصا قضايا التربية والتعليم.
المصدر:
philosophie Magazine,N°40,Juin2010