عمان الثقافي

عتبة الخطاب المقدماتي في نزيلا قاسْيون

 
صدر للشَّاعر الهواري غزالي عن دار الآن ناشرون بعمان بالأردن، بداية هذا العام 2023 كتاب «نزيلا قاسيون»، وهو مجموعٌ بين الشِّعر والنَّثر، جاء في 190 صفحة تقريبا، في 30 نصًّا، متوزِّعًا بين قصيدة النَّثر والتَّفعيلة والعمودي، مع تقديمٍٍ من الشَّاعر نفسه في أربع صفحات. ويتناول الكتاب موضوعًا في الرِّحلة من بوردو إلى دمشق. وهو كتابٌ يعترف فيه صاحبُهُ مبدئيًّا « أنَّ له عنوانين كُتِبَا في مرحلتين مختلفتين، فأمَّا العنوان الأوَّل والأساسيّ فهو نَزيلَا قَاسْيُون وقد كُتِب حديثًا جدًّا، بينما ِيقول عن العنوان الثَّاني وهو أناشيدُ النُّبوءات المتوحِّشة إنَّه كُتِبَ ما بين 2006 و2008، ونُشِرَ بالجزائر سنة 2009، في شكلِ كتابٍ مستقِلٍّ». يقول: «لم أقصد من إعادة نشرِ هذا العنوان الثَّاني ضمن هذا الكتاب كتخليدٍ جديدٍ للرِّحلة الشِّعريَّة التي عقدتُها آنذاك بين مناطق مختلفة فحسب، وإنَّما أيضًا لأجعَلَهُ كتذييلٍٍ لنصِّ نَزيلَا قَاسْيُون الذي خصَّصتُهُ بالأساس ليضمَّ حيثيَّات هذه الرِّحلة، مع تقديمِ شروحاتٍ مختصرة لمفاتيح الأناشيد التي أوعزتُ إلى نفسي فيها مستكشِفًا بها ومن خلالها غربة الأمكنة».

ومنطلق هذا الكتاب هو رغبة الكاتب في تخليد قبرٍ موجودٍ بقلعة أمبواز الفرنسيَّة التي سُجن فيها الأمير عبد القادر. ولقد كُتِب على شاهد هذا القبر اسمُ «سالم» بمفرده، فدفع هذا الاسم الذي لا يملك نسبًا إلى أن يقوم الشَّاعر بإحيائه من خلال إنجاز رحلة انتهت به في آخر المطاف أمام قبري الأمير عبد القادر بن محيِي الدِّين ومحيي الدِّين بن عربي، وهما اللَّذان سمَّاهُما نزيلا قاسيون، أي الضَّيفان المدفونان على سفح جبل قاسيون بدمشق.

عَتبَةُ الخِطَابِ المُقدِّمَاتِي فِي الشِعْرِيَّةِ الحَديثَةِ:

عندما يستدرك كاتبٌ على كتاب، فإنَّ العادة أن يجعل للنَّص الأوَّل حواشي، أو شروحاتٍ، أو إضافات، إلَّا أنَّ هذا الكتاب، تتحوَّل فيه النُّصوص القديمة كأنَّها شروحات لفكرة هي في الأساس جديدة. فكيف يتحوَّل نصٌّ قديم إلى تذييلٍ لنصٍّ جديد؟ ولعَلّ هذا السُّؤَال مدعاةٌ لطَرْحٍ آخرَ: ألا تُعدُّ مقدّمَةُ هذا الدّيوان بما انطوت عليه من خطابٍ توضيحيٍّ يفّك مغالقَ المتنِ، وجهًا من وجوه الحداثةِ والتجديدِ؟ ألا يعدّ إعادةَ اعتبارٍ للمقدمةِ التي ظلت لعقود ضمن خانة الهامش والثَّانوي؟

للإحاطة بكلّ هذه الإشكالاتِ ارتأينا توضيح أهميّة عتبة المقدّمة وعلاقتها بالمتن الشعري أوَّلًا، ثمَّ تقصِّي هذه المقدِّمة في محاولةٍ لتجسيد رؤيا الشاعر وتوجيه مسار القراءة، تجنُّبًا لنأيِ المتلقي عن مقاصدِ هذا الديوان ودلالتهِ.

إذا اُعْتُبرَ الخِطابُ المُقَدِّماتي لفترة طويلة خطَابًا عرَضيّا هَامشيًّا لمْ يَحْظَ باهتمامِ الدّارسينَ، فإنَّه قد أضحى خلال القرن العشرين مُكَوّنا أساسيّا من مكَوّناتِ «الخطابِ المُوازي» وعتبةً مهّمة في قراءةِ النّص وفكّ مغالقهِ، وهو على حدّ قول سمير السّحيمي، «يمثّل ُ دعامةً قويّة تجعلُ النّص يسيرَ الفهمِ واضحَ الدّلالةِ من جهة، ويؤدِّي دورًا مميّزًا في (توجيه) فعل التّلقيِ وتجويدِ قراءةِ النّصِّ من جهة أخرى.

وقد اهتم جيرار جنيت (Gérard Guenette) بهذا المبحث اهتماما عميقًا ودرسَ مميِّزاتِهِ وأشكالَ حضورهِ ووجوه الاختلافِ بينه وبين سائر مكَوّناتِ الخطابِ الموازي ومن أشهرِ أنواعِ المقدّمات الأكثر اعتمادًا في النصوص نذكر «المقدّمة الأصليّة» (Auctoriale) وهي تحضر عادة في الطَّبعة الأولى لكلّ منجزٍ إبداعيٍّ وقد تكون من وضعِ المؤَلّفِ نَفسهِ فتُسمّى مقدِّمة ذاتية. فإذا وُضِعت من قبل النّاشرِ أو أحد الأدباءِ الذين لهم صيتٌ ومكانةٌ بين جمهور القُرّاء فتكونُ بذلك «مُقَدّمةَ غيريّة»(Allographe)، ونجدُ أيضا «المقدّمة اللاّحقة» (Ultérieure) وتكون في الطَّبعةِ الثَّانية أو الثَّالثة للكتاب وغايتها إمّا الإجابة عن تساؤلاتِ القرَّاءِ أو تعديل موقفٍ أو مراجعة أشياء غابت عن ذهن المؤلّفِ في الطّبعةِ الأولى.

غير أنّ ما يعنينَا هنا هو السُّؤال الآتي: لماذا تُوضعُ المقدّمة في مفتتحِ الدِّيوان الشعرّي؟ إنَّ القصيدةَ ليستْ نصّا هيّنا وإنّما هي فضاءٌ يختزل انتظاراتِ الشّاعِر ورؤاهُ، ولهذا كان لزَامًا توفرُّ عتبةٍ تفَسّرُ ملامحَ الرُّؤيا وتهدي القارئ حتى لا يضيعَ في متاهات التُّأويل وعوالمِ الاحتمالِ، كان لابُدَّ من حضورِ خطابٍ مُساعِدٍ يُعاضدُ عمليّة القراءة ويُوجّه المتَلَقّي. ولنَا في مقدّمة ديوان «أناشيد النُّبوءاتِ المُتَوحّشّةِّ» أو «نَزيلاَ قَاسيُون» كما عنونَهُ الشّاعرُ الهُواريِ غزاليِ في طبعتهِ الثّانية خيرَ دليلٍ على سعيِ الشَّاعر نحو ربط وشائجَ معرفيةً بينَهُ وبينَ المُتلقيّ من خلالِ المُقدّمةِ التي افتتح بها ديوانه والتي مثّلت عقدا وميثاقًا بين شاعِرِ بدا أشبهَ برَحَّالةٍ يجوبُ البلدان باحثًا عن حقيقة الوجودِ ومعناه وبين قارئٍ يتطلّعُ إلى أن يعيشَ مغامرة السفرِ بينَ ثنايا هذا الديوان الذي يمنحُ شعرًا ورؤيا وشعورًا.

الخطابُ المُقدّماتي

إنَّ المُطّلعَ على ديوانِ «نَزِيلا قاسيُونَ» يُلاحظ منذ الوهلةِ الأولى أنّ صاحبَ الدّيوانِ صَدَّر الطّبعة الثانيّة بنَصٍّ شعْريٍّ يُمهّدُ منذُ البدايةِ إلى موضوع المتنِ الشّعريّ ومضمونه وهو الاحتفاء بروحين جَمعَ بينَهما التّصوفُ والقدرُ أيضا فالتقت روحيهما في جبل قاسيون بدمشق وهما مُحييِ الدّين بن عربي وعبد القادر بن مُحييِ الديّن، فالشّاعرُ منذُ البدايةِ يُكاشفُ القارئ بنوايا الكتابة وتوجهاتها وهو ما يتضّحُ جليّا في المقدّمة التي عنونَها بــ «وصلٌ بلا فصلٍ».

في هذه الصّفحاتِ يقصّ الشاعرُ على القارئِ رحلة سفرهِ من بوردو إلى دمشق، فبين «بو» و«أمبواز» و«دمشق» التي رسا على أعتابها الشَّاعرُ ترتسمُ أمامنا الأمكنة بأسرارها وعظمتها وتاريخها فيجد القارئ نفسَه متأرجحًا بين الشِّعر وأدب الرِّحلة وتاريخ الأمكنة والأزمنة.

وقد اعترفَ الشّاعرُ في مقدّمة الطبعة الأولى قائلا: «كان عبد القادر بن محيي الدّين عينٌ مفتوحةٌ على رُؤاي»، فهذا الاعترافُ يَشي بما لهذه الشخصيّة من مكانةٍ مهمّة حفزّت الشّاعر على اتِّخاذهِ مُلهمًا لكتابة أولِ ديوانٍ شعريٍ لهُ، إنّ نصوصَ هذا الأثرِ أشبهُ برحلةٍ روحيّةٍ صوفيّةٍ تقَصّى فيها الشّاعرُ أفكار هذه الشخصيّةِ وأخبارهَا هي رحْلةُ البحثِ عن المعنى الذي يَتَقصّاهُ الشاعرُ في أمكنةٍ عديدةٍ عساهُ يظفَرُ بتلك المعرفةِ التي يرجوهَا.

كما أشار الهواري غزالي في هذا الخطابِ المقدّماتي الذاتيِّ إلى حضور الرّفيقِ المؤنسِ في السّفرِ وهو تقليدٌ سادَ في الشعر العربيّ القديمِ غير أن الأمر هنا مختلفُ فالشّاعرُ لا يَصطَحبُ الأحيَاءَ في رحْلتهِ وإنّما يَستأنسُ بأرواح الميّتين مُقِرَّا بأنّ « الأماكنَ تحيَا بالأمواتِ لا بالأحياءِ فقط»، فقد سعَى فيِ هذا الكتاب إلى تخليد الموتى بالشِّعر مثل سالم الذي مثَّل موضوع إهداء هذا الكتاب فهو كان خادمًا للأمير الإدريسي وكان قد كُتبَ على قبرهِ الاسمُ دون ألقابٍ أو انتماءاتٍ فأراده الشّاعر أن ينتمي إلى مملكةِ الشعرِ ويخلد فيها. أو مثل الأمير نفسه من خلال أحلامه التي كان يقف فيها عليه بن عربي، فالتَّتلمُذُ على يد الشَّيخ، لا يقتضي أساسا تلازم الأجساد بقدر اقتضاء ذلك تلازم الأرواح، وإنَّ الأسفار لولاها ما تجلَّى العرفان بالإسفار عن ذاته للأمير وهو يطلبُ الرُّقاد إلى جنب بن عربي، ولولا الغربة ما عُرِفَت قاسيونُ عندهما، فهي كما يقول الشَّاعر كأنَّها أرضُ محشرٍ تأتي إلى ربِّها بمفردها يوم العرض.

كما يتوقّفُ بنا الشَّاعر في خضمّ المقدّمة عند دمشق، ويطيلُ المُكوثَ بها، فهذا المكانُ هو محضنُ تجربته الإبداعية، ففيها توقّف عند اسمين سامقين في عوالم الفكر والتّصوّف والتاريخ، فكان سفرُهُ إليها على حدِّ قولهِ: «يُشبهُ من يكتشفُ في داخلهِ جانبًا خفيًّا لطالمَا كانَ يحْتَفيِ بهِ دونَ أنْ يَعْلَمْ» كما يرْتَحلُ بنَا صاحبُ «نزيلا قاسيون» إلى فضاء الأسطورة فيتلبّسُ الشعرُ بالميثولوجيا ويمتزجُ الدّينيُّ بالشعريّ وهو ما نستشفهُ من خلالِ قصّة هابيل وقابيل واشتقاق تسمية دمشق من «دمٍ شُقَّ» في جبلِ قاسيون، وحكايةُ الحجَرُ الأحْمرِ التي تُخلدُ تاريخ هذه المذبحَةِ.

إنَّ وجهَ الطَّرافةِ في مقدّمة نزِيلاَ قَاسيُون هو أنّهُ ينتقلُ بنا بين غرضِ الكتابةِ وقصّةِ الأمكنةِ ورؤيَا شاعرٍ ويتوقفُ بنا عند أسماء واقعية فكأنه أراد أن يقول كُلّ شيْءٍ منذ البدايةِ تاركَا للقارئِ حُريّة الترحالِ والاستمتاعِ بما ترسُمهُ هذه البدايةُ من أفقِ انتظارٍ يُشوّقُ القارئَ ويرَغّبهُ في الإقبالِ على قراءة المتنِ بشغَفٍ.

إنَّ الخطابُ المُقَدّماتي في هذا الدِّيوان هو خطابٌ ترغيبيٌّ تحفيزيٌّ، ويُدَعّمُ ذلكَ ما ورَدَ في مُقدّمَةِ الطَّبعَةِ الأولى التي بدَتْ مُقدّمة تقريظية، فيها أشارَ الشّاعرُ إلى فحوى الرّحْلةِ وجوْهرهَا قائلاً: «كَانت رحْلتيِ ما يُشبهُ اختصار حياة الأمير إلى مُفرَدةٍ واحدَةٍ، الزّمن». فكأنَّ هذه التّجربة الشعريّة ترنو إلى تخليدٍ أسمَاء تناستها المجتمعاتُ وإلى إحياء ذكراها وتاريخِهَا لتبقى حيّةً راسخةً في ذاكرةِ كلّ قارئِ نَوْعيٍّ. فدمشقُ هي «سدرةُ منتهَى» رُؤى الشّاعر في هذا الدِّيوان ولكنّها مثَّلت في جزئها الأوَّل نقطةَ البداية في مسارهِ الإبداعي وكتابتهِ الشّعرية التي بدت مُتَحرّرة من أصفادِ المعتادِ والمتواتر.

إنّ خطابَ المقّدمة في هذا الديوانِ جاء جامعًا لرؤيا الشاعر وأفكاره وهواجسهِ وعواطفهِ فهو إضافة إلى إخبار القارئ بظروف نشأةِ هذا الدِّيوان، يبوحُ بكلّ ما حفّ بالتَّجربةِ الشعريّة وما سبقها، فيقرِّب المسافة بينه وبين المتلقي، ويحملنا على أجنحةِ التَّساؤلِ والدّهشة علّنا نبلغ معهُ الحقيقةَ المرجُوّةَ، ونسافر معهُ عبر الأمكنةِ والأزمنةِ والشَّخصياتِ إلى جَماليّةٍ مخصوصةٍ تُمليها شعريّة الحداثةِ أو حداثةُ الشِّعر. وإذا كانت تجربة الهواري غزالي الشعريّةُ قد توحدّت بين أجناسٍ أدبيّة مختلفةٍ في هذا الكتاب، فإنَّه يكون قد دعا من خلالِ استعادةِ ذكرى الأسلافِ واستئنافِ رحلتهم في هذا الدّيوان، إلى توحيد الرِّحلة بين جزأيها الحسِّي والرُّوحي في قناعةٍ منه بأنَّ إحياءَ الميِّتِ وتخليدَ فكرهِ وتاريخهِ إنَّما أيضًا كي لا يموتَ الحيُّ فينا.

للتَّذكير، فإنَّ الهواري غزالي مترجم أيضًا وأستاذ محاضر بقسم الدراسات العربيَّة بجامعة باريس وباحث بمركز الدِّراسات الأدبية العالميَّة بالإينالكو بباريس. صدرت له دواوين شعرية أخرى قلبٌ لا يُحسِن التَّصديق سنة 2013 ببيروت، وللبحر صوت آخر على جسر ريالتو سنة 2020، وكتاب الغبطة المتَّصلة سنة 2022، بدار الآن ناشرون، عمان، كما صدرت له ترجمات شعرية إلى العربيَّة للشَّاعر الفرنسي جون بول ميشال من بينها ديوان هذا الحظ وهذه النَّار عن دار توبقال للنَّشر سنة 2008 بالدَّار البيضاء، كتاب الحماسة عن هيردريلين 2010، وتأمُّلات إيطاليَّة 2011. وهو إلى جانب كونه مهتمٌّ بالدراسات النَّقدية الشِّعرية لاسيما مع إصداره كتابا عن تاريخ الشفهية العربية باللغة الفرنسيَّة، فإنَّه يشتغل حاليا على تحقيق الدواوين الشِّعريَّة القديمة التي اهتمَّت بغرض الصَّنعويات أو السِّلامات وهو غرض مديح صناعة الخيمياء، من بين هذه الدواوين المحقَّقة ديوان شذور الذَّهب لابن أرفع رأس الجيَّاني، وديوان قراضة العسجد للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، وديوان سلاسل النُّضار لصلاح الدِّين الكوراني الذي سيصدر قريبا صدرت له سنة 2019 دراسة عن مترجمة القرآن الفرنسية دونيز ماسون ومؤلَّف آخر عن طه حسين قام بنشرهما معهد العالم العربي بباريس ومؤسسة جائزة الملك فيصل بالرِّياض.

إيمان منصوري باحثة بجامعة تونس